لعلها المرة الأولى منذ الاحتلال الاسرائيلي للقدس الشرقية في عام 1967 التي يغدو فيها الحديث عن المخاطر التي تتهدد المسجد الأقصى شائعاً ومقبولاً في الأوساط السياسية والدينية على حد سواء. فطوال عقود كان مثل هذا الحديث وقصص الممارسات اليهودية المتطرفة التي تنتجه حكراً على خطباء المساجد والعلماء المسلمين، فيما كان السياسيون ينظرون إليه على أنه نوع من الإثارة الدينية ليس إلا، وفي كثير من الأحيان كانوا ينظرون إليه كنوع من التخريب على عملية التسوية. الجانب الاسرائيلي كان بدوره يصور أية أحاديث من طرف اليهود حول الأقصى وهدمه وبناء الهيكل كنوع من الهرطقات الدينية، وكذلك شأن الجانب الأميركي الراعي للمخططات الاسرائيلية. منذ قمة "كامب ديفيد - 2"، بدا أن تحولاً دراماتيكياً قد حدث على هذا الصعيد، فقد غدا الحديث عن اقتسام الحرم، والسيطرة على جزء منه من قبل الاسرائيليين أمراً عادياً، بالنسبة لكل الأطراف، سواء من زاوية التفاوض أم من زاوية التحذيرات المتبادلة بين الأطراف المختلفة. من الزاوية الفلسطينية، فقد أعلن غير واحد من مسؤولي السلطة ممن تابعوا ملفات التفاوض في كامب ديفيد أن ما طرحه الاسرائيليون ينطوي على امكانية هدم الأقصى مستقبلاً، وذلك حين طرحوا مبدأ "السيادة الرأسية" على الحرم، والقاضية بمنح الطرف الفلسطيني سيادة على الحرم وما فوقه، فيما تبقى السيادة على ما تحته من اختصاص الطرف الاسرائيلي، على اعتبار أن ثمة امكانية للعثور على هيكل سليمان تحت المسجد، وهذا الأمر أكده عضو الوفد الفلسطيني أحمد قريع وآخرون ممن كانوا في كامب ديفيد. ولعل الأسوأ من ذلك أن الطرف الفلسطيني الذي رفض مبدأ "السيادة الرأسية" وتحدث عما تنطوي عليه من تهديدات مستقبلية للحرم القدسي قد وافق على منح أجزاء من منطقة الحرم للاسرائيليين، مثل حائط المبكى الذي هو عند المسلمين حائط البراق الذي ربط فيه النبي صلى الله عليه وسلم براقه ليلة الإسراء والمعراج. ولعل من نافلة القول إن اعطاء هذا الجزء من الحرم للاسرائيليين سيعني بالضرورة، استمرار العبث الاسرائيلي بكل ما تحت المسجد، وبالتالي مواصلة تهديده، خصوصاً وأن السيادة السياسية على المدينة ستبقى بيد الاسرائيليين، اضافة الى أن الحاخامات ما زالوا يصرون على أن الهيكل يقبع تحت المسجد. الأسوأ من ذلك، هو ما ذكره نداف شرغاي مراسل صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية لشؤون القدس والاستيطان والذي كشف في عدد الصحيفة بتاريخ 10/8 عن أن "حكومة اسرائيل والسلطة الفلسطينية والحاخامية الكبرى يجرون هذه الأيام مداولات سرية حول إمكان اقامة كنيس يهودي في المنطقة المحيطة بالقدس وكيف سيتم ذلك. والمواقع المقترحة لصلاة اليهود هي مدرسة "العمرية" وسطح موقع باب الرحمة. أو تلة تقام عند حائط المبكى الجنوبي، أو مبنى المحكمة الذي يقع قرب الحائط الغربي فوق المنطقة الشمالية الغربية من الحرم". من المعروف أيضاً أن مجلس الحاخامية الكبرى تدارس هذه المسألة للمرة الأولى منذ 33 عاماً من السيادة الاسرائيلية على البلدة القديمة. وقد رأى الحاخام شائر يشوف حاخام حيفا بأن الكنيس في الحرم لا يشكل خطراً على السلام، بل مدخلاً للسلام والحوار، وذلك حسبما نقلت عنه صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها بتاريخ 9/8. لعل من الضروري هنا الاشارة الى موقف حركة شاس التي تشكل الآن ثالث أكبر حزب في الساحة الاسرائيلية ويرشحها المراقبون لأخذ المكان الثاني في الانتخابات المقبلة، والتي تؤيد بقوة طرح مجلس الحاخامية، بل تتجاوزه الى مواقف أكثر تطرفاً. لا يختلف الأمر كثيراً لدى السياسيين الاسرائيليين العلمانيين الذين باتوا يتحدثون علناً عن اقتسام الحرم. فهذا ايهود اولمرت، رئيس بلدية القدس، يرفض تعريف "موقع اسلامي" بالنسبة للحرم، وقد نقلت عنه صحيفة "هآرتس" قوله: "ان الحرم ليس موقعاً اسلامياً، ان جزء منه فقط مرتبط بالاسلام، الحرم هو قبل كل شيء موقع يهودي واسمه يدل على ذلك - جبل الهيكل - بيت المقدس - المقدس اليهودي". ربما كان موقف يوسي بيلين، وزير العدل الاسرائيلي و"حمامة" حزب العمل هو الاكثر تأكيداً للتحول الجديد في مسألة الموقف من الاقصى. فهذا "العلماني" المعتّق لم يجد في حديثه الى "الحياة" 19 / 8 - 00 حرجاً في اعلانن موقفه من المسجد، اذ أصرّ على تسميته ب "جبل الهيكل" الذي هو "أقدس الأماكن" بالنسبة الى اليهود وأقدس من حائط المبكى، ولذلك فلا بد من "منفذ غير مقيّد" اليه. ولن يسأل أحد بيلين ما يمكن ان يفعله الاسرائيليون من خلال ذلك المننفذ وهم يصرّون على ان هيكل سليمان يقبع تحت المسجد بانتظار الحاخامات! الأميركيون بدورهم، وحسبما كشف توماس فريدمان، الكاتب الصهيوني في "نيويورك تايمز"، قدموا طرحاً يماثل الطرح الاسرائيلي، يقوم على اقتسام القدس والحرم القدسي، وهو ما أكدته وزيرة الخارجية أولبرايت في حديثها الى الفاتيكان، حين طرحت مبدأ "القدس - ثلاث مدن"... "احداها للشؤون البلدية وأخرى للشؤون السياسية وثالثة للشؤون الدينية، وقد كرر الرئيس الأميركي في حديثه ل"الحياة" ما قالته وزيرته عن "المدن الثلاث" في القدس. فيما قالت "يديعوت احرونوت" ان ما طرحه الرئيس الاميركي بالنسبة الى موضوع الاقصى قد تضمن حق الاسرائيليين في اجراء "حفريات" في الحرم اضافة الى الصلاة فيه! جماعة الفاتيكان كان لها دورها أيضاً، فهذا الكاردينال إدوارد كاسيدي، رئيس المجلس البابوي للحوار مع الأديان، وهو يهودي الأصل وله نفوذه الواسع على مؤسسة الفاتيكان، يقول إن من "الواضح أن القدس بالنسبة الى اليهود هي عاصمتهم وهذا أمر مهم جداً، لكنها على القدر نفسه من الأهمية بالنسبة الى الفلسطينيين الذين يعيشون فيها". وطالب بأن يكون "لليهود وللفلسطينيين والمسيحيين مكان في المدينة"، ونلاحظ هنا الفصل بين المسيحيين والمسلمين والأفضلية الواضحة لليهود التي هي عاصمتهم فيما للآخرين "حقوق" والآخرين هنا هم الذين يعيشون فيها وليس لكل المسلمين خارجها. على الصعيد العربي والاسلامي ما زال الحديث عن مسألة القدس والمسجد الأقصى تحديداً، هامشياً الى حد كبير، وفي الغالب محصور في الدوائر السياسية، على رغم أن الجميع يعرف أن حريق المسجد الأقصى عام 1969، هو الذي انتج منظمة المؤتمر الاسلامي. من المؤكد أن غالبية الشارع العربي والاسلامي ترفض تقزيم مفاوضات الوضع النهائي والعلاقة مع المشروع الصهيوني في مسألة القدس والحرم المقدس، فيما يتم التنازل عن 78 في المئة من فلسطين والسيادة الحقيقية على ما تبقى منها مع تهميش قضية الانسان ممثلة في ملف اللاجئين الذين يشكلون حوالى 70 في المئة من الشعب. بيد أن ذلك لا ينبغي أن يلفت الأنظار بعيداً عن مسألة القدس وحرمها ما دامت القضية بذلك الوزن لدى أكثر من بليون مسلم على وجه الأرض. لقد كان متوقعاً من الشارع العربي والاسلامي أن يكون له رأيه الفاعل فيما يجري، بيد أن حال من الصمت المزري ما زالت تفرض حضورها على كل الأصعدة، مما أعطى الفرصة للأميركان لممارسة قدراً غير مسبوق من العربدة السياسية. ولعل أصابع الاتهام الرئيسية ينبغي أن توجه صوب الإرادة السياسية الرسمية التي تحارب الفعل السياسي في الشارع على هذا الصعيد كجزء من مطاردة الوعي السياسي فيه خشية امتداده لأهداف محلية من جهة، اضافة الى الخوف من الولاياتالمتحدة التي قد ترى في السماح بحركة سياسية في الشارع العربي نوعاً من التصعيد الرسمي. ليس بمقدورنا إلا أن ننوه ببعض المواقف الرسمية من ملف التفاوض، خصوصاً بالنسبة للمحور الثلاثي القاهرة - الرياض - دمشق ومواقف عربية أخرى تؤيد هذا المحور، لكن بقاء هذه الحال في دائرة الفعل الرسمي، سيجعلها عرضة للتراجع أمام الضغوط، خصوصاً وأن الاعتراض على ما يجري لا يتعلق بالقدس وحدها، وانما بمجمل ما هو مطروح حيث يراد لكيان سياسي هزيل على أقل من 30 في المئة من الأرض الفلسطينية مرتبط بمؤسسة الاحتلال أن يكون مدخلاً لإنهاء النزاع، وحصان طروادة الى كل العواصم العربية. ملف القدس وحرمها المبارك ينبغي أن يستثمر لتفعيل الحال الشعبية العربية في مواجهة الغطرسة الأميركية وإلا فإن الخيار القادم هو التراجع والخضوع وبالتالي التوقيع وبعده الاختراق. * كاتب أردني