لا تتمحور التجربةُ الشعريةُ لدى غادة نبيل حول بؤر مضمونية مغلقة ومحدودة، بل تمتلك اقصى درجات الحرية لكي تنتقل من رؤية الى رؤية، ومن تصور مضموني الى غيره ببساطة وشجاعة. فتنتقلُ ما بين قوسين كبيرين، الاول: قوس الذات واحوالها وتجاربها، والثاني: قوس العالم الخارجي في كل مستوياته الاجتماعية والتاريخية والثقافية، فتتحدث عن الجسد والروح واحوال الذات من ناحية، وتتحدث عن التفاعلات بين التاريخ والجغرافيا وعلاقة الانسان بما يدور خارجه من ناحية ثانية: أسئلة كثيرة في رأسي/ لماذا جن نبوخذ نصر/ هل لأن الرؤيا كان يجبُ ان تصدق/ ام ان طعم العشب كان لذيذاً؟/ وما فائدةُ الجغرافيين/ عندما يعجزون عن تفسير العلاقة/ بين كركوك وخان يونس؟ وتسعى الشاعرةُ مثلما نعرفُ في الحساسية والشعرية الجديدة الى تنويع القوالب البنائية في شكل كبير، كما لو كانت تطمعُ في استخدام كل القوالب المعروفة لكي تصنع حالة من الثراء التقني يتواكب مع الرؤية المتعددة الانتقالات من منطقة الى اخرى. وتكون الحصيلة الكلية هي تلك التجربة الممتلئة التي تنتج بانوراما شاملة تمسحُ قطاعات عريضة من الحياة. تكتب الشاعرة القصيدة الشديدة القصر ميكرو قصيدة كما سماها كمال خير بك إذ أن هذه الشحنة الشديدة الكثافة يتم تجميعها حول بؤرة صغيرة مثلما جاء في قصيدة "النصيحة" على سبيل المثال وهي عبارة عن فكرة ذات طابع حسي بارق يمر في لحظة حوار انساني خاطف. وتكتب كذلك القصيدة العملاقة التي سُميت بالقصيدة - المشروع، مثلما بدا في قصيدة "شكلية في طريقة غير معقولة" وقد جاءت في أكثر من اربعين مقطعاً واستغرقت اكثر من عشرين صفحة. ولعلّ القصائد الشديدة الطول تتنوع في اساليبها وطبيعتها البنائية ايضاً. فالقصيدة التي سبقت الاشارة اليها شكلية في طريقة غير معقولة تتكون من مقاطع متباينة الدلالة وتنتقل بين: رثاء النفسي"، سلبيات انثوية،الموت والامومة... إلخ يسيطر مضمون البحر على معظم مقاطع قصيدة "عمّ" كأن يصبح البحر رمزاً يشمل تاريخ الانسانية، وكل الانشطة الثقافية والحياتية التي مارسها البشر. يتّسم الديوان بنكهة شعرية تريد ان تعايش العالم بما هو عليه من خلال هذه اللحظات الشديدة النداوة والبراءة: موبيليا البيت، الصور القديمة، لعب الطفولة، عرائس الطفولة، طبيب النساء، افلام رعاة البقر، طاهي البيتزا، الستائر المعدنية، بنت تتمشى في الكوريدور... إلخ. تريد الشاعرة ان تنفض يدها عن الفلسفات التقليدية التي اثرت على مصير العالم، بل تريد ان ترتبط بالطفولة لكي تعيد تشكيل العالم: حصاة مدورة/ في الغابة المسحورة/ حيث البيوت من الحلوى/ لها ابواب من البسكويت/ بأزرار شيكولاته/ والكريمة البيضاء تهطل/ من الشجر الروبسوس" لا تريد الشاعرة ان تصالح العالم للدرجة التي تسقط فيها تحت آفاق الرومانطيقية المائعة، ولا تريد ان تحارب العالم او تنظم صراعات ايديولوجية خاسرة. انها تريد ان تطرح العالم كما هو، وهو نزوع "ما بعد حداثي" يطرح روحاً جديدة تلتقط من خلالها التفاصيل الجزئية الصغيرة وقد تجاورت تجاوراً لا نهاية له مما يشكّل هذه السيولة المتدفقة التي تشهدها حياتنا اليوم. ونستطيع ان نتأمل هذا الميل القوي نحو "النوستالجيا" بعد ان تغيرت احوال العالم اجتماعياً ونفسياً وبعد ان انتهى المضمون العاطفي، وصار الجمع بين لحظات مختلفة منطقاً فلسفياً و"ظواهرياً" جديداً: "أحبني/ وأوقد لي شمعة في البطرخانة/ أوقدت الشمع ولبست عيناً زرقاء/ اشتريتُ ماندالا الهنود/ وطفت حول الجعران المقدس" الإحساس بالنداوة في هذا المقطع ناتج من هذا الجمع العشوائي بين طقوس دينية مختلفة من خلال رموزها المادية. الشاعرة إذ تستعيد الماضي وتستفيد من العشوائية وتقلب المعارف والخبرات السابقة لينتج عن ذلك ما يسمى بالفرنسية "الأسلوب الاستعادي".