ثمة شعراء لم يستطيعوا الخروج عن سِياق كتابة، أو تجربة، ظلُّوا منذ عقدين أو أكثر يتمسكون بها. تجربة لا شيء فيها يتغيّر إلا السطح، أما العمق أو الجوهر فهو ذاته، قائم حيث كان، محتفظ بمكانه، لا يُغيّر إلا بعض قشوره. إنه الثابت الذي لا يقبل التحول. بالعودة لقراءة نصوص هؤلاء، أو دواوينهم الشعرية، وتأمُّل صيرورة هذه النصوص. أعني ما قد تُتيحه للقارئ من إدراك لبعض إبدالاتها، أو ما قد تُحدثه من انعطافات، سنُدرك منذ الوهلة الأولى أن هناك شبه إصرار على البقاء في نموذج محدَّد، هو النموذج الآمن الذي يتيح لهذه الكتابة أن تلتذّ بوضعها وتطمئن له. فهي نصوص تنسخ بعضها، وتستعيد ذاتها، وكأنها صدى لا يفتأ يتردد بين جدران ميِّتة. نوع آخر من التقليد ينضاف للتقليد بمفهومه السائد. فالشاعر في هذا النوع من التقليد، يُعيد كتابة نموذجه، وكأنه يسعى لتأكيد الأصل. وليس الأصل في مثل هذا الوضع إلاّ ذلك النموذج الأول الذي يستعيد وجوده عبر أشكال وأصوات مختلفة، هي تلك النصوص التي حددت الوزن مثلاً أو القافية، كشرط للكتابة ووراءهما أقامت تصوراً كاملاً يعتبر الوزن والقافية والمعنى، تَبِعات يستحيل أن يقع النص خارجها. إنه التقليد المُضاعف الذي أصبحت تجارب بعض الشعراء تأسر نفسها داخله من دون أن تدرك الفرق بين النموذج الأصل، والنموذج النسخة. أو ما يمكن أن نسميه مع دريدا بذلك "الحاضر الماضي المحتفظ به". ما سيُضفي على هذه التجارب وضع المفارقة، هو سعيها لحجب مأزقها هذا بالتخفي وراء بعض صيغ أو تعابير الحداثة. أعني بعض أشكالها. في بعض الدواوين الصادرة في السنوات الخمس الأخيرة نجد ذلك. وفي بعض ما كتبته من قراءات لبعض هذه الدواوين كشفت عن بعض هذه المفارقات، حيث الحداثة في بعض صيغها أو أشكال كتابتها، في هذه الدواوين ما هي إلا غطاء أو استجابة، للرأي السائد. دواوين وكتابات هي نصف حداثة ونصف تقليد. أعني أنها لا كتابة، إنها نوع من الترقيع. نصوص تعيش محنة انتقال، أو هي، بالأحرى، تقف على عتبة التلاشي والانطفاء. يدفعني هذا الى إعادة تأكيد ما قلته حين كتبت عن تجربة محمد الخمار الكنوني، من أن هناك شعراء، ما زالوا يكتبون لكن تجربتهم واقفة لا تغادر نموذجها. أو هي، بهذا الإصرار على الكتابة، تخنق نفسها في مأزقين، مأزق تقليد مضاعف، ومأزق حداثة، هي ما يمكن أن نسميه هنا بالحداثة المخنوقة. فمحمد الماغوط، اكتفى بما كتبه إبان مرحلة "شعر". فهو ظل يرفض نشر ما كتبه بعد هذه المرحلة. ولعل في ديوانه الذي أوقف نشره في آخر لحظة، ما يعكس، ربما، وعيه بالمأزق الذي كان سيضع نفسه فيه. فنصوصه الأخيرة لم تكن في مستوى ما جعل منه شاعراً استثنائياً في كتابة ما يسمى اصطلاحاً ب"قصيدة النثر". إن الكتابة تفرض نوعاً من الجرأة المستمرة في اختبار المأزق، وفي تجاوز اختناقاتها، وهذا في نظرنا لا يمكنه أن يحدث إلا بوجود وعي نظري يتيح للشاعر أن يلتقط لحظات الانتقال أو الانعطاف، من دون أن يقع في الابتذال من جهة، وفي استنساخ ال"أصل" باعتباره "معرفة نقية" مأخوذة عن سلطة رفيعة كما يُسميها كارل بوبر. ف"لا وجود لمصادر صافية يقينية". هذا هو المدى الذي يقيس به النص نبض انفراطه، وصيرورته التي لا تكلُّ ولا تفتر أبداً. ف"السكون عدمٌ" كما يقول ابن عربي أتذكّرُ هنا: المتنبي، كما أتذكرُ جبران، وقبله رامبو، ولن أنسى ما لكتاب أدونيس. من مكانة في هذا السياق، ولما لشعر الحداثة من جرأة في اختراق وتجاوز ذاته. قسوة لا بدّ منها.