كائناً ما كان الرأي بانتصار رفيق الحريري الصاعق، وبدور المال فيه، وبمسؤولية السلطة عنه، لا بد من التعامل مع الانتصار هذا كأمر واقع. عكس ذلك يعني فتح أزمة دستورية على مصراعيها، وفتحها، ربما، على أزمة طائفية. لكن الحريري العائد رئيساً للحكومة، او عرّاباً لأي رئيس حكومة، هو ما ينبغي الوقوف في وجهه، وصدّ الخطر على الديموقراطية الذي يمثّله ككتلة مالية - سياسية بالغة الانتفاخ. فكيف في ظل نتائج انتخابية تتيح لميله الاستئثاري ان يستفحل؟! بيد ان مقاومة الحريري لا بد ان تتعلّم من تاريخ الكرّ والفرّ معه على مدى السنوات الست من رئاسته الحكومة. فقد تبين في تلك الغضون، كما تبين بعد ذلك، ان المعارضات للحريري كانت باستمرار متخلّفة عنه وعما يمثل وانها، بالتالي، لم تفعل غير تعظيم حجمه ووزنه على ما سجّلت الأرقام الأخيرة. فالمعارضة الحِرَفية التي تواجه التقدم بالعودة الى الوراء، وتواجه العولمة بالمحلية، لم يكن حظّّها افضل من حظ المعارضة الصبيانية في ظل شعار "الذاكرة". فالاثنتان، وهما متصلتان، لا تغفلان فقط عن محاكمة الحرب وقواها وميليشياتها بل تعجزان عن تقديم اي اقتراح في ما خص المستقبل. وحين تُترجم هاتان المعارضتان الى اقتصاد، ينتهي الأمر بكاءً على أطلالٍ كان بدأ تعميرها مع حكومات الحريري! والشيء نفسه يمكن قوله عن معارضة الحريري بالعسكر. وهي خطيئة ما كان ينبغي ان ينزلق اليها بعض من اعتنقوا الديموقراطية في نصف الساعة الاخيرة. لكنْ اذا كانت معارضة كهذه تنطوي على تهديد للحياة السياسية، فان معارضة الحريري بالمقاومة لا تقل تهديداً هي الاخرى. فهذه، بدورها، تحرّك وحشاً مذهبياً فيما تجعل الحياة السياسية والتوازنات الاهلية، بل حدود الوطن، مشاعاً مفتوحاً على الخراب المطلق. اما المعارضة بلبنان 43 فهي، بدورها، تحرّك وحشاً طائفياً بينما تتوهّم الارتداد الى الحنين والاقامة فيه. فلبنان تغير كائناً ما كان الحكم على وجهة التغيّر. وأي عمل سياسي لا بد له، بعد الآن، من ان يستند الى هذه الحقيقة. وأخيراً تبقى معارضة الحريري بسورية. وهذه، فضلاً عن لاجدواها، تعكس أردأ تقاليد وذهنيات الحرب الاهلية التي لا تراعي اي حدّ للنزاع السياسي، كما لا تعبأ اطلاقاً بتوليد اجماعات وطنية يمكن معها للبنان المستقل ان يقلع وان يعمل، بل ان يستقل فعلاً. هذه المعارضات، وهي على درجة بعيدة من التداخُل في ما بينها، آن لها ان تخضع للمراجعة الجذرية. وهي، في النهاية، مراجعة تتعدى قضاياها اللبنانية المباشرة الى نظرة عصرية ومعاصرة للكون الذي نعيش فيه والى طرق اشتغاله وتفكيره. فالمعارضة الوحيدة الممكنة لرفيق الحريري في وضعه الجديد، او المحتمل، هي تلك المؤسسة على القانون وتفعيل القوانين. فالضغط في الاتجاه هذا على صعوباته في ظل البرلمان الجديد هو وحده ما يتكفّل تطوير حياة سياسية لاجمة وضابطة للجموح والشطط والاستئثار. وقد سبق للقانون ان راقب مالاً سياسياً كثيراً وحدّ من مفاعيله، على ما رأينا خصوصاً في ايطاليا بيرلوسكوني. وهذا من دون الاستنجاد بأيٍ من أشباح الماضي أو أشباح الخريطة.