تبدو المعركة الانتخابية اليوم في النصف الثاني من جبل لبنان، الشمالي، حيث يغلب صفاء الغالبية المسيحية، أقل حدة من تلك التي تجرى في نصفه الجنوبي، المختلط الى حد يقارب المناصفة. لكنها لا تقل عنه أهمية في بعض الأوجه السياسية. فهذا النصف المتن الشمالي وكسروان جبيل، هو الذي أتى منه رئيس الجمهورية اميل لحود. ولعل اعادة الاعتبار الى الجبل، الذي كانت الظروف الاقليمية تميل الى استبعاد مجيء رئيس البلاد منه لمصلحة رئيس من الاطراف بعد اتفاق الطائف، بدأت منذ انتخاب لحود. والدائرتان اللتان يتشكل منهما هذا النصف من الجبل، تضجان بالصراعات السياسية الحديثة والتقليدية السابقة على الحرب، معاً. فاذا كان الجبل الجنوبي مسرحاً للعيش المشترك، وللتحالفات بين قوى في مختلف الطوائف، بحسب الظروف، ومرتعاً للصراع الطائفي، المسيحي الاسلامي عندما تتغير هذه الظروف، فان الجبل الشمالي كان تارة حاضناً للصراع المسيحي المسيحي، بين "الكتلة الوطنية" والدستوريين، في مرحلة الاستقلال، وبين الشهابية كتلة النهج وأحزاب اليمين، فهو كان تارة اخرى، مرتعاً لاستنفار العصبية الطائفية المسيحية، والمارونية خصوصاً، ومركزاً لاستقطابها في سائر المناطق. وهو ما حصل تحديداً في الحلف الثلاثي الشهير في العام 1968، وقد جمع الراحلين كميل شمعون وريمون إده وبيار الجميل، اقطاب الزعامة المارونية آنذاك... وفي هذا الجزء من الجبل، يقع مقر البطريركية المارونية التي باتت تشكل المرجعية الأولى للموارنة والمسيحيين على الصعيد السياسي، في ظل التشتت الذي أصاب الزعامة المارونية بفعل الصراعات بينها من جهة وبسبب ما آلت اليه الحرب وعواملها الاقليمية الكثيرة من جهة اخرى. والذي يغلب على المعركة في الجبل الشمالي اليوم، هو الصراع، قياساً الى استنفار العصبية وتوحيدها، على رغم ان بعض المرشحين يسعون الى استخدام هذا الاستنفار، بهذه النسبة او تلك، في محاولة لكسب الاصوات. والصراع دائر بين لائحتي السلطة في كل من الدائرتين، واللوائح الاخرى المختلفة. ويتجلى ذلك في المتن الشمالي، اكثر من كسروان جبيل. ففي المتن يتزعم نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر اللائحة الأولى، مرتكزاً الى جملة عوامل: نفوذ يتقن استخدامه، راكمه لمشاركته في الحكم على مدى السنوات العشر الماضية من دون توقف، واشتراك نسبه الى العهد عبر مصاهرة ابنه لكريمة الرئيس لحود مع خيار سياسي بدعمه الى ما لا نهاية وتصدره السعي الى كتلة نيابية، ثم تكتل في البرلمان يدعم الرئيس، وهو خيار لم يجد حرجاً في تبني ترشح نجل الرئيس إميل إميل لحود على اللائحة، وعلاقة جيدة مع القيادة السورية تدعمها أولوية التنسيق الأمني بين البلدين، وتشكل وزارة الداخلية احدى وسائلها، وماكينة انتخابية منظمة بقدرات مالية كبيرة جداً، يقودها نجله الياس... تضاف الىها حنكة يعترف بها له خصومه، بعد أن يتجاوزوا الحديث عن اسلوبه الفج. ويقول كثر ان المتن الشمالي، تحول دائرة انتخابية، لاقتطاعه لمصلحة نفوذ المر، مثلما حصل بالنسبة الى الشوف امارة لوليد جنبلاط، مع فارق في الأسباب الموجبة هو الفارق نفسه بين الزعامة والنفوذ. فالمتن ذو غالبية مارونية بالمقارنة مع تصدر القطب الارثوذكسي المر القيادة فيه. لكنها هذه المرة قيادة تتحرك بالنيابة عن زعامة آل لحود، وبالتالي رئيس الجمهورية، ابن المتن وسليل العائلة السياسية الكبيرة التي ادت دوراً في السياسة اللبنانية على مر العقود... الا ان السعي الى كتلة نيابية داعمة للعهد يقوم، بين ما يقوم عليه، على محاصرة منافس اساسي في العائلة هو النائب نسيب لحود، ما اقتضى تشكيل المر لائحة تقوم على "الوفاق المتني"، تشمل رئيس حزب الكتائب منير الحاج والمرشح السوري القومي الاجتماعي غسان الأشقر، اضافة الى لحود الابن وشاكر أبو سليمان، وانطوان حداد عن المقعد الكاثوليكي وسيبو هوفنانيان عن المقعد الأرمني حزب الطاشناق. واذ ترك المر المقعد الارثوذكسي الثاني لمصلحة النائب السابق المعارض ألبير مخيبر، من أجل تجنب المنافسة بين القطبين، فهو بذلك سعى الى ابعاد مخيبر عن نسيب لحود، الحليفين في دورة 1996. وفي وقت لم يجد المر احراجاً في التعاون غير المباشر مع مخيبر، صاحب الموقف الحاد ضد الوجود السوري، دبّ نسيب لحود الصوت ضد ممارسات السلطة حياله، بدءاً من منعه من لصق صوره الانتخابية مروراً بالضغوط على بعض مؤيديه، لتوظيف عطف الناخبين على من يتعرض للحصار الرسمي، في صناديق الاقتراع، لمصلحة لائحته التي تضم خصوماً للمر ومتضررين منه، بينهم الوزير والنائب السابق ميشال سماحة كاثوليكي الذي حافظ على صداقته مع المسؤولين السوريين، فيما استخدم خطاباً سياسياً يلقى صدى مارونياً، في الحديث عن وجوب عودة العماد ميشال عون والافراج عن قائد "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع وانتقاد الحكومة، داعياً الى تصحيح العلاقة مع سورية... وتحالف أيضاً مع اليسار بضمه المرشح الأرمني رافي مادايان ابن زوجة رئيس المجلس الوطني في الحزب الشيوعي جورج حاوي، وأبقى مقعداً مارونياً شاغراً، فاتحاً باب التعاون مع نجل الرئيس السابق أمين الجميل، العائد من الخارج، بيار مرشح منفرد وأبقى مقعداً ارثوذكسياً شاغراً لجذب اصوات مؤيدي مخيبر... فلائحة المر تنطلق من آلاف الأصوات لمصلحتها، من الأرمن والمجنسين من دون منافسة كبيرة عليهم مع لائحة لحود. وإذ تأخذ المعركة طابع "مع العهد أو ضده" في المتن الشمالي، فان الجوانب السياسية الأخرى، أي العلاقة مع سورية، والموقف من الحكومة ومن الديموقراطية... تجد من يمثل اصحاب وجهات نظر متضاربة في شأنها، في كل من اللائحتين المتنافستين... ولا يختلف الأمر كثيراً في الدائرة الأخرى في الجبل الشمالي، أي كسروان جبيل، حيث تتكرر مظاهر التنافس بين لوائح المؤيدين للسلطة، والمخاصمين لها، فتظهر الوجوه الدستورية إحدى الحزبيات القديمة بكثرة، في اللوائح الموالية للسلطة، كما في اللائحة الرئيسية التي تضم جورج افرام ومنصور البون والياس الخازن وناظم الخوري وفارس سعيد، في مقابل علبة الحزبية الكتلوية في اللائحة التي تضم فارس بويز وفرنسوا باسيل في اللائحة الثانية، من أصل اربع لوائح متنافسة، واحدة منها غير مكتملة. وفي اللائحة الأولى يجد المرء كتلوي الهوى، وفي الثانية دستورياً، ما يجعل صراع الحزبيات التقليدية ثانوياً، في مقابل التنافس على الموالاة او المعارضة احياناً كثيرة. وفي مقابل التوقعات بحصول خرق في لائحة المر في المتن الشمالي بمقعد او مقعدين، تتناقض التوقعات بالنسبة الى كسروان جبيل، نظراً الى تعدد اللوائح وضمها ممثلين لكل التيارات تقريباً، من جهة، والى اختلاف المقاييس بين منطقتي الدائرة، أي كسروان التي يؤدي فيها العصب العائلي دوراً انتخابياً مهماً، كذلك الساحل والجبل، وجبيل عرين آل إده التي انكفأ عميد الكتلة الوطنية كارلوس اده عن الترشح عنها، فيما ترشح أحد قادة الحزب الخارجين منه جان حواط، في مقابل تعدد المرشحين الشيعة فيها للمقعد الشيعي الوحيد في المنطقة، خصوصاً ان لحزبيات متعددة دوراً في ناخبيهم، من "حزب الله" الى "أمل" وصولاً الى غيرهم مثل النائب محمود عواد الذي هو على تعاون مع رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري.