تضطلع منظمات المجتمع المدني، كما تشهد تجارب حديثة، بدور مهم في التحولات الديموقراطية وفي النهوض بأنظمة الحكم وتحسين أداء الحكومات. وهي تحقق هذه الغاية عادة عبر واحد من أربعة طرق، كما يرى باحثون في هذا المجال. الأول، هو تحقيق أو ضمان استمرار التوازن بين الدولة والمجتمع. الثاني، ضمان التزام المؤسسات العامة بقيم ومبادئ الديموقراطية والحكم الصالح. الثالث، التوسط بين الدولة والمجتمع بحيث تقوم هذه المنظمات ببلورة مطالب الأفراد وتحديد أولوياتها ووسائل تطبيقها. الرابع، بلورة مبادئ ورؤى وأسس جديدة للنظم السياسية وللحياة العامة. وقد تسلك منظمات المجتمع المدني طريقاً أو أكثر وصولاً الى تحقيق النتيجة المتوخاة على صعيد التطور السياسي، إلا أنه تبقى تلك النتائج والأهداف متشابهة في جوهرها. وتوفر الانتخابات العامة عادة الحوافز والمجالات الاستثنائية لتلك المنظمات حتى تحقق أهدافها، فهل وفرت الانتخابات اللبنانية شيئاً من هذا القبيل لمنظمات المجتمع المدني اللبناني؟ وهل تمكنت هذه المنظمات من الاستفادة من الانتخابات على الوجه المطلوب؟ من بين منظمات المجتمع المدني المتعددة لعبت الهيئات الاقتصادية في بعض الديموقراطيات الحديثة دوراً مهماً ومفصلياً في بلورة مبادئ التحول الديموقراطي وتعميقه وإلزام الأطراف المعنية في الدولة والمجتمع بقواعد اللعبة الديموقراطية. ففي كوريا الجنوبية، مثلاً، كانت الهيئات الاقتصادية داخلة في تحالف مع النخبة الحاكمة ومستسلمة لنمط الحكم الأوتوقراطي القائم. إلا أنها في منتصف الثمانينات دخلت في عملية مراجعة لموقعها هذا وقاد اتحاد الصناعيين الكوريين هذه العملية وتمكن من صياغة أجندة سياسية وديموقراطية للهيئات الاقتصادية. وشكلت هذه الأجندة قاعدة فكرية وسياسية لانطلاق حزب سياسي جديد أسسه وتزعمه تشونغ جو يونغ رئيس مجموعة "هيونداي" الصناعية. ودخل هذا الحزب السياسة كمنافس للحزب الديموقراطي الليبرالي الذي كان يشكل واجهة للنخبة الحاكمة القديمة. وساهمت هذه المبادرات التي قامت بها الهيئات الاقتصادية الكورية في تسريع وتعميق التحولات الديموقراطية في كوريا الجنوبية وفي انتقال قوى اجتماعية مهمة من صف الداعمين للحكم المركزي القوي، الى صف المناصرين للتعددية السياسية. وكانت الانتخابات العامة التي جرت في كوريا الجنوبية في عامي 1992 و1996 على التوالي مناسبة رئيسية لهذه التحولات ولنمو دور قوى المجتمع المدني وتعزيز مكانتها في الحياة العامة. وما حدث تكرر في أكثر من بلد في آسيا وأميركا اللاتينية من تلك البلدان التي شهدت تحولات ديموقراطية مهمة في السنوات الأخيرة حيث تمكنت الهيئات الاقتصادية من الاضطلاع بدور بارز في بلورة رؤى وأسس جديدة للحياة العامة وفي قيادة عملية الدمقرطة. تمتلك الهيئات الاقتصادية اللبنانية إمكانات مادية وبشرية للاضطلاع بدور مهم في تطوير الحياة السياسية وفي النهوض بالدولة وفي تطبيق مبادئ الحكم الصالح. وقد ساهمت هذه الهيئات في السابق في إمداد الدولة بعدد من الذين اضطلعوا بالمسؤوليات فيها، كما يتردد حالياً اسم احد قادة هذه الهيئات للاضطلاع بمسؤولية كبرى في ما بعد الانتخابات النيابية. إلا أن مساهمة هذه الهيئات في الحملة الانتخابية كانت محدودة وخجولة. صحيح أن عدداً كبيراً من رجال الأعمال اقتحموا العراك الانتخابي. صحيح أن هؤلاء يكادون يحتلون ساحة العمل السياسي، إلا أن هذه الظاهرة تختلف اختلافاً كبيراً عن مساهمة الهيئات الاقتصادية في الحياة السياسية وفي الانتخابات العامة، بمقدار ما تختلف شخصنة العمل العام عن مأسسته. في الحال الأولى تكون مصلحة الفرد/ السياسي هي محور نشاطه واهتمامه. في الحال الثانية تكون مصلحة قطاع اقتصادي مهم ومؤثر هي محور الاهتمام ومحط الاعتناء. وكثيراً ما تتضارب مصلحة الطرفين خصوصاً عندما يبرز احتمال استحواذ واحد أو بعض رجال الأعمال على ساحة السياسة والاقتصاد معاً. إن مثل هذا الاستحواذ يضعف فرص المنافسة في البلاد خصوصاً عندما يقترن بتفشي ظاهرة الفساد وضعف مؤسسات الدولة. في المقابل فإن مصلحة الذين يعملون من خلال المؤسسات والإطارات الجماعية تقتضي إبقاء باب المنافسة مفتوحاً. من هنا فإن دخول عدد من رجال الأعمال ساحة الصراع الانتخابي لا يعتبر مؤشراً على تنمية دور الهيئات الاقتصادية في الانتخابات ولا هو بالبديل عن دور هذه الهيئات في الحياة العامة. بالمقارنة مع الأدوار المتوقعة والمرتجاة من الهيئات الاقتصادية اللبنانية نجد أنها لم تتمكن من الإفادة من الانتخابات العامة كمناسبة لضمان التزام المتنافسين بالقيم الديموقراطية أو بتقديم وتعميم أفكار ومبادئ جديدة للإصلاح السياسي أو بإطلاق مؤسسات تعنى بمتابعة هذه العملية. لقد كان اهتمام هذه الهيئات منصباً، طوال الأسابيع التي سبقت ورافقت العملية الانتخابية، على الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تلم بالبلد. وفي محاولة لتقديم حلول لبعض أسباب ومظاهر هذه الأزمة سعت الهيئات الزراعية الى تسليط الأنظار على تفاقم مشكلة تصريف الإنتاج الزراعي طالب عدد منها بدعم صادرات لبنان في هذا القطاع، إلا أنها لم تجد طريقاً للربط بين الطريق للخروج من الأزمة، من جهة، وبين الانتخابات العامة، من جهة أخرى. فلم يقم من بين هذه الهيئات من يفاوض المرشحين، خصوصاً في المناطق الزراعية، على إدخال مسألة دعم الصادرات الزراعية في صلب برامجهم. ولم يقل المنتسبون الى هذه الهيئات إنهم سيحددون موقفهم من المرشحين في ضوء موقف الأخيرين من قضية دعم الصادرات الزراعية وغيرها من الخطوات الآيلة الى إنقاذ قطاع الزراعة الحيوي في لبنان من الانهيار. بالعكس، تحولت الانتخابات الى سبب لانقسام المزارعين وتشتيت صفوفهم وإضعاف موقفهم التفاوضي إزاء المرشحين وأصحاب القرار، وإلى صرفهم هم أيضاً عن قضاياهم الحيوية والخطيرة التي تهدد الأوضاع العامة في لبنان. وهذا ما لخصه واحد من مسؤولي الهيئات الزراعية في البقاع عندما سئل: كيف تجعلون الحكومة تتجاوب مع الهم الزراعي؟ فأجاب بائساً ويائساً: "ليس لنا إلا توحيد الصفوف، وهذا ما يغيب عنا اليوم فكل مزارع يؤيد من يخصه من المرشحين وينسى الزراعة لتبقى مهمشة"! المشادات الإعلامية والسجالات الحادة وجولات التراشق الكلامي التي اشتدت خلال الانتخابات وفّرت فرصة لتسليط الأنظار على هذه القضايا المصيرية وعلى الأخطاء التي ارتكبت في معالجتها في الماضي، وتمنح المواطن فرصة لمحاسبة أولئك المسيئين والاقتراع لمن يتقدمون بالمشاريع للخروج من الأوضاع المتدهورة في لبنان، ولمن يتوسم فيهم القدرة والإخلاص الكافيين على تنفيذ هذه المشاريع. المشادات الانتخابية لم توفر، في العديد من الأحيان، هذه الفرصة. وانحدرت الى حد استخدام الشتائم والسباب ضد الخصوم في المؤتمرات الإعلامية والسياسية المفتوحة. هذا التردي الذي وصفه البطريرك الماروني أنه "صورة بغيضة تولد القرف في نفوس المواطنين"، حاد بالسجالات الانتخابية عما هو جوهري ومهم، الى ما هو عرضي وثانوي في الحياة السياسية. وهذه الظاهرة دعت اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة اللبنانية الى إصدار نداء الى المرشحين في الانتخابات النيابية يبدي فيه أسفه لتردي الخطاب السياسي والتراشق بالاتهامات بينهم، ودعا فيها المتنافسين الى "إعداد البرامج لإنقاذ الاقتصاد"، والجميع الى دخول "الحوار البناء"، ومؤسسات الإعلام الى ممارسة "الرقابة الوطنية الذاتية". هل كان يمكن الاتحاد، كهيئة مهمة من هيئات المجتمع المدني اللبناني، أن يلعب دوراً أكثر حيوية في الانتخابات اللبنانية؟ هل كان له أن يوسع نطاق تحركه في انتخابات عامة تجرى وسط انسداد اقتصادي وسياسي يثير القلق والمخاوف بين اللبنانيين؟ النداء الذي أطلقه الاتحاد الى المشتركين في المعركة الانتخابية سليم في جوهره من حيث دعوته اولئك المرشحين الى الارتفاع بالسجال السياسي الى المستوى اللائق. إلا أنه ينبغي التوضيح هنا أن السجال اللائق لا يستبعد تبادل الانتقادات بين المتنافسين. إن المعركة الانتخابية التي لا يتبادل فيها المتنافسون النقد، وأحياناً النقد الحاد، هي تلك التي يجرى تحضيرها في الغرف المغلقة، والتي يجرى فيها التصويت لمرشح واحد لا غير. أما المعارك الانتخابية الحقيقية فإنها تلك التي تتكشف فيها الى أبعد حد ممكن هوية المرشحين وسجلاتهم. بما فيها من مشرق ومظلم، من فضائل ونقائص، من علم وجهل. الانتخابات هي فرصة توفر للمواطن لكي يضع يده على الحقائق. إنها مناسبة لتطبيق مبادئ الشفافية التي تعتبر من أهم المبادئ التي تسير الحكم الصالح. والشفافية قد تأتي عبر النقد والنقد المتبادل أكثر مما تأتي عبر "الحوار البناء" المقنن. والرقابة الذاتية قد تشكل قيداً على الشفافية والحرية بينما المطلوب ان تكون الانتخابات مناسبة لكي توفر للمواطن والناخب المعلومات الحقيقية حتى يحسن الاختيار فلا ينتخب مرشحاً ثم يكتشف بعد فوات الأوان أنه أساء الاختيار. الأرجح أن الهيئات الاقتصادية تتطلع الى الارتقاء بمستوى السجال الانتخابي وتأمل أن يركز المشتركون في الانتخابات على القضايا الرئيسية وأن يمارسوا النقد من دون أن يطغى الشكل على الجوهر، والعواطف الهوجاء على العقل، والعصبيات الضيقة على المصالح الوطنية. وإذا كان هذا فعلاً ما تطمح إليه الهيئات الاقتصادية فإنه كان باستطاعتها، قبل الانتخابات وخلالها، أن تقوم بدور يتجاوز النداء العابر المبتسر. لقد كان باستطاعة الهيئات الاقتصادية أن تنظم الندوات والحوارات بين المرشحين وأن تستطلع آراءهم ومواقفهم من القضايا الرئيسية والمعضلات الكبرى التي تشغل بال المنتسبين إليها. وكان باستطاعة الهيئات الاقتصادية أن تحول الانتخابات النيابية الى ساعة حساب يدقق فيها الناخب في أوراق اعتماد المرشحين وفي سجلاتهم فيختار منهم الكفيَّ والأصلح وفقاً لمقاييس ديموقراطية ووطنية. الناخب اللبناني يمارس مثل هذه المحاسبة الشديدة مع المرشح ولكن بأسلوب ينأى في أكثر الأحيان عن المصلحة العامة وعن الرشد الوطني. إنه يعاقب من تخلف عن تعزيته بالمناسبات الحزينة وعن تهنئته بمناسبات الأفراح وعن تقديم خدمات له على حساب القانون، ويكافئ من "قام بواجبه" في هذه المناسبات. ولعله آن الأوان أن يدخل ساحة الانتخاب في لبنان ناخب جديد يحاسب المرشح على مواقفه السابقة من الهموم الوطنية العامة من دون أن ينسى بالضرورة مواقفه من هموم وطلبات الناخب الخاصة. الهيئات الاقتصادية تستطيع أن تلعب دوراً مهماً في إدخال مثل هذا الناخب الى السوق الانتخابية وفي تعزيز دوره وقوته التفاوضية فيها. ولكن هل يحصر هذا الدور في الهيئات الاقتصادية وحدها؟ هل قامت هيئات المجتمع اللبناني الأخرى بدورها على هذا الصعيد؟ * كاتب وباحث لبناني.