حالة من الهلع اصابت الاقتصاديات العالمية بعد ان بدأ تساقط الكبار في دائرة الركود في العالم المنعدم, فمنذ فترة ليست بعيدة لم تكن الازمة قد طالت الاقتصاد الامريكي في حين كان كل من الاقتصاد الاوروبي ومن بعده الياباني شبه متماسكين, ولكن الاوضاع تغيرت وبات الجميع في الركود سواء بعد ان انخفضت معدلات النمو في العديد من دول العالم. جاء ذلك في التقرير السنوي لمركز الارض لحقوق الانسان في مصر والذي اشار الى زيادة المخاوف من ازمة الركود في العالم بعد دخول اقتصاد كوريا واندونيسيا وسنغافورة مرحلة متقدمة من الركود كجزء من ازمة النمو في جنوب شرق اسيا, حيث اعلنت الحكومة على سبيل المثال في سنغافورة انخفاض النمو الاقتصادي بنسبة 10.1% خلال الربع الثاني من العام الماضي والمنتهي في الثلاثين من يونيو الماضي مقارنة بالربع الاول من العام نفسه والذي شهد انخفاضا في النمو الاقتصادي بنسبة 11% مقارنة بنفس الفترة من عام 1999, ويتوقع الخبراء كما يشير تقرير وحدة الايكولوميست ان يتكرر نفس السيناريو خاصة وقد سبق كل من تايوان وتايلاندا والفلبين الاعلان عن انخفاض النمو الاقتصادي بها خلال الربع الاول من العام الجاري في ظل التراجع الشديد في اجمالي الناتج المحلي بها, الامر الذي اعاد الى الاذهان الازمة الاقتصادية التي ضربت اقتصاديات هذه المنطقة عام 1997, وتوقع معهد دي اي دبليو الالماني ان يشهد نمو الاقتصاد الالماني اكبر اقتصاديات الاتحاد الاوروبي تراجعا خلال العام الجاري لتصل معدلات نمو الى 2.1% كذلك اعلن صندوق النقد الدولي توقعاته في تقريره السنوي بان يسجل الاقتصاد الالماني خلال العام الجاري نموا بنسبة 1.25% بعد ان كانت توقعاته السابقة تشير الى وصول معدلات النمو 1.9% وهو ما سيكون له تأثيرات سلبية على قدرة الحكومة الالمانية على تنفيذ خططها بشأن توسيع اقتصادياتها وإعادة هيكلته بالاضافة الى محاولاتها قيادة دول المنطقة, ولم يقتصر الامر على المانيا فقط بل شهدت اقتصاديات كل من فرنسا وايطاليا وهولندا التي تشكل اقتصادياتها بالاضافة الى الاقتصاد الالماني حوالي 76% من حجم اقتصاد الاتحاد الاوروبي تراجعا كبيرا في معدلات النمو الاقتصادي الامر الذي ادى الى زيادة المخاوف على تدهور الاوضاع الاقتصادية بمنطقة اوروبا. وفي ظل عصر العولمة والتشابكات الاقتصادية انتقلت عدوى تباطؤ نمو الاقتصاديات الكبرى الى اقتصاديات الدول الناشئة التي لا تتحمل الدخول في نفق اقتصادي مظلم يقضي على احلام الرخاء الاقتصادي والتنمية بها ومن ثم فقد بدا في الافق ان العالم مقدم على فترة طويلة من الركود الاقتصادي تمتد من الولايات المتحدة الامريكية في اقصى الغرب الى بلاد الشمس المشرقة في اليابان في اقصى الشرق, لاسيما بعد احداث 11 سبتمبر فبعد سنوات طويلة من النشاط, بدا الاقتصاد الامريكي يشهد في الفترة الاخيرة تباطؤا ملحوظا في معدلات النمو الاقتصادي حيث انخفض اجمالي الناتج المحلي انخفاضا كبيرا متأثرا بالاداء السيىء للعديد من الشركات مما ادى الى تراجع اسواق المال الامريكية وزيادة معدلات البطالة وقد واجهت هذه الشركات الازمة عبر تسريح الآلاف من عامليها لتخفيض النفقات، كذلك تراجعت مبيعات شركات الكمبيوتر والانترنت واظهرت العديد من التقارير الاقتصادية ان قطاع الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة بدأ ينزلق الى هاوية الركود في ضوء انخفاض الطلب على السلع الصناعية الامر الذي ادى الى قيام العديد من الشركات بفرض قيود على حجم الانتاج حتى لايتحول الى مخزون سلعي. ولم تفلح المحاولات المتعددة التي قام بها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الامريكي بتخفيض اسعار الفائدة لخمس مرات متتالية حتى وصلت الى 3.5% في محاولة لتشجيع زيادة الانفاق الاستهلاكية وتشجيع الاستثمارات. وفي اليابان ايضا شهدت معدلات النمو الاقتصادي تراجعا كبيرا وانخفض الناتج والنشاط الصناعيين في ظل انخفاض الطلب على السلع الصناعية الامر الذي دفع البنك المركزي الياباني الى تخفيض اسعار الفائدة حتى وصلت الى الصفر من اجل انعاش حركة البيع والشراء كذلك قامت الحكومة اليابانية بضخ المزيد من الاموال الى الاقتصاد للعمل على انعاشه من جديد. وقد ادى تباطؤ نمو الاقتصاد في اليابان الى زيادة معدلات البطالة وزيادة اعداد المشردين لدرجة ان اعدادهم وصلت في طوكيو فقط الى 57000 فرد وفقا لآخر الاحصاءات الحكومية اليابانية التي اشارت الى ان حوالي 85% من هؤلاء المشردين بدون عمل فضلا عن ذلك انخفضت معدلات الاستثمارات اليابانية في الخارج الامر الذي اثار الرعب والفزع في مختلف الاسواق الاقتصادية العالمية خاصة دول شرق وجنوب شرق اسيا لدرجة ان مدير صندوق النقد الدولي اكد على ان اي انتعاش للاقتصاد الياباني سيعزز الاستقرار في المنطقة والعديد من دول شرق وجنوب شرق اسيا. وعلى اثر ذلك قامت كل من الولايات المتحدة واليابان بتشكيل هيئة استشارية للتنسيق بين البلدين في وضع السياسات الاقتصادية في ظل تزايد المخاوف من ركود اكبر اقتصادين في العالم وتهدف هذه الهيئة الى تخفيف المخاوف من ان يؤدي تباطؤ النشاط الاقتصادي في اليابانوالولايات المتحدة اللتين تسهمان معا بنحو 40% من اجمالي الناتج المحلي في العالم الى ركود في الاقتصاد العالمي. وعلى صعيد آخر تعرضت العملات المحلية في وسط اوروبا وجنوب افريقيا كما يشير تقرير البنك الدولي السنوي لضربات موجعة متأثرة بالازمات الاقتصادية في كل من تركياوالارجنتين التي تأثرت هي الاخرى بالاضطرابات الاقتصادية من جارتها البرازيل والتي دفعتها الازمة للاستدانة من الدول الاجنبية والمؤسسات الدولية لدرجة ان الارجنتين استدانت 39.7 مليار دولار خلال ثلاثة شهور فقط, وعجزت الدولة عن دفع الاجور لتشهد الارجنتين انتفاضة شعبية اطاحت بالرئيس الارجنتيني. غير ان هناك اصواتا تسعى للتقليل من حجم الازمة ولكن هذه الاصوات في الوقت نفسه حذرت من ان تعثر كل من تركياوالارجنتين في سداد ديونهما سيؤدي الى انسحاب الاستثمارات الاجنبية سواء كانت مباشرة أوغير مباشرة من مختلف الاسواق الناشئة. ويبقى ان الازمة الراهنة هي احد تعبيرات الركود التضخمي الذي اصاب الرأسمالية منذ اوائل سبعينيات القرن المنصرم ولم تستطع الخروج منه حتى الان الا لفترات متقطعة ومحدودة. سياسة الاصلاح ويطرح المدافعون عن السياسات الليبرالية الجديدة التي يطرحها البنك وصندوق النقد الدوليان ان التكيف الهيكلي هو احد ضرورات العولمة التي ستتيح امكانية النمو الاقتصادي السريع في العالم الثالث وهذا النمو بدوره هو مفتاح الرخاء حيث سيتدفق رأس المال الاجنبي الى البلدان الفقيرة بالاضافة لاستخدامها في تحسين مجالات الصحة والتعليم ورفع مستوى المعيشة بشكل عام. وطبقا لآراء هؤلاء فان مهمة حكومات العالم الثالث، بغض النظر عن ديمقراطيتهم واحترامهم للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيهم، هي جذب اكبر قدر ممكن من الاستثمارات الاجنبية المباشرة ومن اجل تحقيق ذلك يجب على هذه الحكومات ان تشرع للمستثمرين قوانين العمل الجديدة التي تتيح فصل العمال واغلاق المنشآت والغاء اي ميزات للعاملين اكتسبوها طيلة فترات ماضية، بالاضافة الى الاعتماد المطلق على قوانين العرض والطلب بما يعني الغاء كل اشكال الدعم على المياه والكهرباء والنقل والخدمات الاخرى وخصخصة جميع المرافق التي يمكن خصخصتها والغاء كل اشكال الحماية للصناعات المحلية والغاء كل قوانين العمل والايجارات التي تعرقل حرية تداول قوة العمل والارض والعقارات. ويطرح منظرو العولمة ان الاقتصاديات التي تفشل في هذا التحول ستواجه مصيرا كارثيا، فالشركات متعددة الجنسيات ستمتنع عن توجيه الاستثمارات في هذه البلد ومع تأزم الصناعة والزراعة المحليين تكون النتيجة الركود ثم الانهيار. غير ان عواقب الالتزام بهذه السياسات بالذات كانت كارثية للغالبية العظمى من بلدان العالم الثالث فلم تشهد هذه البلدان معدلات النمو التي وعدت بها المؤسسات العالمية بعد تبني هذه البرامج الاقتصادية وحتى المناطق التي شهدت بعض الارتفاع في معدلات النمو الاقتصادية، صاحب هذا النمو افقارا شديدا لقطاعات واسعة من الجماهير وبات واضحا ان التكيف الهيكلي يمثل مشروعا سياسيا واستراتيجية واعية للتحول الاجتماعي على المستوى العالمي تستهدف في المقام الاول جعل العالم مأمونا للشركات متعددة الجنسيات؟ وعلى سبيل المثال فان حجم انتاج جميع بلدان القارة السمراء 48 دولة باستثناء جنوب افريقيا اقل من 1% من اجمالي الناتج العالمي، ويعيش تقريبا نصف سكان القارة بأقل من 65 سنتا امريكيا في اليوم الواحد، وخمس سكان القارة لم تصلهم الكهرباء بعد في حين يعيش 75 بالمائة من الافارقة دون مياه صالحة للشرب. وتهدف سياسات التكيف الهيكلي بالاساس التي يتم تطبيقها في 33 دولة من 48 دولة افريقية تحت اشراف صندوق النقد الدولي منذ الثمانينات الى تأمين دفع فوائد واقساط القروض للبنوك الغربية حتى وان ادى ذلك الى انهيار البنية التحتية وانتشار المجاعات، وفي زامبيا مثلا كل دولار تدفعه الدولة للتعليم تدفع مقابله 5 دولارات لاقساط وفوائد الديون، وفي عام 1995 كان الانفاق على الصحة اقل بنسبة 30 بالمائة مما كان عليه بعد تبني سياسات التكيف الهيكلي مما ادى الى زيادة وفيات المواليد بنسبة 20% وفي امريكاالجنوبية وفقا للتقرير الذي اصدرته الامم المتحدة عام 99 تحت عنوان (آثار سياسات التكيف الهيكلي على التمتع بحقوق الانسان) يكشف تدني دخل معظم السكان في امريكا اللاتينية بنسبة 20% عما كان عليه في عام 1980. كما انخفضت معدلات الاجور بشكل ملحوظ وطارئ.. وفي محاولة لاحتواء التضخم تحض برامج التكيف الهيكلي على الحد من زيادة الاجور.. وتزداد المشكلة تفاقما بالقرار المدروس المتمثل في ابقاء الاجور الحقيقية في معظم البلدان الافريقية مثلا قد هبطت بواقع خمسين الى ستين في المائة منذ اوائل الثمانينيات ويقول تقرير منظمة العمل الدولية عن العمالة في العالم لعام 98 - 99 ان اغلبية اماكن العمل الجديدة في البلدان النامية انما يتم خلقها في القطاع غير الرسمي الذي يشغل قرابة 500 مليون عامل. بيد ان برامج التكيف الهيكلي تتجاهل اهمية نشاط القطاع غير الرسمي ويشير تقرير الامم المتحدة الى ان هناك ادلة لا تحصى تشير الى عدم احترام المعايير المقبولة عالميا في مجال العمل باعتبارها حقا اساسيا من حقوق الانسان كما هو منصوص عليه في مختلف معاهدات الامم المتحدة ومن بين هذه المعايير ما يلي : القضاء على استغلال عمل الاطفال ، وحظر السخرة وحرية تكوين الجمعيات، والحق في التنظيم والتفاوض الجماعي، وعدم التمييز في العمل ، ويلفت التقرير الانتباه الى ان البلدان التي تتنافس فيما بينها لعرض يد عاملة ارخص لجلب الاستثمار الاجنبي المباشر تقلل الآن معاييرها في العمل بشكل جاد، وتقوم حكومات عديدة بالغاء او تعديل تشريعاتها الوطنية في مجال العمل وفي المجال الاجتماعي لاقامة مناطق لتجهيز الصادرات واصبح استخدام اليد العاملة من الاطفال والنساء في مناطق تجهيز الصادرات واسع النطاق ويقترب في بعض الاحيان لعلاقات اشبه بعلاقات الرق، وفي الفلبين وماليزيا مثلا تحقق التوسع السريع في الاستثمار الاجنبي بتكلفة بشرية كبيرة، فالمناطق الاقتصادية المحاطة بجدران كثيرا ما تعتليها اسلاك شائكة تشبه معسكرا ضخما للاشغال الشاقة تقيد فيها بشدة النقابات والاضرابات وحرية التنقل، ان لم تحظر تماما، وبما ان الشركات المتعددة الجنسيات تتوجه للخارج لتخفيض تكاليفها من حيث اليد العاملة فان مستخدميها يتقاضون اجورا ضئيلة جدا تصل الى ثلاثة دولارات في اليوم وكثيرا ما يعيش العاملون في منازل مكتظة ويعملون في ظروف خطرة وهم باستمرار تحت تهديد الفصل من الخدمة، وحسب تقرير منظمة العمل الدولية 98 - 99 فان مناطق تجهيز الصادرات التي انشئت لجلب المستثمرين الاجانب الى البلدان النامية قد خلقت اماكن عمل للملايين من النساء، ولكن غالبا ما تكون ظروف العمل فيها ردئية ولا تستفيد الاقتصاديات المحلية من هذه المناطق الا منافع ضئيلة وذكر التقرير عن قرابة 27 مليون عامل ونسبة 90% من بينهم النساء يستخدمون في اكثر من 850 منطقة من مناطق تجهيز الصادرات في جميع انحاء العالم وهذه نزعة تطورت سريعا في العقود الاخيرة كما تنخفض معدلات الاجور. وفي بلد تلو الآخر نرى التأثير الكارثي لهذه السياسات فالغاء الدعم على الخدمات يؤدي الى انهيار شبكات المواصلات العامة كما ان الغاء الدعم على السلع الغذائية ادى الى سوء التغذية والجوع كعناصر اساسية في حياة الجماهير، فضلا عن ان تحرير النظام البنكي بترك الحرية لكل بنك خاص في تحديد اسعار الفائدة الخاص بما في ذلك البنوك الزراعية ادى الى افلاس قطاعات واسعة من صغار الفلاحين، اما سياسة الخصخصة وهي من الاركان الاساسية لاستراتيجية التحرير الاقتصادي فالنموذج المصري يقدم لنا صورة واضحة لمضمونها الحقيقي، حيث يعرض المصنع للبيع بأقل من قيمته الحقيقية (احيانا اقل من قيمة الارض المقام عليها) ويقوم بشرائها رأس مال المضارب والذي يهدف فقط الى اعادة بيع الاسهم سريعا لتحقيق ارباح سريعة، اما حصيلة البيع فتذهب لدفع اقساط وفوائد الديون وفي السياق ذاته فان تجربة المكسيك في الاصلاح الهيكلي والتي انطلقت منذ الثمانينات والتي اعتبرت طويلا من قبل المؤسسات الدولية كتجربة رائدة ناجحة تظهر ما هو المصير المحتمل الذي ينتظر الدول التي تطبق هذه السياسات، ففي عام 1982 اعلنت المكسيك انها لم تعد قادرة على الالتزام بدفع فوائد واقساط ديونها الخارجية واصبحت علىالفور زبونا لدى صندوق النقد والبنك الدوليين كان الدين الخارجي للمكسيك 95 مليار دولار عام 1981 وبعد ستة اعوام وبعد دفع 102 مليار دولار كان الدين قد وصل الى 112 مليار وفي نهاية الثمانينيات طرح الصندوق الحل السحري امام الحكومة المكسيكية وهو الخصخصة (التحرير الاقتصادي) وعلى الفور الغت الحكومة قوانين الاصلاح الزراعي وتم طرد ملايين الفلاحين من الارض وتم بيع الارض لرجال الاعمال والشركات الزراعية العالمية وكان برنامجا سريعا وعنيفا، وتم بيع نحو 150 شركة قطاع عام خلال الفترة من بين 1988 و1994 واستخدمت الحكومة المكسيكية حصيلة الخصخصة لتسديد 125 مليار دولار اقساط وفوائد ديون ولكن على الرغم من ذلك ففي 1995 كان الدين الخارجي قد وصل الى 134.4 مليار دولار. غير ان برنامج الصندوق الذي فشل في حل مشكلة الديون المكسيكية نجح في شيء واحد فقط وهو اثراء قطاع من البرجوازية المكسيكية بشكل غير مسبوق حيث وصلت ثروة اغنى فرد في المكسيك الى 6.6 مليار دولار اي ما يوازي الدخل السنوي الاجمالي لافقر 17 مليون مواطن مكسيكي ومن جانب آخر في الفترة ما بين منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات تراجعت القوة الشرائية لاجر الحد الادنى بنسبة 80% وزداد عدد المكسيكيين الذين يعيشون تحت خط الفقر من 48.5 مليون فرد الى 66 مليون فرد.