من كان يحكم الاتحاد السوفياتي، ويرأس حزبه الشيوعي، حقاً، بين العام 1976 والعام 1982؟ للوهلة الأولى يبدو السؤال غريباً، طالما ان من المعروف والسائد ان بريجنيف كان هو المهيمن على رأس السلطة السياسية والحزبية في ذلك البلد الذي لن يعيش طويلاً بعد رحيله. غير ان مقالاً نشره المؤرخ السوفياتي روي مدفديف، الذي كان متأرجحاً بين الانشقاق والامتثال، جاء ليقول ان بريجنيف لم يكن حاكم البلد خلال السنوات الست الأخيرة من حياته. وهذا المقال الذي نشره مدفديف في الخامس من أيلول سبتمبر 1988، أي في وقت كان الاتحاد السوفياتي لا يزال موجوداً فيه، لم يكن نشره ممكناً لولا سياسة البرسترويكا الشفافية والغلاسنوست المكاشفة التي اتبعها غورباتشوف الذي تسلم الحكم في العام 1985، أي بعد ثلاث سنوات من رحيل بريجنيف. وكانت تلك السنوات الثلاث شهدت تقلب زعيمين على قيادة البلد والدولة انتهى عهد كل منهما برحيله هو الآخر. ولنعد هنا الى بريجنيف. فروي مدفديف، الذي اعتاد أن يكون ذا صدقية في كل ما يقوله، كان وضع، حتى خلال سنوات الجمود البريجنيفي القاسية، واحداً من أكثر الكتب فضحاً للستالينية وممارساتها. ومقال مدفديف هذا جاء ليؤكد أن الأطباء كانوا أعلنوا، منذ العام 1976 أن ليونيد بريجنيف يعتبر ميتاً من الناحية العيادية. ورأى مدفديف في مقاله ان موت بريجنيف العيادي كان موتاً لا برء منه، ما يعني أنه أمضى السنوات الست الأخيرة من حياته، غير واعٍ بما يدور من حوله، وان لجنة حزبية كانت هي التي تتولى الحكم مكانه وباسمه. صحيح أن بريجنيف ظهر مرات عدة خلال تلك السنوات، بل سيكون هناك من يؤكد ان زعيم الاتحاد السوفياتي قابل زعماء كثيرين، وألغى بعض الخطابات وقام بشيء من النشاط، حتى وان كان بدا على الدوام واهناً. ويرى هؤلاء أنه لا يمكن للحكام باسمه أن يكونوا استخدموا بدلاء له، لأن الذي ظهر كان بريجنيف نفسه. غير ان هذا لا يمنع مدفديف من التأكيد على أن الموت العيادي والغياب عن أحداث العالم كان أمراً حقيقياً. في الأحوال كافة، قد يجدر بنا أن نتذكر هنا ان التكريم الأكبر لبريجنيف في بلده، وفي أوساط الحركة الشيوعية العالمية جرى في تلك الأحيان بالضبط، حيث وصلت "عبادة الشخصية" المكرسة له الى ذرى لا ينافسه فيها سوى ستالين. ولقد منح بريجنيف نفسه أيضاً في العام 1976 أرفع وسام في الاتحاد السوفياتي وهو "وسام ماريشال الاتحاد". بالنسبة الى مدفديف لا يفعل هذا كله سوى تأكيد نظريته التي تتضمن "واقع ان ليونيد بريجنيف كان يفيق من غيبوبته وغيابه بين الحين والآخر، ليمارس نشاطات بروتوكولية أو حتى يظهر، وذلك في انتظار أن يحسم أمر خلافته". من الواضح ان كثيراً من الأمور التي يؤكدها مدفديف في هذا المقال يبدو منطقياً لمن قد تعود به الذاكرة الى تلك الأيام. ولكن، حين نشرت مقالة مدفديف كان هناك من تساءل عما إذا كان هذا المؤرخ يحاول تبييض صفحة الزعيم الذي كان سبق له أن حاربه طويلاً، ومحو جزء من ذكراه السيئة؟ لقد نبع هذا السؤال من واقع ان مدفديف اختار أن يظهر تأكيداته تلك، تحديداً في وقت كانت فيه قد بدأت في موسكو محاكمات عدد من أقارب الزعيم الراحل، ومن بينهم صهره يوري شوربانوف، بتهمة الفساد واستغلال النفوذ في آخر سنوات العهد البريجنيفي. وكان في رأي ناقدي مدفديف انه انما يحاول أن يؤكد، في نهاية الأمر، ان بريجنيف كان على غير علم بما يقترفه أهله، لأنه بالتحديد كان، بحسب النظرية، غائباً، بل ميتاً من الناحية العيادية. الصورة: بريجنيف في جلسة حميمة. ابراهيم العري