بات اسم الكاتب والمفكّر البلغاري الأصل والمولد، الفرنسي الجنسية والإقامة، تزفيتان تودوروف، عَلَماً من أعلام الدفاع عن الإنسان المقهور والمضطهد والمقصى خارج سياقه الإنساني والحضاري، وذلك عبر إعادة قراءة تاريخ "الآخر" أولاً، ثم عبر قراءة علاقة ال"نحن" ب"الآخر" ثانياً، كما قرأناها في كتابه "نحن والآخرون" الذي صدر أخيراً عن دار المدى - دمشق، ترجمة ربى حمود ليكرّس تودوروف واحداً من قلة من المفكرين والباحثين إلى جانب أمثال ادوارد سعيد ونعومي تشومسكي وسواهما ممن يعيدون قراءة العلاقة بين الشعوب والأمم، بين القوة والحق، بين الثقافات العريقة والثقافة السائدة ... إلخ. كان تودوروف في "فتح أميركا" قد عالج رحلة كولومبوس الى القارة التي كانت مجهولة لدى الأوروبي، ليظهر أن تلك القارة كانت تنطوي على حضارة وثقافة، ولم تكن مجهولة لدى سكانها، فما سمي بال"اكتشاف" كان كذلك نسبة الى كولومبوس ومن يقف وراءه. فهذا ال"اكتشاف" لم يكن - إذاً - سوى غزو أو "فتح". وبحسب فريال جبوري - في تقديمها الكتاب - فإن كلمة "اكتشاف" التي استخدمتها أوروبا التوسعية "حاملة في ثناياها إيديولوجية تضخم الذات الأوروبية، وتغييب الآخر اللاأوروبي، فهي حتماً تعبير لا يمكن أن يستخدمه سكان القارة الأصليون، لأن هذا الحدث لم يكن اكتشافاً لهم على الإطلاق، وإنما كان اكتشافاً من وجهة نظر الآخر فقط". وتضيف في مكان آخر، حول هدف الكتاب ومحرّكه قائلة "فالقناعة بإمكان التحول من الرضوخ الى المقاومة، من الشرذمة الى الوحدة، من التواكل الى الارادة، من التبعية الى الاستقلال، هو المحرك لكتابة هذا الكتاب". وكان كتاب "فتح اميركا" هو الأول للمؤلف بعيداً عن حقله في نظرية الأدب والنقد، هذا الحقل الذي ضم معظم كتبه السابقة. لكن تودوروف يقتحم الحقل الجديد لاستقراء التاريخ في منطقة بعيدة عن اهتماماته الأساسية، بأدوات هي ضمن حقله الأساس، أعني قراءة التاريخ من خلال "اللغة" بمفهومها الدلالي - الإشاري السيميوطيقي. وتقارن جبوري بين صنيع تودوروف هذا، وبين ما فعله ابن خلدون من تأكيد على الدافع الأخلاقي في دراسة التاريخ، مع فارق أساسي بينهما في إطار النظر إلى الإنسان، بوصفه "كائناً عضوياً" لدى ابن خلدون، و"كائناً ناطقاً" لغوياً لدى تودوروف. نحن والآخرون "نحن والآخرون" الصادر بالفرنسية عام 1989، بحث في العلاقة بين "تنوع الشعوب والوحدة البشرية". فالشعوب تتنوع، لكن البشرية وحدة متكاملة، متكافئة. إن استنطاق مفكري وفلاسفة فرنسا، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحتى مطلع القرن العشرين، حول مواقفهم من "الآخر" هي فكرة هذا الكتاب. اما دوافع اختيار فرنسا فكثيرة اولها كون المؤلف يقيم فيها منذ مطلع الستينات 1963، ومن واجبه التعرف على مفكري هذا البلد، وفكر هؤلاء حول هذه المسألة "مفصّل وغني لموقعه المركزي بالنسبة الى التاريخ الأوروبي فقد امتص مساهمات التقاليد الأخرى وأثّر بها بدوره". يختار تودوروف - إذاً - التأمل في التاريخ ضمن مخطط مبحثي اكثر منه تعاقبياً تاريخياً .. باحثاً في "التضاد بين احكام عامة وأحكام نسبية: العروق، الأمة والتوق إلى الغريب". وعلى رغم أن مادة الكتاب هي "العقائد"، إلا أن الباحث لا يتكلم عن الأعراق ولا عن التصرفات العرقية، بل عن المذاهب المتعلقة بالعرق. كما انه لا يتكلم عن الفتوحات الاستعمارية، بل عن المبررات التي قدّمت لتبريرها ...إلخ. ومما له أهمية استثنائية أن المؤلف يعتقد ان "الخطاب، هو أيضاً، حدث محرك للتاريخ، وليس فقط تمثيلاً له". وصحيح أن الأفكار لا تصنع التاريخ، بل تصنعه القوى الإجتماعية والإقتصادية، لكن الأفكار "تجعل الأفعال ممكنة، ومن ثم تسمح بأن تجعلها تُقبَل". الكتاب، وبحسب المؤلف، يتقدم "كهجين، نصفه عن تاريخ الفكر، ونصفه بحث في الفلسفة الأخلاقية والسياسية". وهو، فوق ذلك، لا يكتفي بالحجج المقدمة إلا كخطوة اولى في عمله، بل يحاول معرفة مدى الإقناع في الحجج - المبررات، ومدى قبول هذه المسوغات في حركة التاريخ، إنه يضع أفكار الكاتب المختلفة في مواجهة بعضها، ثم يقوم بإجراء "حوار" بين أفكار مؤلفين مختلفين أو متقاربين. وهو، في هذا كله، يتجنّب التطرف، بمقدار ما يسعى إلى البحث عن الحقيقة وأكثر مما يسعى الى امتلاك هذه الحقيقة. إنه يضع بين يدي القارئ مجموعة هائلة من الشواهد في صورة "حوارات"، تاركاً لهذا القارئ الحكم على كل شيء بنفسه. لكنه يعود في الختام ليلخص رؤيته ويقدم قائمة بالنتائج الأساسية، من دون ان يعتبر ذلك حسماً للحوار، بل مقترحات لتجديده ومواصلته. وهو، بكثير من الموضوعية، يعلن انه لم يكن يستطيع إبداء آرائه في المواضيع المبحوثة "لأنني لم أكن أعرف آرائي كلها مسبقاً، وعلى العكس تماماً، لقد اكتشفتها في بحثي عن الحقيقة و.. من المؤكد أني صنعت هذا الكتاب. لكنه، بمعنى آخر للكلمة، هو الذي صنعني ... فأنا أثمّن جداً الرأي الذي يتضح تباعاً بتقدم الحوار". ركيزة الإتنية يبدأ الكتاب وهو خمسة اقسام - بعد التمهيد، بقسم "الشمولي والنسبي"، الذي يشكل ركيزة أساسية للمحاور التي سيعالجها المؤلف، فيتناول مفكرين من مونتين حتى ليفي شتراوس وأفكاراً تصب جميعها في موضوع تركز الأوروبي على الإتنية وعلى الذات إذاً في مواجهة الآخرين، سواء أكان هؤلاء "الآخرون" من العرق الأسود أم الأصفر، أكانوا عرباً أم يهوداً، متوحشين - برابرة، أم أصحاب حضارات بائدة. ومن المذاهب "العرقية" و"العنصراوية" التي تتناولها فصول الكتاب، تبرز الشمولوية والنسبوية والعلموية، بدءاً من الفكر الكلاسيكي الذي يمثله لابروبير وباسكال، مروراً بعلموية ديدرو، وصولاً الى إنسانوية شتراوس، وليس انتهاء بمونتسيكيو الذي يؤجله المؤلف الى الفصل الأخير باعتباره "أنجح مجهود قدّمه التقليد الفرنسي للتفكير المتزامن بتنوع الشعوب وبوحدة الجنس البشري" .. وذلك قبل ان يضيف المؤلف اقتراحه الذي سيدعوه "إنسانوية معتدلة جداً". الأفكار والتفاصيل على مشرحة المؤلف عصية على الحصر والمناقشة، لكن ثمة فصولاً يمكن ان تكون قراءتها ذات متعة خاصة، وخصوصاً الفصل الذي يشرّح فيه ما يدعى ب"الإغرابية" - أي نقيض "القومية". فإذا كان القومي يؤكد أن البلد الذي ينتمي هو إليه يمتلك أرقى القيم، فإن "الإغرابي" يؤكد أن "افضل بلد هو ذلك الذي يتمتع بصفة وجيهة وحيدة، وهي ألا يكون بلدي". والأشد إغرابية هم أولئك الذين يتجهون الى "المتوحش الطيب" او "انسان الطبيعة". يعتبر المولف ان هوميروس كان - في الإلياذة - اول "إغرابي" شهير، حين أعلن - في النشيد الثالث عشر - أن جماعة الأبيوا - وكانوا أبعد قوم يعرفهم اليونانيون - هم "أعدل الناس"، وحين افترض - في النشيد الرابع من الأوديسة - أن "حياة الفانين في أقاصي الأرض ليست سوى عذوبة". هذه هي قاعدة هوميروس. ويعتقد تودوروف ان الاسلوب الذي يتبعه الاغرابي للتعريف ب"الآخر" يدل على ان الامر مرتبط بانتقاد للذات اكثر من ارتباطه بإعطاء قيمة للآخر، او بوصف الواقع. ومن قراءته لروايات الرحالة الفرنسيين شاتوبريان، لوتي، سيجالان، انطونان آرتو واستعادة رؤاهم ومواقفهم وانطباعاتهم .. يتبين للمؤلف ان المديح الذي يكيله هؤلاء للشعوب البدائية إما قائم على جهل، أو قائم على وصف بالسلب وبالقياس الى نموذج ذاتي اوروبي. ف"هذه أمة، سأقول لأفلاطون من شهادة مونتين ليس فيها اي نوع من المتاجرة، أي معرفة بالأحرف، أي علم للأعداد، أي اسم قاضٍ، أي تفوق سياسي ...، حتى الكلمات التي تعني الكذب، الخيانة، التستر، البخل .. لم يُسمع بمثلها". ويتميز "مجتمع المتوحشين" في نظر امريكو منسبوتشي بخمس سمات "لا ملابس، لا ملكية خاصة، لا تراتب ولا تبعية، لا محرمات جنسية، لا دين" اي انه "العيش وفقاً للطبيعة". ومن رحالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الى الرحالة الحديثين، نتوقف عند الشاعر انطونين آرتو، الذي يقول عنه المؤلف انه الشاعر المعروف "بثوريته"، في رحلته الى المكسيك وكتاباته عن هنود "التاراهوماراس" وطقوسهم، فهو - على رغم ثوريته، وعلى "اتفاق مع العنصراويين العاميين" بحسب تودوروف - يعلن عن تمييزه ل"العقل بوصفه ملكة اوروبية". بل ان آرتو قد ذهب الى المكسيك باحثاً عن "كل ما يختلف عن اوروبا" ولهذا فهو "يرفض المكسيك المعاصرة التي لوّثها الاحتكاك مع أوروبا. وهو لا يصبو إلا الى استرجاع بقايا المكسيك القديمة والتي تتمتع بحظ اوفر بأن تشبه أحلامه". إنه يؤكد في كتابه "رسائل ثورية"، هذه المسألة بقوله "أتيت لأبحث في المكسيك عن آثار باقية لهذه المفاهيم، أو لأنتظر انبعاثها". ربما كانت هذه "الإغرابية" التي يمثلها آرتو هي الأكثر اعتدالاً بين النظرات الأوروبية، إلا أنها نظرة ترفض العالم كما هو، وتظل تراه بعين المعايير الأوروبية، الأمر الذي يجعلها غير موضوعية في رؤية "الآخر". فالأوروبي - بحسب المؤلف - "لا يلاحظ الآخرين إلا عبر احتياجاته الخاصة، ومن دون ان يرفعهم مطلقاً الى مكانة الذات". انهم مجرد "موضوع" للملاحظة والدرس. وأخيراً، فإن "افضل نظام في العالم ليس إلا النظام الأقل سوءاً. حتى لو كنا نعيش فيه، فلا بد من إعادة النظر في كل شيء، ليشكل العيش مع الآخرين جزءاً لا يتجزأ من هذه الحكمة". هذا ما يتوصل إليه تودوروف بعد رحلة طويلة ومضنية، لكن ممتعة، في الفكر الفرنسي، حيال العلاقة الغنية بين الأنا والآخر، بين الثقافات والحضارات، بين الفرنسي الأوروبي المتحضر وبين الآخرين من ثقافات العالم كله. هي دراسة جديرة بالقراءة المعمقة لأنها الأولى في هذا الإطار. الأولى في سعيها إلى رؤية أشد اعتدالاً في انسانيتها، على رغم الكثير من الدراسات الانثروبولوجية الحديثة. انها الدراسة الأكثر انصافاً للشعوب وللإنسان بصرف النظر عن الأعراق والأماكن. فهي الدراسة التي تعنى بوحدة الجنس البشري وتنوع الشعوب من دون أي تحيّز، مع رؤية انتقادية عميقة ل"نحن" في مواجهة "الآخر".