المملكة ترأس أعمال الدورة العادية الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    الأخضر يبدأ استعداده لمواجهة اليمن ضمن خليجي 26    اختتام أعمال منتدى المدينة للاستثمار    النفط يتراجع بسبب مخاوف زيادة المعروض وارتفاع الدولار    السعودية تنظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني فبرايل المقبل    لاجئو السودان يفرون للأسوأ    الجامعة العربية تعلن تجهيز 10 أطنان من الأدوية إلى فلسطين    تطوير واجهة الخبر البحرية    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    إصدار النسخة الأولى من السجل الوطني للتميز المدرسي    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    مشروعات علمية ل480 طالبا وطالبة    "كايسيد" يعزز من شراكاته الدولية في أوروبا    جيش الاحتلال ينتهك قواعد الحرب في غزة.. هل يُفشل نتنياهو جهود الوسطاء بالوصول إلى هدنة ؟    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    إن لم تكن معي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام دين ودولة ولكن ... هل يجوز أن نوظفه في الصراع على السلطة ؟
نشر في الحياة يوم 07 - 09 - 2000

ما يجرى في السودان وايران، على خطورته بالنسبة لمستقبلهما السياسي، لا تقتصر اهميته عليهما وحدهما، وإنما يمثل قضية الساعة في العالم الاسلامي المعاصر.
فقد وصلت المشكلة الى ضرورة تحديد وحسم طبيعة العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية ضمن النظام "الاسلامي" الحاكم وبين الحاكمين فيه باسم الاسلام داخل الدولة "الاسلامية" ذاتها بنظامها المعلن، ولم يعد الامر خلافاً فكرياً نظرياً بشأن الدين والدولة في الاسلام: ان كانا منفصلين او متصلين، كما لم يعد صراعاً استقطابياً مبسطاً باللونين الابيض والاسود بين اسلاميين من جهة وعلمانيين من جهة اخرى يريدون فصل الدولة عن الدين، كما يبدو الامر في اقطار اسلامية اخرى.
ان التفاؤل بانتشار تيار العودة الى الدين شيء، والنجاح الفعلي في استمرار دولة اسلامية جديرة بحمل هذه الصفة شيء آخر. فالسياسة ليست عملاً خيرياً تحفزه الفضائل الدينية والنوايا الطيبة وحدها، ولا بد من اعمال فكر سياسي تحليلي ونقدي متحرر من العواطف لتحديد مواصفات النجاح السياسي لهذه الدولة في الداخل والخارج. وعلينا ان نتذكر ان اول سيف سل في الاسلام كان على مسألة الامامة ولا نتصور ان اسلاميي السلطة اليوم يريدون تكرار تلك "الفتنة". واولى تلك المواصفات اللازمة للنجاح: "تمييز" السياسي عن الديني في ادارة عملية السلطة وممارستها في قمة هذه الدولة التي تحتاج الى "فصل" او تمييز مستقر بين "السلطات" ربما اكثر من الدولة العلمانية الحديثة التي تسيرها السلطة التشريعية في الغالب. وهي السلطة المنتخبة من نواب الامة التي تعتبر في المفهوم الاسلامي سلطة شورى لا سلطة تشريع، حيث التشريع راجع للشريعة المقررة. وحتى باعتبارها سلطة شورى فإنها معرضة للتحجيم كما حدث مؤخراً لمجلس الشورى الايراني، امام سلطة المرشد أو "الولي الفقيه".
ولادراك خصوصية الاشكال السياسي في الاسلام لا بد ان نقرر بداية ان الاسلام دين ودولة، هذه حقيقة لا بد من اقرارها وتجاوز المجادلة العقيمة بشأنها، وان يكن الاسلام - كرسالة - نظاماً اوسع وارحب من دولته التي تشكل حيزاً من نظامه لكنها ليست هي اياه، شمولاً واتساعاً. واذا كان "العلمانيون" يحرّفون حقيقته من ناحية، فإن دعاة الدولة "الشمولية" في الاسلام يحمّلون في الواقع مفهومه السياسي ما لا يحتمل.
ان ما يجب ان يدركه الفكر السياسي في الاسلام، والفكر الاسلامي بعامة، هو ان تمييز السياسي عن الديني - وليس الفصل التام بينهما بالضرورة - يمثل حاجة عملية ملحة لادارة اية دولة أكانت اسلامية ام علمانية ام غير ذلك من اشكال الدولة، وهي حاجة يفرضها منطق وطبيعة السلطة البشرية في تعاطي السياسة، ايّاً كان الدين المتبع وان يكن الاسلام ذاته بما هو مقرر فيه من اتصال بين الدين بالدولة. ف"اسلامية" الدولة لا تعفيها من مواجهة هذه الاشكالية بل تفرض عليها اكثر من غيرها إقامة هذا "التمييز"، وذلك بحكم التزامها بقيم وثوابت دينية في اهدافها وغاياتها العليا تجعلها احوج ما تكون - بعد تأكيد اسلاميتها - الى التمييز الجلي الواضح بين السياسي والديني على صعيد ممارسة السلطة والتنافس عليها وتناولها في نظامها السياسي، كي لا تختلط ثوابت العقيدة بمتغيرات السياسة وخلافات السلطة ولا تتحول الخلافات السياسية الى خلافات وصراعات دينية كما حدث في نشأة المذاهب والفرق الاسلامية منذ صدر الاسلام الى الآن، ولئلا يستولي المستبدون والمتسلطون على رقاب المسلمين وارزاقهم تحت تسميات مثل خليفة اللّه وبيت مال الّله والمصطلح في حقيقته لا يعدو كونه خليفة المسلمين وبيت مال المسلمين... هذا اذا قبلت الامة لهم بهذا التفويض وهذه "الولاية" المشروطة غير المطلقة.
لقد أثبتت احداث "الفتنة الكبرى" في صدر الاسلام ان المسلمين - ومعظم قادتهم وفقائهم السياسيين - لم يتمكنوا من وضع ذلك التمييز الدقيق الذي سار عليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم في نهجه بين ثوابت العقيدة التي لم يتزحزح عنها قيد انملة، وبين متغيرات السياسة التي تعامل في ضوئها مع الواقع السياسي بقدر كبير من المرونة التي اتصفت بروح التسوية والعطاء والاخذ ومراعاة "الآخر" السياسي: يهودياً كان هذا "الآخر" او "منافقاً" او اعرابياً - كما بعد الهجرة الى المدينة، ام قرشياً لم يحسن اسلامه. حتى بعد "الفتح" - فتح مكة - ودخول الناس في دين اللّه افواجاً. أعني ان المرونة السياسية - في مقابل الثبات العقائدي - بقيت نهجاً نبوياً حتى عندما بلغ الاسلام اقصى قوته في جزيرة العرب بعد فتح مكة، ولم تكن هذه "المرونة" مجرد قبول بالامر الواقع في بدايات دولة المدينة يثرب.
الا ان التجربة السياسية للمسلمين بعد عهد النبي، لم تستطع إقامة ذلك الميزان الذهبي النبوي الحكيم في التمييز الحصيف بين السياسي والديني، وتقنينه فقهاً ومعاملةً. ومن اوضح الشواهد على اخفاقها تحول الخلافات في الرأي السياسي الى اختلافات مزمنة ومتوارثة في المذاهب الدينية بين المسلمين، والاقتتال الدموي باسم "الايمان" و"الكفر" بدل تمثل الامر على حقيقته كتباين طبيعي بين سياسة وسياسة، وبين سلطة وسلطة على الصعيد البشري الاجتهادي لصياغة السياسة وتداول السلطة، وكان الاخفاق في إقامة هذا التمييز من اهم الاسباب في افول الخلافة الراشدة بعد زمن قصير وتحول الامر الى "ملك عضوض" بعد "فتنة كبرى" ما زالت تقسم المسلمين اشياعاً ومذاهب.
ان اشارتنا الى تجربة البلدين المذكورين - السودان وايران - وانطلاقنا المبدئي منهما يعني العالم الاسلامي كله، ولا ينحصر في رقعتهما الجغرافية والسياسية المتباعدتين في ما بينهما موقعاً، والمتباينتين مذهباً وذلك ما يجعلهما في الواقع عاكسين لالوان الطيف المذهبي والسياسي للاسلام على تباينه.
هذه "الصورة الجديدة" في عالمنا الاسلامي - وان تكن قديمة كما تبين قدم الفتنة الكبرى في صدر الاسلام - للصراع بين "اسلاميي" السلطة انفسهم تستدعي مراجعة وتصحيح الفكرة الشائعة وهي ان جوهر الصراع السياسي الراهن منحصر بين اسلاميين من جانب وعلمانيين من جانب آخر، يحاربونهم ويعملون على ابعادهم عن مراكز السلطة كما تردد ادبيات الحركات الدينية.
ان الصراع الطبيعي والتاريخي بين الاسلاميين والعلمانيين قائم وسيتواصل بطبيعة الحال، غير ان الصراع الآخذ في الاستفحال بين الاسلاميين الحاكمين انفسهم هو الذي يتطلب المعالجة ووضع الضوابط ان اريد للمشاريع السياسية الاسلامية قيد التطبيق، وللقوى الاسلامية التي تسلمت السلطة باسمها ان تسهم في تطوير مجتمعاتها وتقديم النموذج القدوة لامتها - بحسب ما يطمح اليه مثلاً الرئيس خاتمي في دعوته الى الموازنة بين النظام الجمهوري الديموقراطي والنظام الاسلامي في التجربة الايرانية. والاهم من ذلك نجاح هذه المشاريع في تجنب ويلات الاقتتال السياسي الملتبس والمتلبس بالدين الذي دفع المسلمون ثمنه الباهظ منذ فجر تاريخهم، وجعل من السياسة وفكرة الدولة اضعف الحلقات واكثرها بؤساً في تاريخ الحضارة الاسلامية المتألقة في جوانبها الاخرى يراجع كتاب المؤلف: العرب والسياسة اين الخلل؟، كما ادى بالنتيجة الى محاولة بعض المسلمين المحدثين فصل السياسة والدولة عن الدين ما امكنهم ذلك، تفادياً لما جلبته السياسة المتلبسة بالدين من فتن عاتية ما زالت تقسمهم - دينياً وليس سياسياً فحسب - فرقاً ومذاهب بدأت في زمنها رأياً سياسياً، وانتهت عبر العصور الى عقائد مذهبية ثابتة لا تقبل الجدل وتؤدي الى إراقة الكثير من الدماء.
وقد اتضح الآن ان الاسلام ليس تعويذة سحرية تعلق للتهرب من اشكالات السلطة والصراع عليها بين الاسلاميين الحاكمين انفسهم، ولا بد من مواجهة الامر بفكر سياسي غير ملتبس بالعواطف الدينية التي سرعان ما تحول المعارضة السياسية الى دعوة للجهاد ضد الفصيل الآخر في السلطة "الاسلامية" او الحكم بفسقه او علمانيته او تسميته "فرعوناً" كما اخذ الدكتور حسن الترابي - على سبيل المثال - يشير الى حلفائه السابقين في السلطة ويصفهم بشكل تبسيطي وتحريضي انهم "ضد الاسلام"، نفهم انه ثمة رأي سياسي ضد رأي آخر في جبهة السلطة اما ان يزج بالاسلام كله في الخصومة فذاك من باب الاعداد لفتنة جديدة!
ولتصحيح خلفيات هذه الاشكالية لا بد من القول إن فكر النهضة الحديثة في الاسلام قد اضاع وقتاً طويلاً وجهداً اكبر في المجادلة حول ما اذا كان الاسلام ديناً ودولة، ام انه دين لا شأن له بالسياسة... هذا الطرح الخاطئ للاشكالية السياسية الخاصة بالاسلام - فالاسئلة الخاطئة لا تأتي بالاجابات الصحيحة - ادى الى تغييب مكمن الداء في هذه الاشكالية ذات الخصوصية في السياسة الاسلامية، وهو الخلط المخل المزمن والذي لم تتقرر حدوده بجلاء وحسم في الفقه السياسي للاسلام، بين الالهي والبشري وبين الديني والسياسي في صميم تكوين الدولة الاسلامية ذاتها - منذ الخلافة الاولى - وخصوصاً في ما يتعلق بعملية ممارسة السلطة وتداولها والتنافس الطبيعي بين قوى المجتمع السياسي على نيلها او تقاسمها ان لزم الامر، هذا على رغم ان القرآن الكريم يشمل بجلاء مبادئ هذا التمييز بين مفهوم "الحكم" الالهي و"الامر" البشري، راجع كتاب: التأزم السياسي عند العرب وموقف الاسلام للكاتب.
هكذا فالاشكالية السياسية في الاسلام ليس ان كان ديناً ودولة، فالاسلام دين قبل كل شيء بالتأكيد، ولكن للدولة في إطاره الاشمل حيزها المحدد الذي لا يمكن موضوعياً انكاره في ضوء حقائق الاسلام. الاسلام - اذاً - دين ودولة ولكن كان يتوجب على الفقه والفكر السياسي الحديث في الاسلام وضع "نظرية التمييز" ومنهجه بين الديني والبشري داخل هذه الدولة، بدل الاقتصار على خوض المجادلة للرد على العلمانيين في فصلهم الدين عن الدولة، وهو "فصل" لم يتقبله الضمير الاسلامي العام كما ان دعاته لم يتمكنوا من تقديم حجج كافية نابعة من مرجعية الاسلام ذاته لاثبات فرضيتهم. ونحن هنا في هذا المبحث الوجيز نعرض لخصوصية الاشكالية السياسية في الاسلام كما نراها - بحثياً ومعرفياً - من دون الانحياز ايديولوجيا لاي طرف، مستخدمين مصطلح "التمييز" بين السياسي والديني، لا الفصل القاطع بينهما، فالفصل ابعد عن طبيعة الاسلام، اما التمييز فلا غنى عنه لاستقامة السياسة والدولة وذلك كما اسلفنا من واقع التمييز القرآني الجلي بين "حكم" الّله الذي هو قضاؤه وشرعه وبين "امر" البشر الذي هو شأنهم الدنيوي - وقد امر الّله ان يكون شورى بينهم في نطاق التعامل السياسي وممارسة السلطة. وليس من حق اي حاكم او ولي او فقيه ان ينقض هذا الامر الالهي.
وذلك ما يكشف الحقيقة المزدوجة للدولة الاسلامية التي ينبغي ان يوليها الفكر والفقه السياسي في الاسلام جل عنايته، لايجاد المعادلة المتوازنة بين العنصرين المختلفين: الالهي في مقابل البشري، والديني في مقابل السياسي في صميم تكوين هذه الدولة.
ان الدولة الاسلامية ليست دولة دينية بالمعنى الحصري للكلمة، كما انها ليست دولة بشرية بالمعنى المطلق وهنا ازدواجيتها او ثنائيتها ان جاز التعبير... فهي محكومة بتعاليم الّله وشرعه، ولكن السلطة فيها للبشر من المسلمين عامة، وليس لرجال الدين خاصة، كما ان صلاحية "تفسير" التعاليم والشريعة منوطة في النهاية باجماع الامة اي بمدى فهمها واجتهادها الانساني في عصر من العصور وليست حكراً على "سلطة" دينية معينة او "مفوضة" حيث لم تكتسب اية سلطة من هذا النوع مشروعية عامة في تاريخ الاسلام، ولم تعط "تفويضاً" مجمعاً عليه لاحتكار الامر من دون الامة، ونرى اليوم حتى في الاسلام الشيعي ذاته - حيث للفقهاء سلطة متوارثة - نرى اليوم نزعة جادة لاقامة "ولاية الامة" كما في فكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين عوضاً عن اية "ولاية" اخرى لا تسد مسدها.
هذه الازدواجية التكوينية في اية دولة اسلامية ستبقى من معالم الحياة السياسية للمسلمين، وعليهم ادراكها على وجهها الصحيح، وإقامة التوازن السليم بينها، لان الخلل لصالح اية كفة لن يجعل منها دولة "اسلامية" بالمعنى الدقيق والسليم فان رجحت كفة رجال الدين واصبحوا اوصياء على السلطة والسياسة اصبحت هذه الدولة دولة "ثيوقراطية" اقرب الى ديكتاتورية الفقهاء او كما كانت الدولة البابوية في اوروبا. اما ذا سيطر السياسيون المحترفون وحدهم على السلطة من دون اعتبار لمرجعية الاسلام تحولت هذه الدولة الى دولة "علمانية" ثبت حتى الآن ان الضمير الاسلامي لا يتقبلها لانها بلا مشروعية مستنبطة من الاسلام ذاته.
هكذا فان مطلب التمييز الجلي الواضح بين الديني والسياسي في الدولة الاسلامية ليس ترفاً فكرياً، خصوصاً اذا تأملنا في ما يجرى اليوم بين اطراف السلطة والحكومة "الاسلامية" ذاتها في كل من السودان وايران، وما قد يتعرض له اي بلد عربي او اسلامي آخر وذلك باقتتال الاسلاميين انفسهم على السلطة.
ولعلها من مفارقات التاريخ اليوم ان الامر احتاج الى تمييز بين الديني والسياسي في المجتمعات الاسلامية عندما قامت انظمة اسلامية بالذات وتسلّم "الاسلاميون" السلطة، وليس قبل ذلك في ظل الانظمة المختلطة الاخرى ذات الطابع المغاير.
وواقع الامر انه لم تتمكن المجتمعات البشرية كافة، على اختلاف اديانها ونظمها، من تجنب ازدواجية الديني والسياسي وتصارعهما في تجاربها التاريخية، الا ان كل مجتمع منها عالج هذه الازدواجية بالنهج المتناسب مع طبيعة دينه وحضارته وتاريخه. اذ ان عملية ممارسة السلطة، وتنازعها، وتداولها في الاجتماع السياسي للبشر، بعامة تتطلب من اجل تنظيمها وحسن إدارتها وضع قواعد وضوابط خاصة بها، بما يمنع تلبسها بالعقائد الايمانية المطلقة او تلبس هذه العقائد بها، ويحول دون استغلال الدين في الصراع السياسي على السلطة، اياً كانت طبيعة الدين الذي يجرى استغلاله وحتى لو كان كالاسلام ديناً ودولة.
ان الايمان ينتمي الى عالم المطلق والثابت ويتخذ طابع الرفض الدائم لما يناقضه، اما السياسة فإنها بالضرورة فن النسبي والمتغير والقابل للتسوية. ولا بد من مواجهة حقيقة هذا الاختلاف بين العنصرين، بما في ذلك على الصعيد الاسلامي بل على الصعيد الاسلامي خاصة!! ولا تستقيم الحجة، حيال هذا الامر، بتكرار القول هنا ان الاسلام يتميز عن غيره. نعم ان الاسلام يتميز عن غيره في كثير من الامور، ولكن تجارب التاريخ السياسي للاسلام ذاته تكشف لنا خطورة الخلط بين الايمان المطلق الديني وبين السياسة المتغيرة. لقد اختلف المسلمون منذ سقيفة بني ساعدة بالرأي، ثم اختلفوا في حروب الفتنة بالسلاح، لكنه كان في وقته اختلافاً "سياسياً" محضاً بشأن السلطة وتوجيه السياسة، ولم يختلف المسلمون اختلافات دينية تذكر في تلك الفترة على الصعيد الاعتقادي.
فما الذي جعل ميول السياسة في حينه تتحول الى مذاهب العقيدة في كل العصور غير خلط الايماني الديني المطلق بالسياسي المتغير؟ هكذا انقسم الاشياع السياسيون لكل صحابي الى مذاهب دينية ثابتة متوارثة الى يومنا هذا بين سنة وإمامية وزيدية واباضية... الخ.
لقد اصبح الانقسام السياسي التاريخي الطبيعي في حينه، انقساماً دينياً مزمناً وغير طبيعي الى يومنا هذا يقسم المسلمين مذاهب وطوائف وسوف يحتاجون الى وقت طويل من التطور والتقدم ليتمكنوا من التقريب بينها، حتى لا نقول تجاوزها.
وذلك يتطلب وقفة اخرى، ضمن وقفة المراجعة هذه لتجربة الاسلاميين المعاصرين في تسلم السلطة والدولة، وصولاً الى وضع نظرية اسلامية جديدة في تمييز السياسي عن الديني لصالح تجربة الاسلام في الحكم بشكل عملي وايجابي قابل للاستمرار وغير معرض لاعادة انتاج "فتن" جديدة...
* مفكر بحريني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.