ليس استناداً الى مقولة شائعة بأن السياسة الخارجية هي امتداد للداخلية، ولكن لأن هذه الأخيرة محور نجاعة كل نظام سياسي والفيصل في سلامة خياراته وحسن ادائه. من هذا المنظور، فإنه سيكون أمراً منطقياً ان تحظى الانتخابات النيابية المصرية هذه المرة، باهتمام كبير في الخارج، وكما هو الحال مع سابقتها الانتخابات اللبنانية، التي تم الانشغال بها باعتبارها مقياساً لمدى استعادة النظام اللبناني عافيته كنظام برلماني تعددي. في حال مصر، فإن ربع القرن الأخير الذي شهد بداية تجربة التعددية، قلما جرى انشغال في الخارج بتطورات الوضع الداخلي في البلاد. والمقصود هنا انشغال الرأي العام العربي، وليس مجرد اهتمام وسائل الاعلام وصانعي القرارات ومراكز الابحاث. ويعود ضعف الاهتمام العربي بالوضع الداخلي المصري الى المرحلة الناصرية التي ركزت الانظار أو حولتها باتجاه السياسة الخارجية حصراً والتي قادها الزعيم الراحل، باعتباره رمزاً لسياسة قومية تحررية وليس مجرد رئيس نظام سياسي. ولهذا النظام ما له وعليه ما عليه في الأداء الداخلي تجاه بلده وشعبه. ولم يلبث الاهتمام الخارجي ان تحول في عهد الرئيس السادات الى السياسة الداخلية، ولكن من منظور ضيق يجري التركيز فيه على معارضي الرئيس دون سواهم، وعلى مواقفهم حيال السياسة الخارجية وبالذات المتعلقة بواشنطن وموسكو ومعاهدة السلام مع تل ابيب. اما في عهد الرئيس مبارك، فقد اتسعت وتيرة الاهتمام بعض الشيء، حيث بدأت التجربة الديموقراطية تنال حظها من هذا الانشغال، ولكن التركيز لم يتوقف على معارضي التطبيع وقد بات بين هؤلاء التيار الاسلامي، وهو أياً كان الرأي فيه تيار "أصيل" عريض، ولا يقتصر خطابه على الشأن الخارجي. وهذه هي زاوية الاهتمام الأولى التي تشد المعنيين الكثر في أوساط الرأي العام الخارجي وبالذات العربي، حيال الانتخابات التي يستعد المصريون لها هذه الأيام. ذلك ان هذا التيار الذي تمثله جماعة "الاخوان المسلمين"، يحظى منذ بدء تجربة التعددية المنابر باعتراف واقعي. وينشط بصورة شبه علنية وقيادته معروفة. مع ذلك فإنه لم يتمتع بعد بترخيص قانوني، دون ان يحول ذلك بينه وبين خوض الانتخابات. وقد خاضها غير مرة بالتحالف مع أحزاب اخرى، ووصل اعضاء منه الى مقاعد البرلمان مجلس الشعب إضافة الى قيادة النقابات المهنية، وبالذات نقابة المحامين. ويقال مع ذلك ان التنظيم محظور استناداً الى قانون الاحزاب، ولا يحتاج المرء الى ذكاء خاص ليدرك ان هذا الحظر قد اسهم في دوام واتساع شعبية "الجماعة"، وهذا الى أسباب اخرى بالطبع تتعلق اساساً بتغلغل الجماعة في نسيج الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية، حيث تؤدي خدمات تتلكأ عن أدائها الحكومة والقطاع الخاص معاً. تقول الأوساط الرسمية ان "الجماعة" لا تشارك في الانتخابات. لكن هناك أعضاء مرشحين عنها وان بصفة مستقلين، فذلك لا يقلل من الطابع الحزبي لهؤلاء فضلاً عن تحالفات يقال انها قيد التشكيل مع أحزاب قانونية. ولا شك ان التعامل المضطرب مع الجماعة يلقي بظلاله على الحياة السياسية الداخلية، التي تبدو ملامحها متداخلة ومختلطة رغم التجربة الطويلة للدولة المصرية في تقنين التعامل مع التشكيلات السياسية. ومعلوم ان التنظيمات الاسلامية في العالم العربي تتعاطف مع جماعة "الاخوان المسلمين" باعتبارها الحركة الأم، ولكن الحركة نأت بنفسها على العموم عن محنة العنف الأخيرة التي شهدتها مصر، مما يؤذن باتخاذ موقف سلبي من مجرى الانتخابات. وبين القوى السياسية الأخرى يبرز الحزب الوطني الحاكم. وهناك رأي سائد في أوساط الباحثين المصريين بان هذا الحزب لا يعدو كونه مجتمعاً لكبار موظفي الدولة ودوائر من رجال الاعمال، وانه مجرد اطار لبرمجة الولاء. والتحفظات عنه لا تتوقف هنا بل تشمل كونه قوة مانعة تحول دون تفاعلات سياسية طبيعية، ودون تنمية سياسية حقيقية. ومن غرائب الانتخابات ان هذا الحزب شهد تزاحماً بين اعضائه على الترشيح للانتخابات، ومن لم يوفق في مسعاه هذا، وبصرف النظر عن مؤهلاته ومؤهلات سواه، سارع الى الترشح مستقلاً، شاء من شاء وأبى من أبى داخل أطر الحزب. والأهم بعدئذ ان الدولة احتفظت في مرحلة التعددية بتجربة التنظيم الحاكم، وبدلاً من الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي بات هناك حزب وطني ينال مسبقاً في كل انتخابات فوزاً كاسحاً، لأسباب معلومة تتعلق بالتداخل بين الحزب والحكومة، بحيث يتمتع الحزب بكل التسهيلات والتأثير على مصالح الجمهور. ومن الغريب ان لا يجري أي حديث عن فك الارتباط بين الدولة والحزب ولو كوعد للمستقبل البعيد، مما يجعل التجربة الديموقراطية محكومة بآليات من خارجها، بل على تعارض معها، وذلك استناداً الى ان الأنظمة الديموقراطية لا تتسع لظاهرة حزب حاكم. والى هاتين المسألتين يلاحظ التراجع في ترشيح النساء لدى مختلف الاحزاب وهو مثير للقلق، بالنظر الى حجم مشاركة النساء في الحياة العامة. ولا شك ان هناك اسباباً عدة وعوامل متشابكة بحيث لا تتحمل الدولة وحدها مسؤولية هذا التراجع، غير انه مما يسترعي الانتباه ان الحزب الحاكم اكتفى بترشيح 11 سيدة من مجموع مرشحيه وهو 444 وهو عدد مقاعد مجلس الشعب بما يؤشر الى رؤية هذا الحزب لدور النساء. ثم هناك الفسحة المحدودة أمام زعماء الاحزاب لشرح برامجهم عبر محطة التلفزيون، فيما خدمات الدولة تحتسب لوزراء مرشحين عن الحزب الوطني. هذه الملاحظات لا تقلل بطبيعة الحال من أهمية وحتى جاذبية "الاستحقاق" الانتخابي في مصر، وخاصة مع تحول الديار المصرية الى ميدان مفتوح للحملات الانتخابية، كما هو الحال في المغرب ولبنان، وبصورة أقل في الأردن واليمن والكويت. وحيوية هذه الحملات والقيود غير المرئية عليها، دليل حيوية المجتمع ومرونة النظام السياسي. أما الإشراف القضائي التام، فهو أحد المنجزات التي يستحق ان يعتز بها المصريون، خاصة وان هذا القضاء مشهود له ليس فقط بالحياد والنزاهة، بل كذلك بالشجاعة الأدبية وشدة المراس.