قبل أيام مضت، انتقدت صحيفة "بابل" العراقية، لعدي صدام حسين نجل الرئيس العراقي، وزير الخارجية العراقي، محمد سعيد الصحاف، في مؤشر رأى كثيرون أنه لافت. فإقدام صحيفة عراقية على انتقاد مسؤول عراقي بحجم وزير الخارجية لا يمكن أن يرد إلا الى عدي نفسه. فإن الانتقاد نفسه ليس سوى نصف العبارة. أما نصفها الآخر فهو انتقاد لاذع لأمين عام جامعة الدول العربية الدكتور عصمت عبدالمجيد الذي وصفه المقال بأنه "خبيث" و"يستدرج" الصحاف إلى "شرك نصبه". وزادت أنه "في الوقت الذي كانت الأجواء مهيأة تماماً للمزيد من التفاعل والتعاطف مع العراق، تمكن عصمت عبدالمجيد بخبثه الشيطاني من سحب البساط وتحويل موضوع إدانته وانحيازه المفضوح الى نوع من المجادلة والمهاترة الكلامية لاستدراج وزير خارجيتنا الى الشرك الذي نصبه". وإلى التفاصيل التي بات يعرفها القراء اليوم عن واقعة التلاسن بين الصحاف وعبدالمجيد، نذكر أننا في العام 2000. لكن في العام 1990 صم آذاننا تفسير مماثل لحدث غير مسبوق في التاريخ العربي الحديث عندما غزا العراقالكويت. فبحسب أكثر التفسيرات التي راجت لتبرير الغزو، لم يكن سوى "شرك" نصبته الولاياتالمتحدة و"استدرجت" العراق للوقوع فيه. في هذه الرواية تفسير ذرائعي لا يصمد تماماً أمام الحقائق وأمام المنطق، وهو بقدر ما يرمي ظاهراً الى التحلل من مسؤولية قرار خطير مثل قرار الغزو عبر وضعه في خانة رد الفعل. فإنه يحمل في طياته إقراراً غير مباشر بحجم الخطأ. ولربما تقدم خطوة انتقاد الصحاف اليوم تفسيراً لما كان قد بدا أنه يستعصي على الفهم قبل عشر سنوات. فمقال "بابل" ينتقد "وزير خارجيتنا" لكنه لا ينسى أن يجد له المبرر الكامن في "الخبث الشيطاني" و"الشرك" الذي نُصب له. فعلى رغم أن انتقاد "وزير خارجيتنا" من قبل صحيفة عراقية في لفتة غير مسبوقة تعني إحالة الى الذات بما يعني تخطئتها، فإن ربط الخطأ غير المعلن بالخبث الشيطاني والفخ المنصوب، محاولة لتبرير الخطأ عبر الإحالة على الآخر. تماماً مثلما تم ترويج مفهوم محدد للمقابلة الشهيرة بين صدام حسين والسفيرة الأميركية في بغداد، ابريل غلاسبي، قوامه أن الأخيرة اعطت صداماً الضوء الأخضر لغزوه للكويت. فالإحالة على الآخر هي نفسها هنا تقدم كتبرير لقرار القيادة العراقية بغزو الكويت. فهل يفصح انتقاد الصحاف اليوم عن نصف العبارة الناقص في رواية المقابلة عام 1990؟ لكن "الآخر" هنا ليس طارئاً بل إنه حاضر بقوة الى الحد الذي يشكل فيه أحد مقومات الوجود، وإلى الحد الذي يستحيل فصله عن الذات كخاصية صميمة في الخطاب السياسي للقيادة العراقية منذ أمد طويل. فهو يطل دوماً كخارج شيطاني لا يكف عن حبك المؤامرات ضد العراق، وهو على هذا النحو يرتبط بعلاقة سببية تشكل أساساً مستمراً يضفي على سياسات القيادة طابع رد الفعل. فهي لا تقدم على أي خطوة إلا من باب التعاطي مع تحديات الخارج. والخارج هذا يصور باعتباره منبع الشرور. وهذا هو الشرط اللازم لتبرير كل ما يتصل بالذات، أي كل ما يجري بالداخل بل لتبرير وضع بأكمله. وفي الفصول الأحدث للتاريخ العراقي الراهن، ربما تذكرنا معاناة العقوبات القائمة منذ عشر سنوات بهذا الحضور الطاغي للخارج الشيطاني، لكن هذا الخارج بمعانيه الأشمل، وفي صور شتى لا تحصر، مغروس في الوعي اليومي للعراقيين على نحو استثنائي منذ 32 عاماً. فإذا جاز لنا أن نفهم إعدام عدد من العراقيين في اليوم الثاني لانقلاب 17 تموز يوليو 1968 بدعوى الخيانة العظمى والتجسس لإسرائيل، كرسالة رعب وترهيب موجهة للعراقيين أنفسهم، فإن هذه الخطوة - ونذكر انها حصلت في اليوم الثاني لانقلاب تموز - سجلت أول حضور للخارج في خطاب السلطة الجديدة وفي وعي العراقيين بحكامهم الجدد وقتذاك. ومنذ ذلك التاريخ ظل "الخارج الشيطاني يوالي حضوره على نحو لا فكاك منه عندما تحول الى تفسير لا غنى عنه لكل ما يجري بالداخل. فالصراعات المبكرة على السلطة بين أجنحة الحزب الحاكم، كانت ترد للخارج دوماً، بدءاً من تمرد ناظم كزار في 1973 وانتهاء بإقصاء الرئيس السابق أحمد حسين البكر، في 1979 وما رافقه من إعدامات طاولت تياراً داخل الحزب الحاكم اتهم اعضاؤه بالإعداد لمؤامرة مدعومة من الخارج. لم تلبث الحرب العراقية - الإيرانية أن اندلعت وكل تنويعات الدعاية الرسمية العراقية حول هذه الحرب لا يمكن ردها في نهاية المطاف إلا الى أساس وحيد هو "الخارج الشيطاني" مرة اخرى. هذه خلاصة يمكن فهمها بعيداً من التعاطي العاطفي لما شكلته هذه الحرب، من خلال قراءة ما جرى في العراق نفسه طيلة السنوات الثمان التي استغرقتها الحرب. وإذا جاز لنا القول إن هذه الحرب وطدت سلطة الثورة الوليدة في إيران في ذلك الوقت، فإن الأمر نفسه هو ما حدث في العراق. فالخارج الشيطاني وحربه لم يقتصر تأثيره على ممارسة الحرب على الداخل وحده، بل إنه قدم المبرر الأقوى لإحداث تغيير هائل في هذا الداخل كانت نتيجته النهائية هو إحكام القبضة على الوضع بشكل غير مسبوق. وفي العراق تم الاستنجاد بالتاريخ مجدداً عندما راح الإعلام الرسمي يطلق على هذه الحرب اسم "القادسية"، ويسمي الإيرانيين بالمجوس. وفي نهاية المطاف، فإن التوغل عميقاً في التاريخ في التعامل مع "الخارج"، لم يكن سوى تعبير عن رغبة في استنفار الوعي والذاكرة الجماعية للعراقيين بتضخيم إضافي للخارج يضاف إلى واقع الحرب الملموس والحسي. تعظيم شرور الخارج الشيطاني، هو نفسه الذي قاد الى أن توضع دولة صغيرة مثل الكويت على رأس مؤامرة لتدمير العراق. وسواء أكان النفط هو المبرر أو رفض الكويتيين التنازل عن ديونهم للعراق أو إصرارهم على ترسيم الحدود، فالكويت بالنهاية كانت في الخطاب الرسمي العراقي رأس مؤامرة بررت الغزو بأن أعطته طابع رد الفعل، أو التصرف الدفاعي المحض. وأثمر حجم المأزق تعظيماً متزايداً ل"الخارج" ومؤامراته ضد العراق في الخطاب الرسمي العراقي. وتكرس "الخارج" كمحيط شيطاني يتربص بالعراق على نحو أكيد ولا فكاك منه. ولمن يملك ذاكرة أو أرشيفاً، يمكنه أن يلحظ كيف أن صفة "الشيطاني" بدأت تتردد بالتدريج منذ سنوات عند وصف الخارج، الى أن التصقت به على نحو عضوي. فالخارج والشيطان أصبحا اليوم مترادفين متلازمين في الخطاب الرسمي العراقي. وعلى هذا النحو تم اختزال المعاناة التي يحياها العراقيون الى تاريخ أحدث، يسقط من الوعي والذاكرة ما سبق ويلغيه، بحيث لا تعود المعاناة في النهاية سوى نتيجة للعقوبات وحدها. هذه الإحالة المستمرة للخارج الشيطاني توالي تقديم مفارقات لا تنتهي. فالكويت التي تم تضخيمها وتعظيم الشرور الآتية منها قبل الغزو، اجتاحتها القوات العراقية في 7 ساعات. والأمين العام للجامعة العربية الذي بات مرادفاً - بحكم المنصب والواقع - لضعف الجامعة العربية نفسها وسلبيتها، بات يصور اليوم باعتباره عدواً ذا خبث شيطاني استدرج من خلاله "وزير خارجيتنا" إلى "شرك نصبه" وأضاع فرصة جديدة أمام العراق وأمام المتعاطفين معه من العرب. * كاتب وصحافي بحريني.