في السادس من آب اغسطس 1945 دخلت علاقة العلم مع الحضارة الإنسانية في اختبار قاس ومنعطف نوعي، بعدما ألقت قاذفة قنابل أميركية قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، ما أباد مئة ألف شخص في لحظة، إضافة الى إصابة عشرات الآلاف بالأشعة الذرية القاتلة وتحوّل إحدى مظاهر الحضارة المدنية الحديثة أرض يباب وموت. وبدا واضحاً أن العلم بات يحوز قدرات ضخمة قادرة على إحداث ضرر أصيل وخطير في مسار الاجتماع الإنساني. وانداحت مذذاك دائرة من الأسئلة المقلقة تركزت عموماً على استخدام العلم والإرادة التي تحوزه وتحرّكه. وفي هذا المعنى جاءت معارضة الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، وهو عالم رياضيات ومن دعاة المنطق الرياضياتي، لاستخدام العلم وتوظيفه لغايات سياسية سلبية. وصار من النافل الحديث عن قضايا عامة مثل وضع العلم في خدمة الإنسانية أو مسائل أكثر تفصيلاً كالاستخدام السلمي للطاقة الذرية. وفي كل تلك الترسيمات، يظهر العلم دوماً باعتباره نقياً وأخلاقياً بالضرورة، فلا يأتيه الشر إلا من "إرادة ما" خارجة عنه تتولى استعماله على نحو مسيء .... وذلك أمر لاحظه عالم البيولوجيا التطورية ستيفين جاي غولد، في مقال نشر في مجلة "ساينس" عام 1995، رجع فيها الى صورة المقصلة التي كانت من التطبيقات "الفعّالة" للفيزياء الميكانيكية النيوتونية، لكنها استخدمت على النحو الفظائعي المعروف! ورصد غولد المنحى نفسه في تطوّر علم الطيران الذي حفزته حربان عالميتان دمويتان، تطورت فيهما علوم الطيران لتلبية حاجة الإرادة السياسية التي حازتها. ويشدد غولد على الفارق بين الجالوتين المقصلة والأسلحة التقليدية من جهة والقنبلة الذرية التي ترمز الى دخول العلم الى نقطة عالية من القوة من جهة أخرى. ويضع كل نبرة الإدانة على "الإرادة" التي تستخدم العلم، مع التفاؤل بمسار العلاقة بين الحضارة وعلومها. الجينوم بعد الذرة:ما هو خطر العلم؟ في كل المعاني تبدو الذكرى ال55 للقنبلة الذرية شديدة التشابه مع الإنجاز العلمي لخارطة الجينوم البشري. وفي كلتا الحالين، وصل العلم الى قوة قصوى عندما تخطى كل الفوارق في ما يدرسه من موضوعات ليصل الى الجامع المشترك الأضأل والأقل، أي الى المكون الأساسي الدقيق للظواهر الموضوعة قيد الدراسة. تمتلئ الأرض بآلاف المواد من كل الأنواع، ويجمع بينها أنها كلها مكونة من ذرات ذات تركيب متماثل، أي نواة تدور حولها إلكترونات. وعند تخطي عتبة الذرات المختلفة، دخل العلم الى تركيب النواة والقوى التي تشد مكوناتها وكذلك تربطها مع الإلكترونات. وهكذا تأسس العلم الذري على اكتشاف وجود أربع قوى أساسية في الكون، الجاذبية والكهرمغناطيسية والقوى الذرية القوية والضعيفة، وكذلك تبادلية المادة والطاقة التي عبرت عنه معادلة اينشتاين الشهيرة E= mc2 6 التي تقول بتحوّل المادة طاقة عند مقاربتها سرعة الضوء. تلك الجوامع المشتركة الأكثر ضآلة وخفة مكنت العلم من تخطي عتبة نوعية. وينطبق الوصف نفسه على الجينوم. فمنذ قرن تقريباً، أدرك علماء البيولوجيا أن الكائنات الحية تتشابه في تركيبها، وأن نواة كل خلية حية فيها "عناصر" تضمن استمراريتها، أي إنتاج أنسال منها، وكذلك تستجيب معطيات البيئة وتحولاتها. وصف هذه "العناصر"، التي بات معروفاً أنها الكروموزومات المحتوية على الجينوم، للمرة الأولى في العام 1943، عالم الفيزياء الكمومية ايرفنغ شرودنفر في محاضراته الذائعة "ما هي الحياة؟". وفي العام 1953 توصل عالما البيولوجيا جايمس واطسون وفرانسيس كريك، الى تصور مفاده ان الحامض الوراثي "د ن ا" D.N.A. هو العنصر المشترك بين كل ما هو حي على الأرض. وثمة استطراد مهم. فالإمساك بالجينوم يعني القبض على الجذر المشترك في كل ظاهرة حية، ويفضي التلاعب بالجينات، على سبيل المثال، الى تأثيرات واسعة تطاول العمق الحيوي للكائنات. وتُظهر الدراسات الحديثة على نحو متراكم، عدم إمكان حصر أثر التغيير الجيني في نوع واحد بعينه، وهو أمر جدير بنقاش منفصل. الأرجح أن الجينوم يمثل لعلم البيولوجيا ما مثلته القنبلة الذرية لعلوم الذرة، وسواء بسواء، فكلاهما يعيد طرح السؤال عن ماهية العلاقة الفعلية بين - العلم وهو مصطلح بات ملحاً إعادة تعريفه - والحضارة. كيف يأمن الإنسان بقاء العلم في أيدي العلماء وحدهم وقد بات جلياً واضحاً أن الأبحاث تقودها الشركات والمصالح؟ هل يحتاج العلم الى "تدخل إيجابي" لملاشاة أثر الإرادة "السلبية" التي أساءت استخدامه، كما في حال القنبلة؟ وهل ثمة تدخّل مقبول وتدخل مرفوض؟ ومن يحدد المعايير؟ ومن يقيم الحدود؟ وكيف ترتسم القيم؟ وهل المشكلة تنحصر في استخدام العلم أم أن ثمة خللاً أكثر عمقاً؟ لم يكن فيلسوفاً ولا مؤلفاً روائياً، بل أحد علماء وكالة "ناسا" قابلته قناة "ديسكوفري" لتناقش احتمال وجود حضارات فضائية في الكون الفسيح. وفي نبرة عادية، كمن يتحدث عن شأن يومي، أعرب عالم الفيزياء الفضائية هذا عن رأيه باحتمال مصادفة روبوتات متطورة من صنع الحضارات الكونية أو أي آلات متقدمة مشابهة، ورجح عدم مقابلة كائنات حية ذكية. والسبب برأيه بسيط جداً، فالذكاء الحي يبدو ميالاً لأن يدمر نفسه نظراً الى بحثه دوماً عن قوى لا يستطيع السيطرة عليها لكنها قادرة على إفنائه، كما هي الحال في الذرة وتخريب التقدم العلمي الصناعي للبيئة الأرضية واحتمالات الفناء الواسعة التي قد تنتج عن انفلات أبحاث الجينوم. هل كان محقاً أو متشائماً أو ربما متلمساً منحى غائراً في العلم؟ الجواب صعب!! [email protected]