شهدت المنطقة العربية مناسبتين انتخابيتين خلال الاسابيع الاخيرة، الاولى في لبنان والثانية في عمان. وتشهد المنطقة حاليا فصول معركة انتخابية في مصر تمهيدا لايام الاقتراع التي تبدأ في منتصف تشرين الاول اكتوبر المقبل وتستمر حتى منتصف تشرين الثاني نوفمبر المقبل، المناسبات الانتخابية الثلاث تسجل استمرارا للظاهرة المستحكمة في السياسة العربية، وهي ضعف الاحزاب وانعدام دورها في الحياة العام. ففي لبنان، لا يتوقع ان تزيد نسبة النواب الحزبيين في المجلس الجديد عن ربع عدد نواب المجلس الجديد، وهي نفس النسبة التي عرفتها مجالس اعوام 1972، و 1992و 1996. ويتوزع هؤلاء النواب على احزاب يزيد عددها على العشرة في بلد لا يتجاوز تعداد سكانه الثلاثة ملايين. ورغم ضعف الاحزاب وعجزها عن تقديم مرشحين ومرشحات في سائر او اغلب المناطق اللبنانية، فإن قلة منها سعت الى الدخول في تحالفات مع احزاب اخرى من اجل تلافي هذا القصور وتعزيز موقعها في الحملة الانتخابية وفي البرلمان الجديد. وعندما دخلت بعض الاحزاب مثل هذه التحالفات فإنها فعلت ذلك، في حالات كثيرة، نتيجة ضغط خارجي وليس تعبيرا عن رغبة او اقتناع ذاتي. ولقد اظهرت الانتخابات الاخيرة، كما بينت الاننتخابات التي جرت في عامي 1992 و 1996، ان الحملات الانتخابية لم تكن مدخلا الى تعزيز الالتزام الحزبي بمقدار ما كانت عاملا في شحذ الصراعات واثارة الانقسامات داخل هذه الاحزاب كما حصل، على سبيل المثال، في احزاب الكتائب والشيوعي والقومي السوري والكتلة الوطنية والوطنيين الاحرار والهانشاق. ولم يكن من الغريب ان يقترع محازبون ضد مرشحي احزابهم وان تطلق القيادات الحزبية الحرية للاعضاء في الاقتراع لمصلحة واحد من عدد من المنتافسين على مقعد نيابي واحد ينتمون الى نفس الحزب. في سلطنة عمان التي اختار فيها الناخبون مجلس الشورى لاول مرة، خلت الانتخابات من التنافس الحزبي بل حتى من البرامج الانتخابية التي هي، في تقدير المسؤولين، مظهر من "مظاهر الحياة الحزبية". وعلل استبعاد الحزبية والحزبيين بالتخوف من تكرار التجارب العربية المرة في الجزائر والسودان، اي الصراعات الدامية. واذا كان البعض يطالب بالاحزاب باعتبارها وسيلة تحديث للحياة السياسية فعند اصحاب الشان ان القبيلة هي أداة للوصول الى التحديث والحفاظ على الاستقرار معا. ان السلطنة تتدرج على طريق التحول الديمقراطي وهي تريده منسجما مع التقاليد المحلية وهذا يعني، في المنظور الرسمي، ابقاء الاحزاب خارج الحيز السياسي. وفي مصر التي عرفت الانتخابات العامة الماضية فيها تراجعا مستمراً في مساهمة الاحزاب فإن التغيير الرئيسي في الانتخابات الحالية هو في وجوه ممثلي الحزب الوطني الديموقراطي الذي استبدل قرابة 40 في المئة من نوابه بمرشحين جدد. اما الاحزاب الاخرى فإنها تتنافس، مرة اخرى وبحكم الاجراءات الرسمية فيما بينها على تزعم المعارضة وليس على تشكيل الحكومة الجديدة. فحزب "الوفد" الذي يمر في مرحلة انتقالية بعد ذهاب زعيمه الراحل فؤاد سراج الدين وانتخاب نعمان جمعه بدلا منه لزعامة الحزب يعيش مرحلة انحسار وضمور. فقد حصل الحزب في انتخابات عام 1984 على 57 مقعداً نيابياً، انخفض هذا العدد الى 25 مقعدا في انتخابات عام 1987، وانخفض مرة ثالثة في الانتخابات الاخيرة عام 1995 الى 6 مقاعد فقط. واذا كان هذا التراجع يعكس نسقا في اداء الحزب الانتخابي، فإنه ليس هناك من سبب يحول دون استمرار هذا النسق اي تناقص نواب الحزب. اما حزب "العمل" المهدد بالغاء ترخيصه القانوني فإنه لم يتمكن في السابق من تشكيل تكتل نيابي يهدد هيمنة الحزب الحاكم على المجلس النيابي ولا يتوقع ان ينجح في ذلك مستقبلا، وهذا الامر ينطبق على حزبي التجمع والناصري اللذين يمثلان بالرموز التاريخية في الحزب دون ان يعكس ذلك بالضرورة حجم التأييد للتيار الناصري او للمتعاطفين مع اليسار المصري. يبقي "الاخوان المسلمين" وهم يلقون في الشارع المصري قوة تسمح لهم بادخال عدد كبيرة من النواب وبتكوين كتلة معارضة مؤثرة داخل المجلس. الا ان الحملة الامنية التي طالت اعضاء الحزب الناشطين ممن يشكلون عصب آلته الانتخابية قللت من هذا الاحتمال، هذا مع العلم ان الحزب نفسه خفض عدد مرشحيه بنسبة النصف تقريبا تجنبا لدخول صراع حام مع الحزب الحاكم. هذه المعطيات تحد من دور الاحزاب السياسية في الانتخابات القريبة وفي المجالس النيابية المنبثقة عنها. وفي هذه الحالة فإنه على الذين يعتقدون انه لا حياة ديمقراطية حقيقية بدون احزاب سياسية ان يأملوا في حصول تطورات كثيرة قبل ان تتأصل الديموقراطية في الدول العربية الثلاث التي جرت فيها الانتخابات مؤخراً. ولكن خلافا لما يعتقده هؤلاء فإن البعض يسأل: هل ان الاحزاب ضرورة ديمقراطية. يجيب فريق من المعنيين بالشأن الديموقراطي، مثل الباحث الفنلندي داغ انكار، بالنفي. ويستعرض انكار تجربة ستة دول في المحيط الهادئ تطبق النظام الديموقراطي ولكن بدون وجود احزاب فيها. وتشترك هذه الدول في عدة خصائص منها ان ثقافتها السياسية تشدد على الجماعة وليس على الفرد، وانها تشدد على حل الخلافات بالتفاهم والتراضي وليس عن طريق الاحتكام الى قرار الاغلبية. وتأكيدا على هذه الروحية فإن واضعي دستور دولة "بيلاو"، وهي واحدة من هذه الدول، سموا مجلس النواب فيها "بيت الهمس" وذلك اشارة الى نمط المداولات التي تجري بين اعضاء المجلس قبل اتخاذ القرارات. فخلافا لصور المناقشات الحامية التي تسبق اقرار مشاريع القوانين في البرلمانات الديموقراطية، فإن هذه المشاريع "... تقر بالتراضي في بيلاو عبر المشاورات الهادئة والمفاوضات السرية بين اعضاء المجلس". كذلك يقول دستور دولة توفالو الواقعة ايضا في المحيط الهادئ ان المبادئ التي يستلهمها المشرعون في المجلس النيابي هي "التفاهم، التهذيب، والبحث عن الاجماع بما يتناسب مع تقاليد توفالو وليس مع الافكار الغربية التي تزكي المواجهات والشقاق". لئن لعبت الثقافة السياسية دورا مهما في نجاح تجربة الديموقراطية التي تنقصها الاحزاب في تلك الدول الباسيفيكية، فإن العامل الابرز في نجاح تلك التجربة هو صغر حجم هذه الدول فعدد سكان توفالو هو 10 آلاف نسمة وعدد سكان بيلاو هو 15 الف نسمة واكبرها هي مايكرونيزيا التي بيلغ عدد سكانها 105 آلاف نسمة. وهذا يعني ان سكان تلك الدول يستطيعون التعرف على كافة ممثليهم في المجالس النيابية وان يصلوا اليهم بصورة مباشرة اذا ارادوا مطالبتهم باقرار مشروع معين. وهذه حالات استثنائية لا تنطبق حتى على اصغر الدول العربية مثل جزر القمر التي يبلغ عد سكانها 600 الف التي تضم 16 حزباً سياسياً. اما في الدول الكبيرة فإن المواطنين يحتاجون الى الاحزاب لكي يجمعون طاقاتهم وامكاناتهم حتى يتمكنوا من التأثير على سياسة الحكومة وحتى لا يواجه المواطن السلطة وهو مذرر ومعزول ومستفرد. فقيام الاحزاب السياسية ليس هدفا بحد ذاته ولكنه وسيلة لتمكين المواطنين والمواطنات من المشاركة في الحياة العامة. واذا استثنينا تجارب الديموقراطيات المجهرية، حيث لا يشعر المواطنين والمواطنات بحاجة ماسة الى الانخراط في الاحزاب العصرية كي يؤثروا على سياسة الدولة، فإن شعوب الاكثرية الساحقة من الدول الديموقراطية تعتبر التعددية الحزبية من شروط قيام النظم الديموقراطية. من هنا فقد ارتفعت نسبة انظمة التعددية الحزبية من 45 في المئة من مجموع النظم السياسية في العالم عام 1989 الى 57 في المئة في منتصف التسعينات جنبا الى جنب مع الدمقرطة ودخولها مجتمعات جديدة. في التقاليد الفكرية العربية هناك نظرات يمكن تأوليها على نحو يتعارض مع متطلبات قيام واستقرار النظام الديموقراطي وفي المقدمة منها تحقيق التعددية الحزبية. وفي التجارب الحزبية العربية المعاصرة هناك ما يجعل المواطنين ينفرون من الاحزاب ويخشون من آثارها الضارة على التطور السلمي للمجتمعات. وهذا يفسر جانبا من التراجع والتعثر الذي تواجهه الاحزاب في المنطقة العربية والذي بدت مظاهره ونتائجه في الانتخابات النيابية والشورية في الدول الثلاث. الا انه ليس من الصعب على المعنيين بتطور الحياة السياسية العربية ان يبينوا للمواطنين فوائد التعددية الحزبية واطلاق حرية الاحزاب وتمكينها من دخول حلبة التنافس السلمي. كذلك لن يكون مستحيلا على المعنيين بمستقبل الديموقراطية اقناع الرأي العام بضرورة التمييز بين الاحزاب التي تلتزم بالديموقراطية والاحزاب المناقضة لها، وان النمط الاول من الاحزاب يوفر ضمانة رئيسية للدمقراطية في المنطقة العربية. ان اعادة الاعتبار الى الحياة الحزبية بين المواطنين توفر المدخل الافضل لمطالبة النخب الحاكمة بمراجعة موقفها من التعددية الحزبية وباحترام اصول اللعبة البرلمانية. * كاتب وباحث لبناني.