فاجأ ايهود باراك الوسط السياسي الإسرائيلي بفتحه الملفات الداخلية على مصراعيها من خلال اقتراحه الشروع بصياغة دستور لإسرائيل وإقرار قانون الخدمة الوطنية الإلزامية والزواج المدني ووضع نظام عام للتعليم، في محاولة واضحة لتحجيم نفوذ التيار الديني لصالح تعزيز مكانة التيار العلماني. على المدى القريب والمباشر يمكن اعتبار هذه الخطوة محاولة جادة من باراك لتغيير قواعد اللعبة السياسية الداخلية وتصليب معسكره وتوسيعه، تمهيداً للخطوة المقبلة وهي تقريب موعد الانتخابات. والمعنى من ذلك ان باراك يريد أن يدخل الانتخابات المقبلة بملفات كاملة، سواء على الصعيد الداخلي، من خلال وضع دستور لإسرائيل يحدد هويتها وحدودها السياسية والجغرافية والبشرية، أو على الصعيد الخارجي المتعلق بتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، على مختلف المسارات. على هذا الأساس تبدو خطوة باراك هذه في محلها، وإن جاءت متأخرة، كونها تتجاوب مع مطالب قواعد حركة إسرائيل واحدة وحزبي ميريتس وشينوي، الذين طالما ناشدوا باراك بضرورة عدم الاستجابة لمطالب الأحزاب الدينية، وبالإقلاع عن المراهنة الخاسرة عليهم. وعليه فإن هذه الخطوة تمثل ضربة متعددة الأبعاد، لصالح باراك، فهي ستعيد لملمة المعسكر المساند له، كما ستؤدي إلى ضعضعة عرى التحالف بين الأحزاب القومية اليمينية من جهة، والأحزاب الدينية المتطرفة من الجهة الأخرى. وأيضاً فإن هذه الخطوة ستؤدي إلى استقطاب قطاعات مهمة من قواعد الأحزاب القومية اليمينية، نظراً لطابعها العلماني، إذ أنها ستحرج قيادات هذه الأحزاب التي ستجد نفسها حائرة بين رغبتها بالتخلص من باراك، وبين رغبة قاعدتها بالتحالف معه في صراعه مع التيار الديني، وسيكون الأمر أشد وضوحاً وتأثيراً على الأحزاب التي تعبر عن اليهود القادمين الجدد من دول الاتحاد السوفياتي السابق. أما على المدى البعيد والاستراتيجي، فإن خطوة باراك هذه هي بمثابة ثورة جديدة، وهي تأتي استجابة لضرورات التغيير التي باتت إسرائيل بحاجة إليه لا سيما لجهة إعادة صوغ النظام السياسي فيها، على قاعدة الأقلية والأكثرية، فالإجماع لم يعد يتلاءم مع التطورات الداخلية والخارجية، بخاصة بعد انحسار مصادر التهديد التقليدية وضمان الولاياتالمتحدة الأميركية لأمن إسرائيل وتفوقها النوعي، فهذا الإجماع بات يشلّ السياسة الإسرائيلية، ويحد من تكيفها مع التطورات الحاصلة، كما يجعل منها رهينة نزوات أحزاب ذات توجهات ومصالح خاصة. ومع ذلك، فإن أساس الحاجة إلى التغيير، في إسرائيل، إنما يكمن في وصول الدولة العبرية إلى درجة عالية من الاستقرار ومن التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، بخاصة بعد مرور أكثر من نصف قرن على قيامها وبعد أن بات أكثر من 65 في المئة من سكانها اليهود من مواليدها، وهو ما بات يتطلب منها حسم التساؤلات المطروحة عليها لجهة تعريف هويتها وتحديد حدودها الجغرافية والسياسية والديموغرافية، وبالتالي التحول من دولة بذاتها إلى دولة لذاتها، ومن دولة ليهود العالم إلى دولة لمواطنيها، ومن دولة ذات دور سياسي وظيفي إلى دولة عادية. وما يدفع إسرائيل إلى ضرورة الحسم في هذه الأسئلة أيضاً، جملة المتغيرات الدولية والاقليمية والتحولات العالمية، بخاصة مسارات العولمة الاقتصادية والتطورات التكنولوجية والعلمية، التي جعلت من قوة الدول، على الصعيد الدولي، لا تقاس بمساحة الدولة أو بعدد سكانها، أو حتى قدرتها العسكرية، فقط، وإنما بقدراتها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية وبالقبول الخارجي بها، هذا فضلاً عن تأثيرات عملية التسوية على إسرائيل التي حولت الصراع العربي - الإسرائيلي من قضية صراع على وجود إسرائيل إلى صراع على حدودها، وهو ما فتح المجال أمام تخفيف التوتر الداخلي فيها الموجه نحو العداء مع محيطها لصالح حسم التوترات الداخلية. وعليه، فإن كل المتغيرات والتطورات الداخلية والخارجية، باتت تطرح نفسها بإلحاح على إسرائيل، واضعة إياها في موقف حرج ازاء تقديم الاستحقاقات المطلوبة والضرورية لمواكبة هذه التغيرات والتحولات، ان لتطوير أوضاعها وبناها الداخلية أو لتعزيز مكانتها الخارجية. وتواجه إسرائيل في سبيل ذلك مشكلات عدة، المشكلة الأولى تنبع من الترابط بين الاستحقاقات الداخلية والخارجية، أي بين عملية تحديث النظام السياسي وتعريف إسرائيل لحدودها ولهويتها ولدورها، وبين عملية مواكبة التغييرات والتطورات الخارجية المرتبطة بمسارات التحديث والعولمة، ومن ضمنها متطلبات عملية التسوية، وهو ما يفسر التعقيدات المتعلقة بهذه العملية وتحولها، بمعنى ما، إلى قضية إسرائيلية داخلية. أما المشكلة الثانية فهي تنبع من الطابع التاريخي والسياسي الملتبس للدولة العبرية، فهذه الدولة لم تنشأ بنتيجة التطور الطبيعي للتجمع اليهودي في فلسطين، وإنما قامت بفعل عمليات الهجرة الاستيطانية - الاحلالية إلى فلسطين، ونشأت على رغم ارادة أهل الأرض الأصليين، وبفضل عوامل القوة والهيمنة والمساعدة الخارجية. وما يزيد من مأزق إسرائيل مجموعة الالتباسات والتناقضات التي نشأت وتطورت معها منذ قيامها. فهذه الدولة نشأت من دون دستور، ومن دون تعيين لحدودها الجغرافية والبشرية، وهي تعرف نفسها بأنها دولة يهودية ديموقراطية في آن معاً، وهي دولة علمانية حديثة وأيضاً دولة دينية تقليدية! وهي دولة لمواطنيها الإسرائيليين تماماً كما أنها دولة اليهود في العالم! وهي دولة ديموقراطية ولكنها تجيز التمييز القومي تجاه 20 في المئة من مواطنيها العرب! أما المشكلة الثالثة فهي تتعلق بإسرائيل ذاتها، فبسبب من كونها دولة غير طبيعية، من الناحية التاريخية، فإن سعيها لايجاد أجوبة حاسمة على الأسئلة الجوهرية المطروحة عليها تواجه صعوبات وتعقيدات كبيرة تختلف كثيراً عنها لدى الدول العادية. وتدل التجارب بأن المجتمعات الاستيطانية المصطنعة، بخاصة منها المجتمعات الايديولوجية القومية والدينية العنصرية، تحتاج إلى وقت كبير وإلى تجاذبات عاتية حتى تستطيع حسم خياراتها، كما تؤكد التجارب بأن البنى والدوافع الداخلية لوحدها تشكل شرطاً ذاتياً لازماً ولكنه ليس كافياً لعملية التغيير التي تحتاج، إلى جانب عوامل الدفع الداخلية، إلى عوامل دفع خارجية للضغط في هذا الاتجاه، وهذا ما ينطبق على إسرائيل ذاتها إلى حد كبير. يبقى أن المشكلة الرابعة تتجلى في هذا التداخل بين الدين والدولة في هذه الدولة، وبين الدين والقومية بحسب الصيغة الصهيونية - القومية، وهو ما يصعب ويعقد فك العلاقة بين الدين والدولة الإسرائيلية، لأن المشروع الصهيوني برر نفسه منذ البداية بالدين اليهودي وبالرواية الاسطورية الدينية، على رغم الطابع العلماني للصهيونية، ومن هنا أهمية مثل هذه المحاولة لأنها تمهد بمعنى ما لمراجعة الصهيونية ونقدها وتجاوزها بكل ما لذلك من انعكاسات على إسرائيل وعلى رؤيتها لذاتها وعلى الصراع العربي - الإسرائيلي. والواقع في إسرائيل، اليوم، وعلى الصعيدين المجتمعي والسياسي، يؤكد أن إسرائيل تعيش انشقاقاً ثقافياً وطائفياً في آن معاً، وهذا الاستقطاب الحاد يتعلق بعملية التسوية وأيضاً بطبيعة الدولة هل هي يهودية أم إسرائيلية؟ هل هي دينية أم علمانية؟. وعلى هذا الأساس، فإنه يمكن ملاحظة تبلور تيارين أساسيين، التيار الأول وهو يضم حركة العلمانيين ورجال الأعمال، وهو تيار يمهد الطريق نحو اجراء مراجعة للصهيونية التقليدية، تتأسس على الواقع الذي أصبحت عليه إسرائيل اليوم كبنية اجتماعية مستقرة، كما تتأسس على تكييف إسرائيل لدورها مع المتغيرات الدولية والاقليمية. أما التيار الثاني فهو يضم الأحزاب القومية اليمينية بزعامة ليكود، وهذا التيار الذي عبر عنه رئيس الوزراء السابق بنيامين نتانياهو، يرى في ملامح المراجعة ولو المحدودة للصهيونية تراجعاً عن الصهيونية وخطراً على إسرائيل ذاتها، وهو يدعو في المقابل إلى تجديد الصهيونية. وقد عمل هذا التيار كل ما بوسعه للتحالف مع الأحزاب الدينية المتطرفة، للحد من نفوذ تيار المراجعة والتحريض عليه باستنفار المشاعر والرموز الصهيونية والدينية التقليدية لدى جمهور المستوطنين، وهو ما أدى إلى تعميق الهوة بين التيارين، وبالتالي ازدياد نفوذ التيار الديني الذي بات يحتل 27 مقعداً في الكنيست الحالية، وهي أعلى نسبة حاز عليها منذ انشاء إسرائيل. ومشكلة التيار القومي اليميني العلماني أنه بات أسيراً للتيار الديني، الذي تتزعمه حركة شاس التي تحتل 17 مقعداً في الكنيست ثالث أكبر حزب في إسرائيل، وفي مثل هذا الوضع لم يعد التيار الديني يرضى بمجرد وجوده كديكور في السياسة الإسرائيلية، أو بمجرد اعطاء الشرعية اليهودية للنظام السياسي الإسرائيلي، وإنما بات يطالب بدور المقرر في السياسات الداخلية والخارجية، وهو ما يهدد إسرائيل باعتبارها دولة علمانية وحداثية. من كل ذلك، يمكن الاستنتاج بأن إسرائيل اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تبدو على عتبة تحولات نوعية كبيرة، يتوقف عليها شكل هذه الدولة وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ولكن الذي سيحسم اتجاه هذه التحولات ليس فقط صناديق الاقتراع الإسرائيلية في الانتخابات المقبلة للكنيست، وإنما أيضاً طبيعة التوجهات والسياسات والضغوطات الخارجية الدولية والإقليمية. * كاتب فلسطيني، دمشق.