يتابع المسلمون في الاتحاد السوفياتي سابقاً باهتمام كبير تطور الفكر الاسلامي المعاصر وطرق معالجته لقضايا العالم. وبصفتي واحداً منهم فإننا نلاحظ بارتياح ان هذا الفكر، وخصوصاً في الدول الاسلامية، لا يتوقف عن تناول جميع التحديات التي تواجهها البرية، أكان ذلك في المجالات الفلسفية والسياسية والاقتصادية والثقافية. ويتميز بنضج وعمق كبيرين. ويرجع دافع هذا الاهتمام بالفكر الاسلامي، ليس فقط الى حقييقة انتمائنا في الماضي الى الحضارة المشتركة، او الى حاجتنا الى إشباع العطش في عقيدتنا الغالية، بل يرجع قبل كل شيء الى احساسنا ان لهذا الفكر ولهذه العقيدة دوراً اعظم في ترتيب حياة الاجيال الصاعدة في مجتمعاتنا وفي العالم بأسره. ولذلك نريد ان نشارك في مناقشة موضوع ذي حيوية كبيرة وأهمية بالغة في ايامنا هذه، ألا وهو موضوع العولمة. فحسب ما نقرأ في اكبر الصحف الناطقة باللغة العربية للأغلبية الساحقة من المحللين والمفكرين العرب نجدهم يتناولون ظاهرة العولمة بعداء سافر، وحذر شديد، وينادون الى محاربتها او مقاومتها بغية الحفاظ على القيم التقليدية بما فيها القيم والاخلاقيات الدينية. ومع ذلك ليست هناك - ولا حتى مقالة - واحدة تشرح لنا ماهية الطرق العملية لمنع انتشار العولمة، والوقاية منها. وبحسب ما يعتقد مؤلفو هذه المقالات والتحليلات فإن العولمة عبارة عن قوة دافعة لانتشار جميع الشرور التي يشاهدونها عند مفترق القرنين العشرين والواحد والعشرين، من انحدار القيم الاخلاقية، وفرض الثقافة الغربية الرخيصة، وتعميم نمط الحياة الاميركية على الجميع. واذا ما اشارت اصابع الاتهام الى العولمة، فإنني ارى في هذا الامر واقعاً حيادياً يمكن ان يمتلئ بمعانٍ ايجابية او سلبية بحسب الظروف. فالعولمة. "ظاهرة واقعية ناتجة عن تطور الوسائل التكنولوجية، وتترجم مرحلة معينة من مراحل تطور البشرية"، ولا مفر منها كونها ظهرت قبل الوسائل التكنولوجية الحديثة، بل وقبل اختراعات العجلة والسكك الحديد التي أثرت كل منها تأثيراً ثورياً في تطور البشرية. ومحاولات منع العولمة أو تأخيرها تذكرنا بهجوم العمال الانكليز على الماكينات وآلات العمل الميكانيكية الحديثة المخترعة في القرن السابع عشر، يوم رأوا فيها مصدر مآسيهم واضطهادهم الاقتصادي والمعنوي. أو تذكرنا بمحاولات منع التلفزيون في بعض البلدان في زمننا الحالي. ولا يمكن ان تؤدي مقاومة العولمة إلا الى فشل تاريخي. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل لنا أن نترك الساحة للغرب ونستسلم؟ الذين يعتقدون ان العولمة مدبرة من قبل اميركا يكون اعتقادهم هذا خاطئاً، لأن ظاهرة العولمة في الاصل فاجأت الاميركان أنفسهم والغرب في شكل عام. وما يدل على ذلك هو ان الفكر السياسي الفلسفي الغربي غير ناجح في معالجة القضايا العالمية مثل العولمة. وهذا الفكر في ازمة حقيقية، لانه لا يمكن لأحد ان يتكلم عن نهاية التاريخ الا اذا وجد نفسه في طريق مسدود. وهناك دليل آخر على مستوى الفكر الغربي وهو افكار صموئيل هانتغنتون حول تصادم الحضارات. وكلها افكار ساذجة لا تتناسب مع عقلية صغار الطلبة المتواضعين. فالمعروف ان الحضارات الانسانية، على رغم وجود خلافات بينها، كانت تتعامل وتتفاعل طوال تاريخ البشرية كله، وينتج عن هذا التفاعل دائماً التطور والاغناء المتبادل ويخدم مصالح البشرية، أما الحضارات فإنها لا تتصادم، وإنما الحركات السياسية العقائدية تتصادم. ويمكن القول في شكل عام ان فلسفة الغرب غير مستعدة للاستجابة لتحديات العمر لأنها ما زالت في شوط التفكير الضيق. والسياسيون في الغرب يحاولون تعويض الفراغ الفلسفي بفرض نظرية حقوق الانسان، باعتبارها قوة دافعة لليبرالية. ولكن هذه النظرية محدودة الجوانب والاهمية، وتعاني من علل اخطرها ازدواجية معاييرها، وعدم قابليتها لتطبيق القيم الليبرالية في ظروف الفقر والبطالة والتخلف التي تعيش فيها اغلبية سكان العالم. وإذا تطرقنا الى اسباب ازمة الفكر الفلسفي الغربي اليوم فتجب الاشارة الى نقاط مهمة منها تضاؤل دور احد مكونات هذا الفكر اي المسيحية، في الحياة الاجتماعية والفكرية، حتى اصبحت في يومنا هذا مجرد ديكور. وكانت المسيحية تعطي الفكر الاوروبي نوعاً من العالمية UNIVERSALISM ومعالم مساواة بين بني آدم الخ... ونتيجة لانحسار دورها وتأثيرها حصل خلل في حياة المجتمعات الغربية، وتغلبت المصلحة الفردية على المصلحة العامة. وبغية تثبيت النظام الجائر يسوِّق الغرب خدعة كبيرة على العالم مفادها انه يجب على جميع الشعوب في العالم الثالث ان تقوم بإجراء اصلاحات اقتصادية، وتحرير الاقتصاد، واصلاح التعليم، واستنصال الفساد الاداري حتى تتمكن من اللحاق بركب الغرب، واصبح هذا الهدف امنية وطموحاً لجميع الشعوب والحكومات. ولكن هذه الامنية لا يمكن التوصل اليها بل هي كذبة ثقيلة ويمكن تسميتها بكذبة القرن. فالعلماء اكدوا انه اذا عاش حتى نصف البشرية بنفس المستوى من الاستهلاك الذي يعيش به الغرب، فان ذلك يؤدي الى اشتراف سريع لموارد الكرة الارضية من المعادن والخشب والطاقة. كما ان عمل النشاط الصناعي يصبح غير محتمل في مثل هذه الظروف نتيجة لما ينجم عن ذلك من اختلال في التوازن البيئي. ومع ذلك فإن قضية إعادة تنظيم العلاقة بين الشعوب على أسس جديدة تصبح ضرورة ملحة لأن الأسس الحالية لا يمكن ان تدوم طويلاً، لأنها تُؤدي الى زيادة الفجوة بين الشعوب الفقيرة والغنية والى زيادة التوترات السياسية وتفاقمها .... والشيء الذي له دلالة خاصة في الغرب هو موقف العلوم فاصبحت العلوم تفترض في اواخر القرن العشرين وجود قوة خارج الطبيعة، وخارج ارادة الانسان، بينما كانت في السابق تنفي وجود قوة إلهية. وانزل الله ديناً عالمياً شاملاً ليجمع بين الشعوب وقبائل العالم وآفاق الدين الاسلامي في عصر العولمة القادمة هدايتهم جميعاً الى الطريق المستقيم. ويفتح عصر العولمة امامه آفاقاً وإمكانات جديدة. فالاسلام يعالج كل تلك الاختلالات والتحديات التي تواجهها البشرية على اساس مبادئ الدين الحنيف. وهنا يكمن السبب الحقيقي في الهجوم الشرس على الاسلام، ومحاولات الاساءة المستمرة اليه. والحقيقة ان الاسلام مقبل على عصر انتشاره وازدهاره لان هذا الدين العالمي الشامل هو حقاً دين عصر العولمة، ولا تقيده حدود وطنية ولا معاني الجغرافيا والثقافة والسياسة.وعلينا ان كنا مسلمين حقاً ان نعانق العولمة، فنسارع الى مقابلة ساتر البشرية لنبلغهم رسالة الاسلام الكونية. وعلينا ايضاً ان ندخل هذا الصراع السياسي والعقائدي القادم منفتحين ومستخدمين كل وسائل التقنية الحديثة التي يمنحها لنا عصر العولمة. ولكن قبل ذلك يجب ان نحاسب انفسنا حول مدى تناسب مفهومنا للاسلام مع الاسلام واهدافه السامية المعاصرة. فكثيراً ما نفهم الاسلام انه ذلك الحامي والحارس لخصوصيتنا الوطنية والقومية والقبلية وتقاليدنا الاجتماعية التي ليست لها علاقة مباشرة بالاسلام، وعليه يقع تكريس هذه الخصوصية والحدود. ونشأ من هذا الفهم الخاطئ سلوك يقودنا الى اعتبار العولمة العدوة الاولى للاسلام. إن الخطوط الاولى حتى نكسب معركة العولمة، التي لا مفر منها، هي تحديث مفهومنا للاسلام بما يتناسب مع رسالته الكونية. طشقند اوزبكستان - عبدالله ييف