في التاسعة وعشر دقائق توقف شربل روحانا عن عزف مقطوعته الفردية، مطلع أمسية فرقة سارباند ومنشدتها الأولى فادية الحاج، في هيكل باخوس. ضمّ شربل عوده الى صدره وأسقط رأسه بين ذراعيه خاشعاً، ففي تلك اللحظة انتشر فوق سماء القلعة صوت المؤذن مترقرقاً من مكبرات الصوت يدعو المؤمنين الى الصلاة. وما هي سوى ثوان حتى تصاعد إنشاد جاء من مؤخرة الهيكل على إيقاع طبل رقيق. والتفت الجمهور ليرى صفّين من منشدي الفرقة في القيافات البيضاء الطويلة والشالات الملونة يحملون قناديلهم وكراريس موسيقاهم متقدمين بخطوات وئيدة الى محراب الهيكل. هكذا بدأت أول من أمس إحدى أسطع ولادات النجوم في سماء بعلبك. ارتدت فستاناً أخضر غامقاً، خفيفاً مثل أشرعة المغامرين الأوائل، وكانت كلما رفعت رأسها لتجيل عينيها في السماء تهبّ على الشراع نسمات قوية يؤدي ارتطامها بمكبرات الى هدير ما كان أقربه من هدير البحار البعيدة. كانت فادية الحاج خائفة ألاّ يتجاوب الجمهور مع غناء غريب آتٍ من القرون الوسطى لموسيقاه آلات هجينة لم نرَ مثلها من قبل. إلا أن خوفها توارى بلمحة جفن عندما فوجئت ولعلّ الجمهور فاجأ نفسه أيضاً بحماسة حارّة وجارفة، وكأن الأغنية الأولى "أيها الساقي" أتت مصادفة أفضل من قصد في ظلّ باخوس المترنح تحت القمر البعلبكي! ضمّ البرنامج أناشيد وموشحات عربية وإسبانية - شرقية في نطاق المنهج الصارم للأداء المنضبط والمحتوي على جذور الطرب ومنابع الأغنية، لا كما نعرفها اليوم بعدما أصابتها كل أنواع التشوّه والخضرمة، بل كما نشأت في مطالعها الأولى حين كان الإنشاد مصوّباً نحو روح الإصغاء، لا تتبرّج بتطريب سهل ولا تعاقر نشوة الآه الرخيصة. هنا يبقى الغناء من الداخل الى الداخل، وكأن الصوت يقيم في قلب المستمع هيكلاً لباخوس تنتشي فيه الروح أكثر مما يترنح الجسد. "لما بدا يتثنى" و"زارني المحبوب" و"يا راعي الظبا" و"من حبّك" تماهت كما تماهت "أيها الساقي" مع أناشيد إسبانية بعضها موشّح وبعضها الآخر أقرب الى الترتيل. ولم تعد هناك حاجة لتفسير الكلمات لأن الصوت والموسيقى والتلاحم العام الذي اتسمت به الأمسية أفرزت مناخاً أدخل الجمهور في "المعنى" من باب آخر لعلّه مصنوع من سحر الموهبة، متى صقلتها التجربة وأضرم فيها العلم شوق إقامة الجسور بين الحضارات والأزمنة. من ناحية ثانية أعربت أسطورة الجاز الأميركي نينا سيمون عن سعادتها للغناء في بعلبك بعدما سبقتها اليها المغنية العالمية إيلا فيتزجيرالد مرتين في الماضي. وفي مؤتمر صحافي عقدته في بيروت عشية احيائها حفلة غنائية واحدة في بعلبك، قالت سيمون انها وصلت الى لبنان مباشرة بعد لقائها رئيس جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا الذي وصفته بأنه رجل كبير. ودعت الحضور الى معرفة التاريخ من اجل معرفة مدى أهمية مانديلا قائلة: "لقد انتظرت عشر سنوات لأقابله للمرة الاولى وبقيت 15 ساعة للوصول اليه". وعن حياتها الشخصية ونضالها، قالت انها اوقفت مرات عدة ومنع بعض اسطواناتها وفقدت ثلاثة أولاد "وهذا يعني انني دفعت كثيراً لأنني ناضلت في سبيل حصول السود على حقوقهم في الولاياتالمتحدة، ان لدي ابنة هي كل ما بقي لي وهي ممثلة ومغنية وأنا لا أعيش في أميركا بل في أوروبا، وقد غادرتها بسبب التفرقة العنصرية وهي أسوأ اليوم مما كانت عليه في السابق". وعن برنامجها في بعلبك، ذكرت انها ستغني ما هو معروف لها هنا وأكثر، وسترافقها فرقة من الموسيقيين بعضهم باق معها منذ نحو ثلاثين سنة. ورأت ان "الاجيال الجديدة متأقلمة مع موسيقاها وقد نقلها اليها الآباء". ويتضمن برنامج سيمون في بعلبك الليلة نحو 26 أغنية من دون الاعادات، وهي ستنتقل بعد لبنان لإحياء حفلتين في واشنطن ونيوجيرسي في الولاياتالمتحدة الاميركية.