المقهى مؤسّسة فرنسية عريقة. وقد عَرفتُ، توثيقاً، من الأديب المصري الكبير جمال الغيطاني، في كتابه "القاهرة في ألف سنة"، أن المقهى القاهري لا يقل عراقة وحضوراً وتنوعَّا عن المقهى الباريسي. ونحن لا نعرف على وجه التأكيد، لماذا يرتاد الناس المقاهي، أو لماذا اكتسب المقهى هذه المكانة الاجتماعية والحضارية المهمة في بعض المجتمعات هناك مجتمعات تعتبر ارتياد المقاهي والجلوس فيها تسكّعاً وصياعة لا يليقان بالناس المحترمين، بينما هناك مجتمعات أخرى يرتاد مقاهيها الأدباء والسياسيون والعُلماء والفنانون وغيرهم من أصحاب المصالح والمِهن. والخلفية السوسيولوجية لذلك تحتاج إلى تمحيص. * كان الرئيس الفرنسي ميتران، في زمن المُعارضة، يفضل قراءة صحيفته اليومية في مقهى "لُو دُو مَاجَو" بمنطقة "سان ميشيل" وهو مقهى باريسي يُطلّ على ميدان صغير، خفيف الدم، مُلاصق لمنطقة الحي اللاتيني. وألذّ ما في المقهى، إضافة إلى زبوناته اللطيفات الجالسات والعابرات، طبق جبنة المازاريلاّ مع قطع الطماطم وزيت الزيتون مع الخبز الفرنسي الشهير. ومقاهي "سان ميشيل" الأخرى المجاورة هي مقاه عريقة، معروفة بزبائنها من الشعراء والأدباء والسياسيين، وأكثرهم شهرة في التاريخ الحديث للمقهى الباريسي جان بول سارتر، المفكر والأديب الوجودي الشهير، وصديقته الأديبة سيمون دي بوفوار. وإذا كان المقهى الفرنسي معروفاً ومألوفاً لدى الفرنسيين، أو زوّارهم من علية القوم، أو أمراء الروايات الفرنسية، فقد ذاع صيتُ هذا المقهى الشهير بعد أن بدأ يرتاده الأميركيون في فترة ما بين الحربين العالميتين. وأشهر الزبائن الأميركيين ارنست همنغواي المراسل الصحافي الحربي، ثم الروائي العالمي ذائع الصيت، ومعه طابور طويل من الفنانين والأدباء والصعاليك وبقايا العسكر الأميركي، وفتافيت من عازفي موسيقى الجاز، والأرامل الأميركيات الثريات. ونتج عن ذلك أن أصبح المقهى الباريسي مقصداً سياحياً مهمّاً، لا تكتمل زيارة باريس دون الجلوس فيه والتسكع حوله، خصوصاً المقاهي الشهيرة على ضفاف "الشانزلزيه"، أو زوايا الحي اللاتيني. وقد تعرفنا، ابتداءً، على ملامح من هذه الظاهرة الفرنسية المثيرة في قراءاتنا لكتابات العرب الذين ارتادوا باريس مثل الطهطاوي، ثم توفيق الحكيم في "عصفور من الشرق"، أو سهيل إدريس في "الحي اللاتيني"، أو ترجمات منير بعلبكي لپ"البؤساء" من تأليف فيكتور هوغو. ويضاف إلى ذلك الأفلام الأوروبية، أو أفلام هوليوود عن الأميركيين في باريس، أو عن الحرب الأهلية، وكذلك المشاهدات الشخصية لمعارفنا المُخضرمين الذين كان لهم من الثروة والحظ ما مكنهم من السفر إلى باريس، وارتياد مقاهيها في ذلك الزمن المبكر. وكنت اعتقد بأن عادة التسكع، بالعُيون، في المقاهي الباريسية عادة عربية حديثة، ظهرت وترسّخت في عهد الانفجار السّفري العربي المعاصر إلى باريس. فأكثر العرب لا يعرف من باريس أكثر من مقاهيها، وما شابهها، إضافة إلى مراكز التسوُّق والبوتيكات بالطبع. والسبب في ذلك لا يعود إلى اكتشاف العرب عشقاً جديداً لقهوة "السبريسُّو"، أو زجاجة الماء المعدني الفوّار، ولكن، غالباً، لأن المقهى الباريسي يشكل نافذة، ونقطة مراقبة جيدة لفاتنات "الشانزلزيه" الغاديات الرائحات، وبعض الشخصيات الكاريكاتيرية من مختلف الجنسيات، التي يزدحم بها ذلك الشارع العجيب. يذكر جمال الغيطاني في كتابه ان قهوة القزَّاز، على مقربة من الموسكي والعتبة، كان يرتادها أهل الريف غالباً. وكانوا يجلسون فيها ويتأملون النساء القاهريات المحجبات بالبراقع البيضاء والسّوداء، أثناء اتجاههن لشراء حوائجهن من أكبر شوارع القاهرة في ذلك الوقت، شارع الموسكي. أمّا محل حلواني اللبّان بالقرب من هذا المقهى، فكان زبائنه من العسكريين القُدامى والعجائز المتصابين، وكانوا يجلسون يتابعون المارّة، ويتبادلون الذكريات المستمدة من سنوات عُمرهم البعيدة. وأعتقد بأن القاهرة من أكثر المدن، بعد باريس، احتفاء بالمقاهي، واهتماماً بها. والمقهى، مكاناً، كان موجوداً ربّما منذ العهد الفاطمي، ولكن المقهى، إسْماً وتقاليد، جاء بعد تقديم القهوة، مشروباً، في القرن السادس عشر على يد أبو بكر بن عبدالله المعروف بالعيدروس، كما يروي لنا الغيطاني. ويذكر كتاب "وصف مصر" الذي أعدته الحملة الفرنسية أن مدينة القاهرة كانت تضُم ألفاً ومائتي مقهى خلاف مقاهي مصر القديمة وبُولاق. أما اليوم فيذكر الغيطاني أنه يوجد في القاهرة حوالى خمسة آلاف مقهى. وتاريخ هذه المقاهي، وأنواعها، ومواقعها ورُوّادها تحكي فصلا مهماً ومثيراً من التاريخ السياسي والفكري والأدبي، لمِصْر، وتعكس جوانب مهمة من حياتها اليومية. عجباً، كيف تحكي المقاهي، أحياناً، قصة الحياة في مدينة على نحوٍ أبلغ، وكيف تروي فصول التاريخ، في مجتمعات، على نحوٍ أشهى، من كثير من الكتب؟