إلى... عادل القصاص، الذي حين رأيته، كان لا بد للسماء أن تبكي، وللمدينة ان تمّحي، ولأصابعي ان تلتقط الحنان من عينيه. روحي ينتابها توتر ما. في هذه الظهيرة ظلي يضايقني، ملأني بالضجر، توقفتُ متأملاً. على الرصيف جلست، جلس ظلي. أشعلتُ سيجارة بيضاء الجسد. تشبث ظلي بملابسي. أف يا ظلي يا شرطي الطبيعة الشريف: "Please يمكنك أن تنتظرني في المقهى، لا تخف سأعود". أنا وظلي وبعض سكان ذاكرتي نتمشى على الرصيف، باحثين عن مقهى وقور. كانت الشمس تتقيأ الضوء. يا سلام يا ظلي هذا المقهى يناسبك: "Please يمكن أن تنتظرني عند ذلك الركن الهادئ". بهدوء انسحب ظلي مني، لكنه لم يدخل المقهى، مشى سريعاً أمامي. يا لهذا الظل العنيد يغيظ، يعلم حبي له، فيعاند. ذهبت وراءه، انعطف ظلي يميناً متجنباً فتاة شهية. ضحكتُ. دخل حديقة صغيرة، دخلت وراءه، ثم توقفت محدقاً في الحديقة وهدوئها الزاهي. جلس ظلي على العشب ممدداً ساقيه. روحي ينتابها توتر ما. وأنا أتمشى لأقطف وردة بنفسج، أهديها لظلي، سمعتُ صوتاً يناديني بلهفة: "ستيفن". التفتُ ناحية الصوت يااااه كانت فتاة سوداء. كانت لوشيا. تجلس على العشب. كأن العشب يجلس عليها. حتماً كانت تنسج دموعها. ذهبت نحوها. تصافحنا، ثم جلسنا. لم تقل شيئاً، فقط بكت واضعة يدها الدافئة على يديّ. لم أقل شيئاً. تذكرتُ الباخرة. كنت أتناول وجبهة العشاء لوحدي، فجاءت لوشيا تحمل على يديها طبقاً وخبزاً. جلست من دون ان تنتبه لوجودي نظرتُ - ها، كانت ملفوفة بالحزن، حاولت أن تأكل، لم تستطع، فسقطت دموعها منهمرة. لم استطع تحمل دموعها، خرجتُ من مطعم الباخرة تاركاً طعامي ودموع لوشيا. ملتاذاً بالماء ذهبت الى أسفل الباخرة. جالساً على مقعد أدخّن، أحاور النهر، وأسائلني: إلامَ تطاردني الدموع والأحزان، ألا تكفيني أحزاني؟ والنهر منشغل بتصاعد أمواجه، جاءتني لوشيا، على المقعد نفسه جلست. نظرتُ - ها./ ابتسمت، ثم قبلت يدي معتذرة: "Sorry..." قبل أن تكمل عبارتها، قبّلت يدها قائلاً:"It doesn't matter" أنا ولوشيا جالسان على المقعد صامتين. لن أسالها عن حزنها. أعرف عذابات الجنوبيات. ربما تذكرت أحداً عزيزاً قُتل أو انتحر او ذهب مع الريح، ربما تذكرت قرية أحرقت بأطفالها ونسائها ونهبت أبقارها. ربما تذكرت مذبحة نجت منها لجمالها وجسدها. ربما تذكرت كوخها المسكون بالخوف الكائن والكوابيس، او أمها التي أورثتها البُكاء. والباخرة تدوس الأمواج، بينما الليل يثرثر. قالت: "اسمي لوشيا، من قبيلة الزاندي". : "أنا ستيفن". عاد الصمت يحتوينا، وعدت أحاور الماء. انسحبتْ لوشيا مستأذنة لتنام، وافترقنا. قادني ظلي العنيد الى هذه الحديقة لأراها. ها هي لوشيا، بحزنها المهول - الذي لن أسألها عنه - تجالسني صامتة، تساقط دموعها على العشب، ويحلق حزنها في الحديقة. لوشيا نظرت الى الشمس، نظرت أيضاً. كانت الشمس تلملم اعضاءها. تذكرتُ ظلي - كان جالساً على العشب ممدداً ساقيه - ها هو يغادر الحديقة. مرتبكاً قبّلت أنامل لوشيا مودعاً - ها، لألاحق ظلي. على الرصيف كان ظلي ينتظرني، رشقته بنظرة، لم يسألني ولم أسأله. حزيناً ارتديت ظلي كما ترتدي المدينةُ الغرباء وارتالَ الحنين والحزن المعبأ في العيون. القاهرة - ربيع 2000 * كاتب من جنوب السودان مقيم في القاهرة.