عندما استولى جنرالات باكستان على السلطة في تشرين الأول أكتوبر الماضي ساد الشعور بأن مستوى معيشة السكان سيشهد تحسناً قريباً. وقوّى من هذا الشعور تركيز السلطة الجديدة على انعاش الاقتصاد. وكان الافتراض ان استقدام رجال اعمال باكستانيين نجحوا في ا لخارج، وبرهنوا بذلك على امتلاكهم "الموهبة" و"الجدارة"، سيحسّن في حياة المواطن العادي. لكن الأحداث سرعان ما بينت خطأ الفكرة. ان الذين ينجحون في الخارج يدينون في ذلك الى فاعلية أنظمة الاقتصاد هناك أكثر مما يدينون لابداعهم الشخصي. وحين استقدمتهم الحكومة للعمل في باكستان، حيث الأنظمة الخاملة، فشلوا وفاقموا الأزمة. من بين الأمثلة المبكرة مسؤول كبير في البنك الدولي عين وزيراً للمال في تشرين الثاني نوفمبر 1996 وتعاقد على ديون كبيرة بفوائد باهظة. وعين الجنرالات في تشرين الأول اكتوبر الماضي مسؤولاً مرموقاً في بنك دولي شهير وزيراً للمال، لكن لم يكن لعلاقاته القوية، من ضمنها مع وزير مال أميركي سابق، تأثير يذكر في حياة الباكستانيين العاديين، بل أن الوضع تحول نحو الأسوأ. النكسة الاقتصادية الخطيرة تبدو واضحة عند مقارنة المؤشرات الاقتصادية الرئيسية مع السنوات المبكرة لأول حكومتين ديموقراطتين خلال العقد الماضي. إذ سجل الاقتصاد في 1989 و1993 انتعاشاً في السنة الأولى من عمر كل من الحكومتين. ووضعت موضع التنفيذ قوانين التخصيص وتحرير الاقتصاد 1989 ثم سياسة الطاقة والبرمجة الكومبيوترية 1993، وذلك في مرحلة الانطلاق التي رافقت تشكيل الحكومة. هذه السياسات كانت المحرك للاقتصاد ومكنته من النمو ووفرت فيه الفرص والأشغال ورفعت قيمة العقار وأطلقت الدورة المالية في السوق وزادت من دخول الافراد. على نقيض ذلك شغلت الحكومات العسكرية، المباشرة منها وغير المباشرة، والحكومات الموقتة، نفسها بالانتقام من خصومها السياسيين، مهملة مهماتها في الحكم أو تاركة المهمات ل"التكنوقراطيين" أو الباكستانيين الذين "نبغوا" في الخارج، الذين يجهلون طبيعة النظام الداخلي. ومن هنا كان الفشل. اننا نجد دوماً تلك الاستهانة بالمسؤولين الذين يعينون لأسباب سياسية، باعتبار أن ذلك يعني المحسوبية. لكن لو كانت "الجدارة" الصفة الوحيدة المطلوبة لكان كل متخرج من الجامعة بمثابة اينشتاين جديد. لكن الواضح ان هذا يخالف الواقع. وفي أميركا يتماشى كل تغيير حكومي مع تغيير الألوف من المسؤولين على كل المستويات. فيما نجد في بريطانيا أن رئيس الوزراء توني بلير جاء الى السلطة، تحت شعار "حزب العمال الجديد"، بعدد من المسؤولين والأعوان يزيد على كل من سبقه من رؤساء الحكومات. الفارق أن الناشط السياسي يأتي الى المسؤولية ملتزماً برنامجاً سياسياً معيناً. ويدرك باعتباره "مخلوقاً سياسياً" أن المربح الاجتماعي أهم من المربح المالي. كما يدرك ان العنصر الحاسم في حياته السياسية نجاحه أو فشله اثناء فترته في السلطة. أما التكنوقراطي فإن أهمية وجوده في السلطة تكاد تقتصر على تحسين فرصه للعمل في الأسواق لاحقاً. النغمة الأخرى السائدة في جوقة المعادين للديموقراطية هي ضرورة اعطاء "طرف ثالث" فرصة حكم باكستان. ذلك ان كلاً من رئيسي الحكومة السابقين، حسب هذا الرأي، تمتع بفرصتين للحكم ويجب منعهما من العودة. لكن اعطاء الفرصة ضمن النظام الديموقراطي في يد الناخبين. وعندما تفقد الأقلية النافذة ثقتها بالناخبين تبدأ مهزلة الحرمان من حق العمل السياسي، وتدخل مجموعة المهرجين التي توجه تهم الفساد الى هذا الطرف وذاك. انها العملية التي تهين الطبقة السياسية وتطلق في المجتمع قوى التدمير الداخلي. السلطة أمانة مقدسة يمارسها اولئك الذين خولوا المسؤولية من جانب ملايين الناخبين في أجواء تسودها الحرية والأمل. الناخبون وحدهم وليس غيرهم من له القرار في الطرف الذي يجب ان "يعطى فرصة" ممارسة السلطة أو يحرم منها، وذلك حسب سجله في الحكم. عندما يطالب حزب الشعب الباكستاني بتشكيل "لجنة الحقيقة والمصالحة" فهو يدعو الى تسليط الضوء على الاعترافات العلنية بتدخل الدولة. من ذلك اعتراف اجهزة الأمن بتشكيل حزب سياسي في 1988، وسرقة البنوك الحكومية لتمويل مرشحين في انتخابات 1990، وأيضاً الاعتراف بأن النظام السابق لم يحصل على تفويض من الناخبين في الانتخابات الأخيرة عندما كان الجيش حاضراً في كل مراكز الاقتراع. لقد اصيبت سمعة القوات المسلحة بضرر كبير بسبب عدد قليل من الضباط الذين خانوا قسم المنصب. وقاد هذا الى خيبة أمل مريرة من الجيش نفسه، واصبح يعتبر في شكل متزايد دولة داخل الدولة تعجز الحكومات المنتخبة عن مواجهتها. ان آراء من هذا النوع لا تخدم صورة هذه المؤسسة التي ملأت قلوب الباكستانيين فخراً في حرب 1965. القوات المسلحة الباكستانية عنصر مهم في التركيبة الاجتماعية للبلاد. وهي مؤسسة توفر فرصة التقدم الاجتماعي لابناء الطبقات المحرومة. وحاز اداؤها في عمليات السلام اعجاب العالم. لكنها بحاجة الى تفحص موقفها اليوم واستجلاء مستقبلها في عالمنا الحالي، عالم ما بعد الحرب الباردة. وهناك من يرى ان لا نجاح لباكستان الا بقيادة العسكريين، لكن هناك منظوراً مغايراً يعتبر ان على العسكريين التخلي عن السلطة والا فإنهم سيقودون البلاد الى الدمار في عالم اليوم الذي لا يعطي مجالاً كبيراً للديكتاتورية. اذا كان للقوات المسلحة ان تحدد دوراً لنفسها في هذا العالم الجديد عليها مواكبة القيم الحديثة، من بينها قيمة المزيد من الشفافية، والاستغناء عن اسلوب الحياة الكولونيالي، والقيام بدور غير سياسي، والكشف عن عمليات توزيع العقود. ختاماً، على الشعب عموماً أن يوجه نظرة صريحة وثابتة الى قضية الفساد. فقد قادت الاعفاءات العديدة من الضرائب وانتشار صكوك "الدفع لحامله" الى اقامة اقتصاد سري. وها هو النظام الحالي، مثل سابقه، يوزع الاعفاءات في الوقت الذي يواصل فيه التبجح بمكافحة الفساد. انه بالتأكيد طريق مسدود. ومن الضروري استحداث آلية للتحقيق في حالات الفساد بنظام مشابه ل"المحقق العام". وقد بقي الرئيس الأميركي في المنصب حتى اثناء خضوعه للتحقيق في انتهاكات محتملة للقانون. اضافة الى ذلك فإن الفساد منتشر على كل المستويات، وسيواصل الانتشار ما لم تكن هناك آلية لحماية المواطن العادي من دفع الرشاوى للقيام بأية معاملة مهما صغرت. من المهم عندما ننطلق نحو العقد التالي ان نتخلص من الأحكام المسبقة التي تقادم عليها الزمن، مثل الموقف من الطبقة السياسية. وسيتمكن البلد وأهله من التقدم عندما يرتهن صعود حكومة ما أو سقوط بادائها وليس بالقضايا الشخصية أو بالأحكام المسبقة. * رئيسة حكومة باكستان سابقاً. زعيمة حزب الشعب الباكستاني