كثيرون جاؤوا يستمعون الى جديد مارسيل خليفة وقديمه موسيقى واغنيات، وقليلون جاؤوا يتعرّفون الى زاد ملتقى، هذا الموسيقيّ الشاب الذي أنجز أعمالاً مهمّة في باريس، عزفاً وتأليفاً. لكن معظم الذين جاؤوا كان همّهم التعرّف الى المغنّية الشابة فادية الحاج تؤدّي أناشيد وأغنيات بالعربية، بعدما سمعوها قبل سنتين تؤدّي اغنيات ساحرة من التراث القروسطي الغربيّ. وتلك كانت اطلالتها الاولى المنفردة في بعلبك ترافقها "فرقتها" الألمانية. أمّا المطرب أو المنشد عبدالكريم الشعار الذي اطلّ في بضع اغنيات فكان له ايضاً جمهور راح "ينطرب" لأدائه التراثي المتين. على رغم إلغاء مفاجئ لأغنيتين له من البرنامج. لكن "السهرة المشرقية" وعنوانها "أناشيد" التي افتتحت مهرجانات بعلبك الدولية ليل اوّل من امس، لم تكن في حجم انتظار الجمهور لها على الرغم مما ضمت من اسماء وعناصر. فهي سرعان ما بدت "سهرة" مركّبة لم يلتحم فعلاها الاوّل والثاني، ولم تنصهر داخل الفصلين نفسيهما الأغنيات والألحان، الأداء والموسيقى وكذلك الصوتان، صوت فادية الحاج وعبدالكريم الشعار خصوصاً في الأغنيات الثنائية التي ادّياها معاً وبدا صوت كلّ منهما طالعاً من وجدان آخر وذاكرة اخرى... كانت السهرة تحتاج الى الكثير من التناغم والانسجام كي لا تبدو انّها سهرتان وكي لا تنتقل فادية الحاج بصوتها الفاتن من مناخ الى مناخ حاملة معها جمهورها الذي كان ينتظرها من جوّ موسيقى زاد ملتقى الهادئ والمتهادي الى جوّ مارسيل خليفة المتنوّع الى حدّ التناقض. ولئن طغت موسيقى ملتقى في الفصل الاوّل على "الأناشيد" التي ترافقت في ادائها الجوقة والمغنية انطلاقاً من كونها عملاً موسيقياً تأليفياً فريداً وجميلاً اكثر من كونها عملاً تلحينياً، فإنّ صوت فادية لم يجد مساحته المفترضة ولم تسمح له الموسيقى المؤلفة في أن يحلّق كعادته مشبعاً بالأحاسيس العميقة التي يختزنها خصوصاً انّ النص هو "نشيد الأناشيد" كما صاغه الشاعر أنسي الحاج وليس كما نسّقه وفق ما ورد في الكراس خطأ. وأثار أحد مقاطع النشيد المأخوذ من كتاب "العهد القديم" حفيظة بعض الحاضرين. وكان من الممكن اختيار نصوص الحبّ والوجد وإسقاط النصوص الاخرى التي تستوحي تاريخ "العهد القديم"، علماً انّ النشيد هذا منحول من أناشيد سومرية وبابلية كما بات معروفاً. أما الفصل الثاني من "السهرة المشرقية" فكان من "توليف" مارسيل خليفة. وبدا حقاً فصلاً "توليفياً" ومركّباً تركيباً شبه مصطنع، إذ كان مفاجئاً جمع مارسيل خليفة بين الاناشيد الدينية الطابع والأناشيد الثورية، لا سيّما النشيد الأخير "نشيد الخبز والورد" الذي يدعو الى النضال الطبقيّ. وأخطأ خليفة كثيراً في اسناد هذا النشيد الذي راج كثيراً خلال الحرب الأهلية الى المغنية فادية التي لا يتلاءم صوتها المرهف مع الوان النضال السياسيّ. وكان الخوف ان يستسلم خليفة لرغبة جمهوره الذي صفّق له حين صعد المسرح وحمل عوده، فيؤدّي الأغنيات السياسية التي ولّى زمنها بعدما أصبحت المأساة الانسانية اعمق وربّما أشمل مما كانت عليه. لكنّ خليفة الذي لم يغيّب الشعر الملتزم عن "سهرته" محمود درويش وشوقي بزيع وجوزف حرب وحبيب يونس أعاد توزيع بعض اغنياته. بل ربّما أعاد صوغها موسيقياً وهارمونياً، فإذا بها أعمال او قطع موسيقية ساحرة. وبدا جميلاً جداً اعتماده البيانو في اغنية محمود درويش "أمرّ باسمك". وبدت إحدى مقطوعاته الموسيقية الصرف رائعة في ايقاعاتها والمناخ الذي رسّخته اللعبة المتبادلة بين العازفين والكورس. كانت "سهرة" مارسيل خليفة تحتاج الى الكثير من الانسجام والتناغم فلا تغدو كأنّها مجموعة مقطوعات واناشيد واغنيات متجاورة وغير منصهرة، متواصلة وغير متداخلة. وإن بدا حضور عبدالكريم الشعار جميلاً وفريداً لا سيّما في ادائه الانشاديّ المنفرد لبعض المقطوعات، ومنها قصيدة للشاعر المتصوّف الحلاج، فهو ظلّ شبه غريب عن جوّ "السهرة المشرقية"، تماماً مثلما بدت فادية الحاج غريبة في الانتقال من الانشاد الى الترتيل ومن الترتيل الى الغناء "المناضل" والملتزم. لكنّ التنافر الموسيقي والغنائي الذي ساد الفصل الثاني لم يسئ الى المطربة والمطرب. فهما فرضا أداءهما واغنياتهما مثلما فرض مارسيل خليفة تأليفاً وتوزيعاً. وكان ينبغي منح المطربة فادية الحاج فسحات أوسع لتطلق صوتها الذي يجمع جمعاً سحريّاً بين الاحساس العميق والتقنية العالية. فالجمهور الذي استمع اليها قبل سنتين في بعلبك جاء ليروي ظمأه من صوتها، خصوصاً انّها تعمل في الخارج مع "فرقتها" الألمانية ونادراً ما تغنّي في لبنان، وكانت من المغنيات النادرات في اوروبا اللواتي اخترن الاختصاص الاكاديمي في الغناء الاوبرالي والقروسطي. وباتت الآن تملك جمهوراً عالمياً يتابعها في العواصم والمدن الغربية التي تغنّي فيها. ترى هل كانت انطلاقة مهرجانات بعلبك متعثرة عبر هذه "التوليفة" الموسيقية والغنائية، الشرقية والغربية التي لم تنصهر كفاية ولم تلتئم عناصرها كفاية؟ أم انّها انطلاقة حائرة لم تستطع ان ترضي الجمهور بعضه ابدى تبرّمه علناً على رغم احتوائها اسماء مهمّة بدءاً بمارسيل خليفة وزاد ملتقى وفادية الحاج وعبدالكريم الشعار وأوركسترا بولون - بيانكور وجوقة جامعة سيدة اللويزة... وانتهاءً بالفنانة نضال الأشقر التي تولّت إخراج السهرة معتمدة الإضاءة الموحية والسينوغرافيا البسيطة والغنيّة.