لكي نتقدم هل نحتاج أولاً إلى أدوات كالروح النقدية والعقلانية والحرية والتعليم؟ أم أن النهوض يحتاج أولاً إلى قوة بالمعنى الفيزيائي تولد روح النهوض؟ وهل الإسلام - حين ننادي به مولداً للنهوض - قادر اليوم، كما كان بالأمس، على مقاومة التحدي الحضاري المقتحم؟ ثم هل تأصيل الحداثة، على مفاهيم النصوص الدينية، يحتاج إلى تأويل الدين؟ إم أن أسلمتها يمكن أن تتم عبر "تفسير" مفاهيم الدين إذا عدنا للاغتراف من منبع النهر بدلاً من مصبه الذي امتص مئات الملونات خلال ألف ونحو أربع مئة من الأكيال التي غيرت لون النهر وطعمه وقتلت كثيراً من عناصره الحية؟ أم أن المناداة بمشروع إسلامي للنهضة العربية مرفوضة شكلاً ومضموناً وإنما هي "طوباوية" وغفلة عن الواقع تؤدي إلى اجترار الماضي، فتؤول بنا إلى مزيد من التخلف، ولا بد إذن من أن نبحث عن مولد آخر للطاقة. النهضة روح أم أدوات؟ تساءل غستاف لوبون في كتابه "حضارة الهند": كيف استطاع البريطانيون ببضعة آلاف من الجنود أن يستعمروا الهند ذات الملايين العديدة؟ وأجاب: عند تشريح جمجمة الهندي لن نجدها مختلفة عن جمجمة الإنكليزي، ولكن الفرق هو الإرادة: الثبات والعزم في قوم والضعف والاستكانة في آخرين. قوة الإرادة - إذن - هى سر النهوض لأنها الروح التي تنبض بالجسد. وإذا لم تمتلك الأمة روح الإرادة والطموح جاوبت التحدي بمزيد من التردي. وإذا كانت الأمة حية الروح نفخ فيها التحدي روح التصدي. لا زلنا منذ مئة عام نتساءل في العالم العربي: كيف تقدم العالم المتفوق؟ هل تقدم بالعقلانية؟ هل تقدم بالحرية؟ هل تقدم بالتعليم؟ أي هل نمحور إشكالية النهضة في هذه القيم المهمة؟ أم أن هذه "أدوات" للنهضة، والنهضة قبل أن تكون أدوات إنما هي قوة بالمعنى الفيزيائي تستثمر هذه الأدوات؟ عند استقراء تاريخ الغرب، يمكن أن نجد أن قوة الإرادة هي روح النهضة. وهذه الإرادة تبدو منذ الحروب الصليبية، ثم قد نراها تجسد ثقافة قوة الإرادة في أعمال كورني قبل عقلانية ديكارت ومفكري التنوير. كيف تبدو العلاقة بين الإرادة وفكر التنوير الأوروبي الذي خلّص الثقافة من فلسفة أرسطو التجريدية الجافة، وأخرجها من الفكر الكلاسيكي إلى آفاق أرحب وأوسع، فكانت حداثة الفكر والأدب حقلاً لإنتاج المفاهيم العملية التي أفضت إلى فعالية الثقافة أي التكوين الفكري. فأفضت حيوية الثقافة إلى حيوية القيم أي معايير التصرف الاجتماعي التي أفرزت سلوكيات النجاح الحضاري، فاستطاعوا أن يكونوا سادة العالم؟ هل التنوير هو الذي أنتج قوة الإرادة؟ أم أن قوة الإرادة هي التي أفرزت فكر التنوير؟ أليست العلاقة تراتبية، أي أن روح النهوض تفرز وتشحذ أدواتها؟ العقلانية كيف تكون عملية؟ وكيف تكون مقتحمة من دون عزيمة؟ أليست العلاقة بين شجاعة القلب وشجاعة العقل هي التي حمت العقل الأوروبي الحديث من الانحراف إلى العقلانية التجريدية اليونانية؟ بل هل يمكن أن نتصور عقلاً من دون شجاعة، والعقول كالعيون لا تنمو بل تنطمس في حشرات الكهوف؟ العقلانية والحرية العقلانية من دون روح عملية قد تبني بناء هندسياً براقاً يخلب الألباب بالقدرة على التحليل والتأويل والاستشهاد والاقتباس ولكنه في النهاية كالأحلام والسراب. فما معيار العقلانية العملية إذن، هل من العقلانية العملية أن نركز على الحداثة الأدبية والفنية فنهمش المعرفة التطبيقية والتقنية؟ للإجابة عن هذا السؤال نقارن بين نوعية ما ترجمنا وما ترجم الصينيون. ما المشروع الذي يوجه العقلانية كي لا تكون تجريدية خيالية، عندما تبحث في الاجتماع كفكر ابن رشد والفارابي؟ وما الذي "يبوصل" العقلانية كي تفحص المسلمات الدينية القطعية التي وردت في الكتاب والسنة فحص إيمان واستلهام للبناء عليها، لا فحص شك يهدمها عبر التأويل أو عبر الإنكار، وتفحص المسلمات في غيرهما فحص تصفية وفرز واختيار. والعقلانية من دون حرية مثل نباتات الغيران والكهوف، وكنبات البيوت المحمية ليس نباتاً طبيعياً لأنه محروم من أشعة الشمس والهواء. فهل الحرية تفضلٌ فيوهب أو يستوهب أم حق فيعطى أو ينتزع؟ ولذلك قال تورنس: "لكي تكون مبتكراً ينبغي أن تكون شجاعاً". ومن هنا تبدو العلاقة بين الحرية والعقلانية. ولكن أليس للحرية علاقة بالروح والأيديولوجية؟ هل الحرية من دونهما هي سر انتصار العرب المسلمين على فارس والروم بالامس؟ وهل الحرية من دونهما هي سر انتصار الصهاينة على العرب اليوم؟ وكيف نجمع بين الحرية والأخلاق؟ وكيف نجمع بين الحرية واحترام القانون والنظام؟ وكيف يمكن الجمع بين حرية الأفراد وقيم المجتمع؟ فالحرية إذن تحتاج إلى ميزان، فهل يكون ميزانها الأيديولوجية الأطلسية؟ بين العلم والإرادة وما يقال عن العقلانية والحرية يمكن أن يقال عن الذكاء والعلم، فهو إذا كان من دون إرادة وثابة أنتج المبالغة في الحذر العاطفي المنطلق من الأنانية، والخوف من مخالفة الاتجاه السائد، فأفضى ذلك إلى الخوف من الجديد ومن المسلمات، وقدّم الاحتراس على المخاطرة وفرّ من الغريب إلى المألوف وآثر الإمعية على الاستقلال. وصار لا يخطو خطوة إلى الأمام خوفاً من أن يخطئ في الكلام. وخوفه من الخطأ حرمه من التجريب، وخوفه من التجريب أركسه في مستنقع التقليد... وهذا شر من الجهل البسيط. لأن الأمية الحرفية صاحبها جاهل بسيط نسبياً، يعترف بجهله ويسأل ما السبيل؟ أما الأمية الروحية فصاحبها جاهل مركب لأنه قد يوظف علمه لتبرير التخلف فيصبح أشد فتكاً بالأمة من المتخلف البسيط، وقد يوظف أرقى مبتكرات العلم لتخدم أبشع الممارسات المتخلفة، وقد يطأ الحقيقة برجليه ويسعفه العلم "السوفسطائي" بالحجج فيصبح قادراً على التلون الحربائي والتشكل الإسفنجي، ويصبح العلم تبريراً للتخلف وخدمة له بل استثماراً مربحاً له، ويصبح العلم تكديساً رملياً لا بناء هرمياً. ما علاقة الابداع بقوة شخصية الأمة؟ أليست قوة الشخصية شرطاً للنجاح في الحياة، لأن المؤهلات العلمية لا تكفي وحدها للنجاح؟ انظر الشخصية - الأبراشي:8. التعليم من دون رؤية حضارية محاولة فاشلة لإعادة إنتاج نموذج نجح في ظل شروط حضارية أخرى كالأطلسية، والإنجاز الحضاري لا يعاد إنتاجه من دون روحه. فالتعليم من دون هدف حضاري وتخطيط مستقبلي لبلوغ هذا الهدف قد ينتج مهارات تقنية، ولكن هذه المهارات قد تستخدم استخداماً محدوداً في مظاهر وهموم محلية قاصرة، وتندمج في عقلية التخلف السائدة، أو تهاجر إلى الغرب فتسافر الأدمغة الحية وتبقي الأدمغة الموات أو المهمشة كي تدور في عجلة الروتين اليومي، فيتوهم الناس أنهم تقدموا عبر ترسيخ ثقافة الاستهلاك. وهذا التعليم في النهاية يزيد التبعية الحضارية. العبقرية روح لا تعار كيف اكتشف الهنود سر الذات، واستلوا مشروع النهوض من تراثهم الساكن وعقيدة الاستسلام الخاملة، لولا نفحة العزيمة في "النحن" التي أذكاها الانتهاك البريطاني، فتجسدت بأيديولوجية للتقدم؟ هل يمكن اعتبار التقدم منفصلاً عن الأيديولوجية أم أنه "مفهوم مشبع بالأيديولوجية"؟قاموس المصطلحات: سامي ذبيان وآخرون. السؤال تجيب عنه النهضة الهندية. أي أن التقدم يؤسس على "تركيبة" من المفاهيم "الذهنية" الفعالة، تدفع بالقيم الاجتماعية إلى الانسجام والحراك . هذه المفاهيم خلطة أو طبخة تتوازن فيها عناصر واضحة وأخرى غامضة من روح الأمة. ولكن نجاحها في تركيبها لا في مفرداتها، والتركيب يعتمد على التناسب بين العناصر لا التماثل، لأن تركيب الطبخة أو الخلطة تختلف خصائص مجموعه عن خصائص مفرداته. أي انه ليس عملية حسابية فيساوي حاصلها العشري مجموع آحادها. إذن هل يمكن أن تؤخذ أدوات تقدم أمة كالأمة الأميركية كالعقلانية والحرية والتعليم، وينتج عنها أمة متفوقة في أفريقيا أو آسيا، فتكون هذه الأدوات كيمياء النهوض، أي تحويل المعدن الخسيس أو الرخيص إلى نفيس؟ هل يمكن استعارة ما أنتج الغرب من معارف وآلات وتقنيات من دون نفحة من العبقرية الجمعية التي أنجزت هذا الإبداع؟ ولكن "العبقرية لا تعار" كما قال ج. و. دف. إذن الأمة بحاجة إلى البحث عن عبقريتها، ومتى اكتشفتها استطاعت امتلاك ما تستعير. ف"للعبقرية القدرة على أن تستعير وأن تجعل من الاستعارة ملكاً لها" تاريخ الأدب الروماني: ج. و. دفّ: 1/121. أمتنا - إذن - لا يمكن أن تطاول التحدي الحضاري إلا بنفحة من العبقرية. فهل عبقريتنا الحضارية هي القومية العربية أم الإسلام؟ الروس تقدموا ثم اكتشفوا بعد سبعين عاماً من التطور العلمي الهائل والإبداع التقني الجبار أن الخلل في أساس النهوض يذرو كل الإنجازات الذهنية والتقنية في مهب الريح... لأن الشيوعية أيديولوجية تحتقر الإنسان. لم يجدهم اصرارهم على تنفيذ خطة للتقدم شعارها قول ستالين: "إننا متأخرون ما بين خمسين ومئة سنة، ويجب أن نقطع هذا الشوط خلال عشر سنين، وإن لم نفعل - وإننا سنفعل - قضي علينا". في بلد مثل كوريا أمكن أن يحصل تقدم عمراني خلال ثلاثين عاماً 1960-1990. لم تجد كوريا صعوبة في تكرار نموذج الحضارة الأطلسية العمراني في ثقافتها وقيمها، ولكن هل كوريا نموذج يمكن أن يحتذيه العرب؟ أم أنها نجحت لأنها دولة أو أمة من دون تاريخ حضاري، أي أنها لقيطة على المستوى الحضاري؟ أم أن الحكم على نجاح النموذج الكوري لا زال مبكراً، لأن الحكم على الحدث في التاريخ كالحكم على المسرحية لا يكون صحيح المنهج، فضلاً عن الموضوع، حتى ينتهي العرض؟ فقد نكتشف يوماً أن تقدم كوريا، كتقدم تركيا كمال وإيران الشاه، محاولة تلفيقية فوقية لإحياء رمم الأجداد، تمثل قفزاً على الهوية الحقيقية للأمة. ولذلك تحطم بالأمس صولجان الشاه، وبدأ اهتزاز تمثال كمال. القومية العربية هل هي مشروع؟ القومية العربية حاولت أن تستنبط أيديولوجية للنهضة من اللغة، وهذه تجربة طبيعية في السياق الاجتماعي العربي بعد أن أوّلت "العثمانية" النص الديني وجيرته في حساب الجور والتخلف، الى ان فقد الشيك مصداقيته العدلية والتقدمية والأخلاقية من كثرة التجيير والتأويل. وما إفراط "الكمالية" إلا رد فعل لذلك التفريط. لكن القومية رد فعل آني وإن شحنت الناس طيلة عقود بالروح الحماسية، وأتيح لها ميدان التجريب في أكثر من قطر. والنتيجة معروفة لأن العروبة ليست أيديولوجية. العروبة لغة، واللغة العربية ليست هوية لأنها ليست ثقافة، إنما هي لغة. والوعاء اللغوي يختلف عن المحتوى الثقافي فضلاً عن القيم. فما القيم التي يمكن أن يصكها المشروع القومي أيديولوجية للنهوض؟ كيف يمكن "تركيب" أيديولوجية للنهوض من "الثقافة العربية" حتى ولو كان انتقاءً غير منهجي؟ ابن خلدون استقرأ تاريخ العرب القديم، فرأى ارتباط نهوض العرب بالإسلام، فقال: "العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية" ب 1/ف 27 من المقدمة. ولكن تعليله يحتاج إلى مراجعة، فهو يرى "أنهم أكثر الأمم بداوة"، وأن "هذه الطبيعة ويعبر عنها تارة بالجبلة منافية للعمران". فهل بداوة العرب في الجينات العضوية ولا يمكن أن تعالج فيتحضروا إلا بالدين؟ أم أن إرادة العرب - ولعله مقصد ابن خلدون - لا تتبلور إلا بمشروع حضاري يلهب الهمم ويرتفع بالنفوس عن الأثرة والمطامح الصغيرة . فالدين مولد قاد العرب إلى النجاح، لأن العرب مادة خام بشجاعتهم وسماحتهم وكرمهم. ولكن الإسلام صهرهم في بوتقته فأعاد تركيب القيم وحذف وزاد وعدل، فوهبهم عبقرية الانجاز، وحوّل الجاهليين من ظاهرة صوتية تفتخر بفصاحتها وقيمها البدوية إلى ظاهرة حضارية تفتخر بجلائل الأعمال. فليس هناك حضارة عربية خالصة بعد الإسلام، بل هناك الحضارة الإسلامية العربية لأن الحضارة إنجاز إسلامي، والإسلام صاحب الانجاز هو الذي سوَّد العرب على الفرس والقبط والروم والهنود. والامتياز العربي ما كان عرقياً سلالياً بل كان حضارياً رسالياً. ولذلك جاء التنبيه للذين خلطوا بين الأمرين "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم...". وليس في ذلك تقليل من قدر الإنجاز العربي القديم، فالأسلمة ليست طمساً لما للعرب الأقدمين أو لغيرهم من إنجاز في مصر وسورية والعراق والمغرب وغيرها، سواء اعتبرت تلك المدنيات عربية على رأي بير يوسي أي الآشورية والكنعانية والعمورية والآرامية والفينيقية والقرطاجية، أو اعتبرت سامية على رأي شولتزر. على كل حال، فالأسلمة ليست طمساً ولا إلغاء لتاريخ أي أمة، فضلاً عن أن تكون غمطاً للإبداع الحضاري، وهو تراكم إنساني لا مكان له ولا زمان ولا دين ولا قومية ولا لغة. الإسلام قوي بما يصنع ويبني لا بما يهدم ويلغي، ولا يهاب الاعتراف بفضل الآخرين او الاستفادة منهم. وحيث انه قوي أمامها، فإنه يصهر ولا ينصهر، ويستعير ما يوافق روحه ولا يطمس الخصوصيات والفروق ، إقليمية وعرقية ولغوية. يعترف بالأديان السماوية التي لا تعترف به ما دامت تؤمن بأن المثل العليا والأخلاق حقائق مطلقة خلافاً للقرمطية والشيوعية واللائكية. ولذلك استطاع استيعاب الفسيفساء الدينية أينما حل، فصار هوية حضارية عامة للمسلمين ولغير المسلمين، لأن رسوله أرسل "رحمة للعالمين" أي ليس رحمة خاصة بالمسلمين. وهو فوق ذلك عقيدة روحية وأخلاقية للمسلمين، وبذلك أقام حضارة ذات نزعة إنسانية عالمية. إذن الاسلام يستوعب العروبة ويحتويها، فهل تستطيع العروبة احتواءه أو استيعابه؟ لأنه لا يمكن أن يتحجم دوره، فيصبح رافداً محدوداً في نهر العروبة، كما كانت النصرانية رافداً محدوداً في الحضارة الأطلسية. إذ تتخذ العلاقة بين الإسلام والأمم التي استضاءت بنوره طابعاً أبعد مما شاهده ابن خلدون عن علاقة العرب بالإسلام. هذه العلاقة هي أن الإسلام "يجب ما قبله"، فإذا تغلغل في ثقافة الأمة وقيمها أعاد تشكيل عناصرها، فما استجاب منها لحقله المغناطيسي اصطفاه وما حايد استثمره، تاركاً مساحة كبيرة للخصوصيات، معتمداً على الأسلوب الإصلاحي الإقناعي في التغيير. وبهذا الأسلوب توسع وانتشر ورسخ. لم يدرك قوميو إيران أن الحضارة الفارسية التي كانت إحدى الحضارات الكبرى في التاريخ الأقدم لن تعود من جديد إلا تحت عنوان "الحضارة الإسلامية... الإيرانية". فهل ندرك نحن العرب أننا سنستمر في رحلة تمزيق الذات مهما ملكنا من أدوات، من حرية وعقلانية وتعليم ومن مال ومن سلاح، بل أننا بهذه الأدوات سنكرس روح الشقاق، أم ندرك علاقة الوحدة بالتوحيد وندرك معنى "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم"، ولكن الله بالإسلام "ألف بينهم"؟ الإسلام إذن روح حين تسكن أي مجتمع لا يمكن تهميشها. والذين لا يؤمنون بالإسلام على أنه عقيدة صحيحة يمكنهم أن يؤمنوا به على أنه أيديولوجية صالحة أساساً للنهوض، مهما كانت عقائدهم. فإن لم يقتنعوا بهذا ولا بذاك، ألا يلمسون تجذر الإسلام في المجتمعات العربية، فيؤمنون به على أنه سلطان اجتماعي لا يمكن القفز فوقه؟ كيف تخفى الحقائق على نخب عربية كثيرة، سياسية وثقافية، وتدركها النخب الأطلسية وتخطط في التعامل مع منطقة الشرق العربي والإسلامي، محاولة تخدير ذلك السلطان وخداعه أطول وقت ممكن؟ مشروع النهضة لم يشرعنه أحد من البشر، بل شرعه الله "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، فمن دون مفاهيم "الكتاب" لن يبتكر مشروع، ومن دون قيم "الحكمة" لن يكون لنا نهوض. والذين لا يريدون تأسيس النهوض على الإسلام، ينسون أنه القادر على شحن المجتمع بالحيوية الذهنية والانسجام والحراك. فهو قوة تولد الشحنة، وهو أيضاً بوصلة توجه. فالمولد من دون توجيه قد يدور من دون أن ينتج ماءً أو ضوءاً أو يغرق أهله أو يحرقهم. الإسلام يشعل الروح وينفخ فيها لاستثمار الأخلاق الفطرية في نفع الجماعة، ويهذبها وينميها ويبوصل اتجاهها. فهل للعرب من مشروع يوجه توظيف النهضة ويمنحها الحوافز، غير الاسلام؟ ومن يستطيع أن يوظف مفهوم الجهاد لكل تقدم روحي وأخلاقي واجتماعي وعمراني وحضاري... غير الإسلام؟ الإسلام أوجد حوافز دينية لكل عمل عمراني حضاري. فالدين يجعل كل عمل تقوم به الجماعة عبادة، فالمتقن في مجال الزراعة والصناعة والتجارة والادارة إنما يقوم بعبادة، والكناس لن ينظر بدونية دينية إلى عمله ما دامت "إماطة الأذى عن الطريق صدقة". والدين هو الذي يدفع إلى تنظيم الوقت، وربط الأجرة بالانجاز والتنافس والدأب على العمل، ويعتبر ذلك عبادة. والدين هو الذي يضع الحوافز لبناء الضمير كي لا يسرق الإنسان أو يفجر أو يهمل أو يضيع الوقت أو المال ولا الماء، لأن الدين يقول له: "لا تسرف ولو كنت على نهر جار". فهل تستطيع "القومية" أو "الوطنية" أو "الاشتراكية" أو "العلمانية" أن تصك مثل هذه الحوافز لبناء الضمير الحي؟ فلماذا نترك هذه الامتيازات وما فيها من حوافز للتقدم في الدنيا والآخرة؟ ولماذا نترك مشروعاً للتقدم الروحي والأخلاقي والاجتماعي والحضاري لا يمكن الفصل بين وحداته، ونبحث عن مشروع آخر؟ وما الثمن الذي يدفع لنا لكي نتنازل عن هذا الامتياز، وما البديل؟ لن يدفع لنا ثمن، بل نحن الذين سندفع الثمن. أما البديل فهو مزيد من مشاهد الانهيار التراجيدي فوق مسرح يوناني جديد من مسارح التبعية الحضارية، ومزيد من التبعية الغسانية الجديدة لروما الجديدة، جنة السادة وجحيم العبيد. * أكاديمي سعودي.