عندما ترشح ألبرتو فوجيموري لانتخابات الرئاسة في البيرو، للمرة الأولى في 1990، لم يكد أحد من أهل الحل والعقد والضالعين في شؤون السياسة فهماً وتحليلاً، يعير الأمر اهتماماً أو يأخذه على محمل الجد، إذ عُدّ واحدة من تلك الظواهر التي تتراوح بين الفولكلورية والطرافة والتي كثيراً ما تنشأ على هوامش المواعيد الاقتراعية الكبرى. فتشوش أو تشاغب قليلاً، وتضيف الى الحياة السياسية بعض ملح وتوابل. وإذا ما نجد من أبدى قدراً من الحفول بمثل تلك الترشيحات الهامشية، من خارج المؤسسات القائمة والطبقة السياسية، فقد أولاه الى ذلك الذي أقدم عليه ماريو فارغاس يوسا. فالرجل كاتب ذائع الصيت عالمي الشهرة، وهو لذلك ربما استهوى البعض بين أوساط المثقفين وجمهور المتعلمين. أما فوجيموري، فلم يكن في مجال الشأن العام أحداً. فذلك الرجل الذي ولد في 1938 من أسرة يابانية هاجرت الى بيرو قبل سنتين من ذلك التاريخ، لم يكن معروفاً إلا على نطاق أكاديمي ضيق، حيث كان يتولى مهام التدريس والادارة في بعض الجامعات، بعدما أنهى تعليماً جامعياً كان فيه جاداً مثابراً لامعاً، تماهياً منه مع الكليشيه الملازم عادة لبني جلدته في ذلك الصدد ربما. فكان أن حصل على شهادة في الهندسة الزراعية من جامعة محلية، قبل أن ينال أخرى في الرياضيات من جامعة ويسكونسن الأميركية. وهكذا، لم يكن فوجيموري، لدى ترشحه أول مرة وقد تخطى من العمر الخمسين عاماً لم تترك كبير أثر على سحنته الآسيوية، قد أطل على الناس إلا من خلال برنامج تلفزيوني، عنوانه "لنكن معاً"، أشرف على إعداده، ولفت الأنظار إليه، حيث يبدو أن تحليله للحياة السياسية كان في الغالب متميزاً نفّاذاً. وتلك تجربة في المجال الاعلامي ربما كانت، بالرغم من نجاحها النسبي، متواضعة، غير أن فوجيموري ربما تبين فيها ما لم يلحظه أحد سواه: بعض حظوة وصدى لدى الجمهور ربما أمكن تفعيلهما حضوراً ونفوذاً سياسيين. وهو لذلك بادر في 1989 الى تشكيل حزب صغير أطلق عليه اسم "كامبيو 90" أي تغيير 90 استعداداً لخوض رئاسيات العام التالي، حيث كانت سنوات حكم الرئيس ألان غارثيا قد أوصلت البلاد الى الدرك الأدنى من التردي والفوضى على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. حتى إذا ما أزف موعد الرئاسيات المذكورة، انطلق فوجيموري في أتون حملتها، قليل الأنصار شحيح الموارد، فاضطر الى بيع شاحنة صغيرة وجرار كان يمتلكهما لمجابهة أعبائها المالية. غير أن ذلك لم يكن كل ما ميز حملة فوجيموري الانتخابية الأولى تلك، بل ان أبرز ملامح لا نمطيتها وأكثرها دلالة ربما وقعت على غير صعيد فقرها المادي ذاك، أو ان هذا الأخير قد دفع صاحبها الى الابتكار. فهو "أخذ" برنامجه، وهو ليبيرالي يكاد أن يكون مستنسخاً حرفياً عن تعاليم البنك الدولي، وطفق يطوف به أرجاء البلاد، خصوصاً مناطقها النائية وأكثرها تخلفاً وإدقاعاً، يبشّر به ويكسب له الأنصار. فكان أن بزّ بذلك أهل اليسار وأهل اليمين معاً، حيث كان، قياساً الى هؤلاء واضح الشعارات والأهداف، وكان قياساً الى أولئك أكثر فعلاً في مخاطبة الشرائح الدنيا للمجتمع، تلك التي درجوا هم على التوجه اليها من خلال منظمات وهيئات ربما زعمت تمثيلها لها ايديولوجياً لكنها بالتأكيد تقصر عن الاضطلاع بتلك الوظيفة سوسيولوجياً. برهنت تلك الاستراتيجية على نجاحها، فحقق فوجيموري فوزاً انتخابياً ساحقاً أوصله الى سدة الرئاسة. اما عن أسباب ذلك الفوز، فهي مما كثرت بشأنه التحليلات والتخمينات... هل هي الباروكية السياسية التي ربما كانت من سمات أميركا اللاتينية والتي قد تجعل من أغرب الاحتمالات واقعاً ماثلاً؟ هل هي، على ما قيل، أصوات الناخبين المهمشين، من هنود حمر وسود استهواهم ذلك المرشح المتحدر من أسرة حديثة العهد بالهجرة والصادر عن أقلية ضئيلة، تعرفوا على أنفسهم فيه فأرادوا أن يثأروا من خلاله وبواسطته؟ هل هو التبرم بطبقة سياسية غارقة في العجز والفساد حتى الرقبة تم رفضها برمتها؟ هل هي صورة الكفاءة أفلح ذلك المرشح الموصوف بأنه من الاقتصاديين اللامعين في اعطائها عن نفسه؟ هل هو حلم لا عقلاني بعلاقات خاصة مع اليابان، ذلك البلد الذي كان إذّاك في أوج ازدهاره، تنعكس رخاء شاملا؟ أم هي كل تلك العوامل، وسواها مما لم يتسن ذكره، مجتمعة؟ ما يمكن قوله إن فوجيموري لم يخيب ظن ناخبيه طوال سنوات حكمه الأولى، حتى ظل، الى أمد طويل، متمتعاً بأعلى نسب الشعبية. علماً بأن ذلك الرئيس الملقب، تحبباً ب"التشينو" أي الصيني لأنه آسيوي، كما كان يقال "التوركو" عن المهاجرين من بلاد الشام. وتلك التقريبية البالغة والمغالية في إعادة الناس الى "أصولهم" ربما كانت أمراً لافتاً مثيراً في بلد تشكل ديموغرافياً من موجات متلاحقة من الوافدين! قد توخى في مواجهة الأزمة الاقتصادية علاجاً قاسياً ثقيل الوطأة. فرفع الأسعار دون رحمة ونفذ برنامج خصخصة هل لا أنجدنا أحدهم بمصطلح أقل بشاعة من هذا؟ واسع النطاق باهظ الكلفة الاجتماعية الى غير ذلك مما كان يبدو، خلال العقد الأخير من القرن الماضي، بإيعاز من المؤسسات النقدية الدولية، أقنوما لا محيد عنه. قد تكون النتائج التي تحققت هي ما شفع لتلك السياسة ومكّن الناس من الجَلَد في مكابدتها. ذلك انه في خلال السنة الأولى من رئاسة فوجيموري كانت نسبة التضخم قد تدنت من سوية فلكية كانت عليها، إذ كانت تبلغ 7650 في المئة، لتستقر عند نحو 140 بالمئة، وعادت الحياة الاقتصادية تدريجياً الى التعافي، قبل أن يدركها التدهور مجدداً خلال الآونة الأخيرة. كما نجحت حكومة فوجيموري في مجابهة حركات أقصى اليسار المتطرف على نحو فاعل فوجهت اليها أعتى الضربات، حيث ألقي القبض على زعيم حركة "الدرب المضيء"، وهي ماوية الاتجاه، كما وجهت ضربة قاصمة الى حركة "توباك أمورو"، عندما احتل مقاتلوها مقر اقامة سفير اليابان في ليما واحتجزوا نزلاءها رهائن. ولعل فوجيموري قد اكتسب من طريقة وصوله الى الحكم ملمحاً، هو المتمثل في الانقلاب على النصاب القائم من هامشه أو من خارجه وفي تعنيفه وفي تطويعه. وهذا كان في ما مضى عنوان نجاعة، لكنه تحول، مع مرور الزمن والانجرار بالسلطة نحو الانحراف، الى "عاهة أصلية". ذلك أن فوجيموري، وقد حول "هامشيته" و"برانيته" في علاقته بالطبقة السياسية من أسلوب في تخطي الجمود السياسي الى استراتيجية حكم، ابتدع ما يمكن تسميته ب"الدكتاتورية ذات الوجه الديموقراطي". فالتعددية ونواميسها محترمة في البيرو في الظاهر، ومؤسسات الحكم تعمل والأحزاب نشيطة لا يكاد يواجهها قسر وحرية الصحافة مضمونة، أما أسلوب التحكم فيها فلا يبدو قائماً على قمعها أو الاكتفاء بها صورية في الحد الأدنى، على ما هي عليه الحال في عديد البلدان النامية. لكن من خلال إرباكها وإفسادها بمبادرات تسلطية من خارج تلك المؤسسات، أي من خلال ضرب من الانقلابية اليومية عليها، تجري دائمة على جرعات، مبثوثة في ثناياها. تتوسلها ولا تميتها. هي آلة محكمة، لكنها بالغة الهشاشة، إذ يكفي أن يذاع شريط فيديو، على ما جدّ مؤخراً، يظهر فيه فلاديميرو مونتيسينوس، مسؤول جهاز الاستخبارات والروح الشريرة للنظام، وهو يناول أحد نواب المعارضة مغلفاً مليئاً بالدولارات مقابلاً لذمته، حتى يضطرب كل شيء، وحتى يضطر فوجيموري الى اعلان اجراء انتخابات رئاسية قبل أوانها، التزم بعدم مشاركته فيها. قد يكون في الأمر مناورة، على ما يرى البعض ممن كان يتمنى أن يبادر رئيس البيرو الى الاستقالة. لكن ما لا شك فيه أن سحر "التشينو" قد انقلب عليه، لأن ما اعتبره استراتيجية حكم ليس في نهاية المطاف إلا بعض حيل صغيرة... خصوصاً أن هناك "هامشياً" آخر ينتظر فرصته ويتأهب، برز خلال انتخابات الربيع الماضي، هو أليخندرو توليدو، وهو أستاذ جامعي من الهنود الحمر، من السكان الأصليين... وفي ذلك ما يفيد بالكثير عن حالة الطبقة السياسية في ذلك البلد، عاجزة منهكة لا يأتيها التجديد، دماً طازجاً أو مخاطر وانزلاقات، إلا من أطرافها القصية.