تلعب الاتحادات النقابية دوراً بالغ الأهمية، في بعض الحالات، في عملية الدمقرطة وفي صياغة مبادئ حكم جديد وفي تبديل القيم المنتشرة في المجتمعات. وتقدم الانتخابات العامة فرصة هامة لتلك الهيئات لكي تؤثر على الحياة العامة ولكي ترسخ اصول ومبادئ الديموقراطية في المجتمعات. في الديموقراطيات القديمة، قامت الاتحادات النقابية بأدوار مهمة في إقران فكرة الحرية بفكرة المساواة كركيزتين للنظام الديموقراطي. وانصب قسط واسع من نضالات هذه الاتحادات على توسيع حق المشاركة في الانتخابات تصويتاً وترشيحاً حتى يشمل المواطنين والمواطنات كافة. وعندما تكرست هذه الحقوق، تحولت هذه الهيئات الى سند رئيسي للأحزاب التي ترعى مصالحها. وكما نشهد اليوم في الانتخابات الأميركية، ففي الانتخابات تزود الهيئات النقابية الأحزاب القريبة منها بعدد وافر من المرشحين الكفيين وبالنصيب الأوفر من التمويل ومن المتطوعين ومن قادة الحملات الانتخابية، كما تأتي لها ساعة الانتخابات بالملايين من الناخبين والناخبات. وفي الديموقراطيات الحديثة والناشئة قامت الاتحادات النقابية بدور بارز في الوصول الى التوازن بين الدولة والمجتمع أو في التوسط بينهما، كذلك اضطلعت هذه الاتحادات بدور محوري في نشر المبادئ الديموقراطية بين المواطنين وضمان التزام المؤسسات بها. النموذج البولوني حيث قامت منظمة "التضامن" بالدور الأكبر في عملية دمقرطة بولونيا هو الأكثر شهرة في ايامنا هذه. ولكن هناك نماذج اخرى في العالم الثالث اضطلعت فيها الهيئات النقابية بمثل هذه التحولات. ففي زامبيا في افريقيا، مثلاً، كان للاتحاد العمالي الدور الرئيسي في الانتقال من حكم الحزب الواحد الى التعددية السياسية. وبفضل هذا الدور واقراراً بأهميته انتخب رئيس اتحاد عمال زامبيا رئيساً للجمهورية خلفاً لكينيث كاوندا. هناك بالطبع تجارب متعددة سارت فيها الاتحادات النقابية في طريق آخر، اذ كانت عضداً للأنظمة المطلقة أو لنظام الحزب المهيمن كما كان الأمر في المكسيك حيث عارضت التعددية السياسية والاتجاهات الليبرالية التي ظهرت داخل الحزب الثوري التأسيسي. الا انه في أكثر الحالات والأمثلة لعبت الاتحادات النقابية دوراً مهماً في عملية الدمقرطة وفي تحويل الانتخابات العامة الى فرصة لدفع هذه العملية الى الامام، فأين الحركة النقابية في لبنان من هذه الأمثلة؟ الحركة النقابية في لبنان لا تعمل في ظروف قاسية كما كان الأمر في بولونيا أو في زامبيا أو في غيرها من الدول التي كانت تعيش في ظل الحكم المطلق. سياسة النخبة الحاكمة في لبنان تجاه الحركة النقابية اتسمت احياناً بالطابع السلبي وهناك الكثير من التشريعات التي تعرقل نمو العمل النقابي. الا ان هذه الأوضاع لا تقارن مع الظروف القاسية التي تتعرض لها الحركات النقابية غير الحكومية في الأنظمة المطلقة. والحركة النقابية قديمة العهد، تاريخياً، وساهمت مساهمة واسعة في الحياة السياسية في الماضي. كما ان لها علاقات دولية واسعة وتتلقى شتى انواع العون من شركائها واصدقائها الدوليين. وليس هناك من سبب خارجي قوي يمنع الحركة النقابية، كاحدى هيئات المجتمع المدني الرئيسية، من الافادة من الانتخابات العامة لتحسين الأوضاع الاجتماعية في لبنان أو للعمل على الارتقاء بالحكم اللبناني. من المفروض اذاً، ان تكون الانتخابات مناسبة مهمة لكي تظهر فيها الحركة النقابية وحدتها ولكي تمارس فيها تأثيرها على الجسم السياسي وتحقق بعض المكاسب القطاعية والوطنية. ان ترشح رئيس الاتحاد العمالي العام، الياس أبو رزق، في الدورتين الانتخابيتين الماضية والحالية كان خطوة صحيحة من زاوية توطيد دور الحركة النقابية في الحياة العامة. والعدد المرتفع من الأصوات التي نالها في الدورة الماضية افاد الحركة العمالية حتى ولو صوت له المقترعون بصفته الشخصية. الا انه باستثناء هذه الخطوة، تبقى مساهمة الحركة العمالية في الانتخابات النيابية هي الأخرى محدودة وهامشية. فالاتحادات العمالية لم تتمكن من ترشيد السجالات الانتخابية ومن اقناع المرشحين باعطاء المشكلات الاجتماعية الأولوية المطلوبة في تلك السجالات. والاتحادات العمالية لم تتمكن من تكتيل القاعدة الواسعة، التي تقدرها بعض الاحصاءات ما لا يقل عن المليون عامل وعاملة، حول موقف انتخابي واحد. ان عدد الذين يفكرون "عمالياً" عندما يختارون المرشحين الذين يمنحونهم اصواتهم لا يزال ضئيلاً الى ابعد الحدود، اما عدد الذين يفكرون "عمالياً" من بين المرشحين أنفسهم فلا يزال اقل من ذلك بكثير، بينما يقتصر عدد المرشحين الذين خرجوا من النقابات العمالية على رئيس الاتحاد العمالي العام. ان الأكثرية من اللبنانيين لا تزال تقرر مواقفها الانتخابية لاعتبارات لا تمت بصورة مباشرة الى موجبات الالتزام بمنظمات المجتمع المدني اللبناني. ومن هنا فإنه من المعتاد ان تنشل فاعلية هذه المنظمات خلال المعركة الانتخابية. ولا ينسحب هذا على الهيئات الاقتصادية والعمالية فحسب، وانما ايضاً على الهيئات الأخرى مثل الهيئات النسائية ايضاً. ان هذه الهيئات تلعب دوراً مهماً في دفع التحولات الديموقراطية الى الامام في المجتمعات الأخرى. لقد ساهمت مثل هذه الهيئات بصورة رئيسية في اسقاط حكم ماركوس في الفيليبين، وفي وصول كوري اكينو الى الرئاسة وفي تثبيت الحكم الديموقراطي في مانيلا. وفي الارجنتين اضطلعت حركة "امهات ساحة أيار مايو" بدور رئيسي في إلحاق هزيمة فكرية وسياسية بالنظام العسكري وفي الانتقال الى الديموقراطية البرلمانية. وفي دول كثيرة اخرى تقبل المنظمات النسائية على المعارك الانتخابية بحمية ونشاط، كما هو الأمر في الدول الاسكندنافية حيث ارتفعت نسبة النساء أعضاء المجالس النيابية الى النصف احياناً. الا ان ازدياد نسبة النساء أعضاء المجالس النيابية لا يقتصر على هذه الدول الديموقراطية الصناعية، ففي الهند مثلاً نمت مشاركة المرأة في الانتخابات العامة بصورة ملحوظة وخصوصاً بعد مؤتمر بيجينغ، وارتفعت نسبة النساء أعضاء البرلمان الهندي ارتفاعاً كبيراً. ولعبت الهيئات النسائية الهندية دوراً مهماً في هذه التغييرات. للهيئات النسائية اللبنانية، مثل الاتحادات النقابية، تاريخ عريق في حقل العمل العام. ولقد انجبت تلك الهيئات عدداً من الشخصيات النسائية المرموقة. والهيئات النسائية في لبنان لا تواجه تحديات كبرى من النوع الذي واجه هذه الهيئات خلال حكم ماركوس في الفيليبين أو الحكم العسكري في الأرجنتين. انها تواجه بعض الدعوات المحافظة التي تدعو الى الحد من حرية المرأة والى تقييد مشاركتها في الحقل العام. بيد ان هذه الدعوات آخذة في التراجع حتى بين اصحابها الاصليين. هذه الأوضاع، اضافة الى عمل الهيئات النسائية الطويل الأمد في التأكيد على أهمية المساواة بين الرجل والمرأة وعلى أهمية اشراك المرأة في سوق العمل السياسي ساهمت في تعبيد الطريق امام بروز ظاهرة جديدة في الانتخابات اللبنانية الا وهي دخول عدد متزايد من المرشحات الحلبة الانتخابية. وتتمتع المرشحات بالكفاية العلمية وروح الاندفاع والملكة القيادية على المساهمة في العملية الانتخابية، الا انه ليس هناك ما يدل على انهن تمتعن بدعم قوي من الهيئات النسائية. ان هذه الهيئات لم تكن لتحتاج الى دعم مرشحات معينات حتى يترجم الموقف من مشاركة المرأة في الانتخابات الى عمل ملموس. كان باستطاعتها القيام بحملات توعية نشيطة وواسعة لشرح أهمية اسهام المرأة في الحياة العامة ولتوضيح أهمية دخولها الى البرلمان. وكان باستطاعتها تكثيف الاتصال بالأحزاب وبزعماء اللوائح الانتخابية من اجل حثهم على تبني ترشيح نساء في حملاتهم الانتخابية. وكان باستطاعة الهيئات النسائية تأسيس صندوق واطلاق حملة لجمع التبرعات بقصد مساعدة المرشحات في الانتخابات الأخيرة وتمكينهن من الاتصال على أوسع نطاق بالناخبين والناخبات. لقد غابت مثل هذه التحركات الضرورية عن مسرح الانتخابات ولذلك بقي ساحة ذكورية حتى ولو دخله عدد متزايد من المرشحات. الصورة العامة لمساهمة المجتمع المدني اللبناني في الانتخابات العامة لا تبعث على الارتياح ولكنها لا تدعو الى الاحباط. انها تعبر عن عاملين قابلين للتغيير. الأول هو نظرة سلبية ومشككة تسود أوساطاً لبنانية كثيرة تجاه الانتخابات النيابية. العامل الثاني هو ضعف هذه المنظمات الداخلي وضآلة قدرتها التعبوية وطاقاتها القيادية. على رغم جدية هذين العاملين أو المعضلتين، فإن في لبنان من حسن النيات، ومن القدرات البشرية ومن التطلعات الانسانية ما يكفي للتغلب عليها حيث يلحق لبنان بالمجتمعات الأخرى التي سبقته على طريق الدمقرطة بعد ان كانت تتطلع اليه في الماضي كمثال يقتدى به، في هذا المجال، من بين دول العالمين الثاني والثالث. * كاتب وباحث لبناني.