يعطينا معرض الفنان العربي السوري نذير اسماعيل، والذي احتضنته صالة "بلدنا" في عمان، فرصة للتأمل في تجربة تشكيلية شديدة الغنى والعمق، على مستوى الخط والتلوين، كما على صعيد المضمون والرؤية الفنية الخاصة. ففي المعرض 47 عملاً مختلفة الحجم قدر من التنوع والغنى، على رغم اننا لم نشاهد سوى تشكيلات للوجه البشري، لكنها تشكيلات تأخذ الوجه من صورته المحددة، كما نعرفها، وتذهب بها الى عوالم لا حصر لها. الوجوه التي تملأ المشهد، وجوه بشر بائسين، كما هو ظاهر للعين في النظرة الاولى والاولية، لكنها ليست سوى مفتاح الى العوالم الانسانية، العوالم التي يشكل الوجه علامة عليها، ومدخلاً اليها. فالوجوه تتشابه وتتباعد، تختلف وتأتلف، لكن كل وجه هو عالم في ذاته، عالم يحتشد بخطوط وتفاصيل تجعل منه تجربة قائمة في ذاتها، من دون ان تفقد خيوط العلاقة مع الوجوه - التجارب التي تصنع التجربة الكلية. يوظف نذير اسماعيل المولود في دمشق عام 1947، في لوحاته الحديثة هذه، مجموعة عناصر حفلت بها اعمال تجربته الممتدة منذ مطلع الستينات، تجربته التي بدأها متعلماً على نفسه، ومتكئاً على التجارب التي سبقته، وخصوصاً على ما قاله فاتح المدرس من آراء عندما كان يرى اعمال نذير. فهو يفيد من موضوعاته وتقنياته المتراكمة، ليقدم عملاً اشد تكثيفاً واختزالاً واكثر اقتراباً من الجماليات الحديثة، من دون ان يتخلى عن القضية الاساسية في عمله: الانسان. لذا سنجد في ثنايا كل عمل، ان ثمة عناصر غير بارزة، عناصر ينبغي التدقيق في اللوحة لمشاهدتها، وقد تكون من الطبيعة، او من العمارة الدمشقية التي تربى الفنان في محيطها، وسنجد الطائر العجيب على احد الرؤوس. لكن هذه العناصر جميعاً، تأتي من خلال الوجه، او تختبئ في زواياه وخطوطه والوانه. فالوجوه البائسة والمتعبة، والوجوه المشوهة، والوجوه ذات الملامح الغائبة في الخطوط والالوان، كلها محاولات لتجريد الشكل الانساني، ولاظهار امتلائه بما هو حوله من عناصر وظروف، ومدى تأثره بها. في بعض الوجوه تستطيع ان ترى حياة كاملة لزقاق او بناية قديمة مهدمة، وقد ترى ظلال اشخاص او اشجار. لكن هذا كله ليس سوى المشهد الخارجي، اما الاحاسيس التي يولدها اللون، والمشاعر التي تحركها الخطوط اللينة والمملوءة بالقسوة، فهي تتطلب المزيد من التأمل، ويبقى ما يصنعه الايقاع العام لجماع اللوحات من احاسيس بصرية. ولعل خصوصية اللون في عمل الفنان اسماعيل، تبرز قدراً من خصوصية عمله. فاللون الذي يصنعه الفنان بيده، من مواد الطبيعة من الاعشاب حيناً، ومن التراب حيناً آخر، ومن الشمع وسواه، يبدو اكثر حميمية في علاقته بموضوع الوجه، وبالتشكيل الذي يتكوّن هذا الوجه به. وهذا النزوع الى التجريب، على صعيد تصنيع اللون، يجاريه تجريب آخر على مستوى اللعب الخطوط والحركة. هذا اللعب يخلق ايقاعاً بصرياً خاصاً يمنح اللوحة هويتها، ويجمع بينها وبين بقية الاعمال المعروضة. ومما يميز عمل نذير اسماعيل ايضاً، واساساً، حضور الحس الغرافيكي الحاد في معظم لوحاته، وهو - من جهة - حضور يقرب اللوحة من الحفر، كما يمنحها - من جهة ثانية - روح التمثال، والى ذلك تبدو اللوحة كما لو انها تتقمص ارواح شخوص مسرحية، فيما البعد التراجيدي واضح في التعابير والاشكال. ولا تغيب عن عمل الفنان تلك اللمسة الآتية من تجاربه الماضية، اعني اللمسة القوية التي التصقت بعمله في الملصق البوستر، في فترة مبكرة من تجربته. ففي بعض الوجوه، لا تزال ثمة ملامح تذكرنا بما كان عليه العمل الفني "المناضل" اذا جاز التعبير. وليس حضور هذه الملامح سوى عنصر واحد، وهو يشبه حضور عناصر اخرى كالزخرفة مثلاً، والبنائية الهندسية، والنباتات وسواها من عناصر تبرز ارتباط الفنان ببيئته المحلية، وتبرز عمق ارتباطه بالانسان، هذا الموضوع الحميم في حياته وعمله، والذي يظل مصدر الهامه في اعماله التعبيرية، وحتى في عمله الذي ينحو نحو نمط من التجريد، يحتفظ بعلاقته مع القدرة التعبيرية، ويواصل البحث عن شكل جديد للوجه البشري، ويسعى الى تطوير تقنياته وادواته، في مشروع بصري مفتوح على افق بلا حدود. عن اشتغاله على الانسان، وانهماكه في عالمه، يقول الفنان نذير اسماعيل "منذ البداية، كان الانسان هو هاجسي الاول، وعلى رغم ما يقال عن رغبة التجريب لدي، فقد ظل الانسان ومعاناته في صلب اعمالي، وانحصر التجريب في الناحية التقنية. وأعتقد ان عملي يقع، اساساً، في خانة التعبيرية، اما التقنيات وتطويرها، فقد وظفتها في خدمة موضوعي. فأنا اجرب في مناحٍ كثيرة، وقد جربت ونجحت في صناعة الورق الذي ارسم عليه، كما انني اقوم بتركيب اللون، وذلك انطلاقاً من ادراكي ان الالوان التي تصنعها الشركات، تبقى لها خصائص ثابتة تسهم في توحيد الرؤية البصرية، ولا تستطيع الاضافات الشخصية لكل فنان ان تلغي هذا المشترك، اما الالوان التي استخلصها من نباتات البيئة المحيطة بي، فهي اشد حميمية وخصوصية". تبقى هذه كلها ملامح من تجربة فنية مهمة واساسية في التشكيل العربي، تقوم على البساطة الجميلة، كما يمتاز جمالها بالبساطة، الامر الذي يضعها في صف كبار الفنانين العرب، وخصوصاً من نشأوا نشأة فطرية، ولم يكن للتعلم الاكاديمي اي نصيب في تجربتهم.