ثمة سياستان اميركيتان لا تُفهمان الا بقراءتهما معاً، وهما: الدرع الصاروخي والدول المارقة، والمقصود الخارجة على القانون. وكان يفترض ان يطلق اليوم صاروخ معترض من جزيرة في المحيط الهادئ ليحاول اسقاط صاروخ "نووي" يطلق من قاعدة فاندنبرغ الجوية في كاليفورنيا، ويقول العلماء ان ما هو اهم من اصابة الصاروخ هذا، على ارتفاع 144 ميلاً فوق سطح الأرض، هو اختبار قدرة اقمار الانذار المبكر على بث معلومات الى مركز القيادة والسيطرة على هجوم محتمل على الولاياتالمتحدة. وهذه التجربة ستكون نقطة الانطلاق في مشروع الادارة بناء نظام دفاع صاروخي محدود قوامه نحو مئة صاروخ معترض توضع في الاسكا مع شبكة رادار متقدمة في جزر المحيط الهادئ للتحذير من اية ضربة محتملة. ويمكن ان نرد اساس المشروع كله الى سنة 1998، عندما اختبرت كوريا الشمالية صاروخاً بعيد المدى، فقررت الولاياتالمتحدة تسريع خطط انتاج شبكة دفاع صاروخي ضد الدول المارقة. ولكن: أولاً، الخطر من الدول المارقة مبالغ فيه جداً. ثانياً، الولاياتالمتحدة لا تستطيع بناء درع صاروخشي مشن دون الغاء معاهدة 1972 للحد من الصواريخ البالستية، ما يعني انها سشتدخل سباقاً جديداً في بناء الصواريخ، فروسيا لم تقتنع بعد بالحجج الأميركية، وهي ترفض اقتراحات للمشاركة في المشروع، وجنرالاتها يتشددون اكثر من الكرملين في معارضة الصشواريخ الجديدة. ثالثاً، لا توجد دول مارقة. والنقطة الأخيرة هذه هي أغرب ما في الموضوع، فالولاياتالمتحدة نفسها اعلنت الشهر الماضي، نهاية هذا الوصف والاستعاضة بعبارة "دول تثير القلق" عن عبارة "دول مارقة" وهذه كانت من ضمن سياسة صيغت بعد نهاية حرب الخليج سنة 1991. وتزامن ذلك مع سقوط الاتحاد السوفياتي. ورأت ادارة بوش في حينه ان الخطر المقبل هو من دول مارقة تملك أسلحة دمار شامل، مثل ايرانوالعراقوكوريا الشمالية وليبيا. وجاءت ادارة كلينتون بعدها فاحتضنت "الخطر المزعوم" بحماسة. وقالت وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت انه "اكبر تحد يواجهنا في هذا العصر..." وصنفت العالم دولاً ديموقراطية متقدمة، ودولاً ديموقراطية نامية، ودولاً فاشلة، أو هابطة. اليوم، لم تعد هناك دول مارقة، بحسب تصريح الادارة نفسها، ومع ذلك فهي تريد بناء درع صاروخي يفتح باب سباق تسلح جديد، ويلغي معاهدة قائمة، لمواجهة خطر لم يعد قائماً. وأزعم ان الخطر لم يكن موجوداً اصلاً، ولكن ابقى مع منطق الادارة الأميركية، ففي سنة 1994، وقع اتفاق جمد البرنامج النووي لكوريا الشمالية، وهناك مراقبون دوليون، بينهم اميركيون، يراقبون التنفيذ باستمرار. وفي حزيران يونيو الماضي، جمدت كوريا الشمالية تجاربها على الصواريخ البعيدة المدى وكافأتها الولاياتالمتحدة برفع القيود التجارية عليها وفتح الممرات الجوية والمائية لها. أما ايران فهي تسير سيراً حثيثاً في اتجاه اصلاحي معتدل، وقد الغت الولاياتالمتحدة قيوداً عليها وسمحت باستيراد بعض البضائع الايرانية مثل الكافيار والسجاد العجمي والفستق الحلبي. والعقوبات على كوبا نفسها خففت للمرة الأولى منذ 40 سنة، في حين ان الولاياتالمتحدة تتجه في التعامل مع يوغوسلافيا الى التزام الموقف الاوروبي من حكومة سلوبودان ميلوشيفيتش، وهو موقف اقل تطرفاً. من بقي في الميدان؟ هناك سيراليون وليبيريا، الا انهما دولتان فاشلتان ولا خطر من تهريب الألماس على مستقبل الولاياتالمتحدة وأمنها. العراق هو البلد الوحيد الباقي من الدول المارقة القديمة في سجلات الولاياتالمتحدة، ولكن هل يعقل ان العراق المحاصر المنهك الذي دمر جيشه في حرب تحرير الكويت، يشكل خطراً فعلياً على الولاياتالمتحدة، ما يبرر خطر مواجهة بين اميركا من جهة وحلفائها الأوروبيين أنفسهم وروسيا من جهة اخرى، اذا بدأت بناء الدرع الصاروخي المقترح؟ صدام يحاول جهده، وقد قرأنا فجأة عن تجربة صاروخ عراقي، فكأنه يعطي الاميركيين العذر الذي يريدون. الجمهوريون يزايدون على الديموقراطيين في الموضوع، وبعضهم يريد بناء شبكة أوسع كثيراً، وقرأت ان من اسباب قرار الرئيس كلينتون بناء شبكة محدودة احباط الحملات الجمهورية على نائبه آل غور، والرد على تهم أن الادارة الديموقراطية عرضت أمن الولاياتالمتحدة للخطر. وفي مقابل المزايدات بين الجمهوريين والديموقراطيين هناك مجموعة كبيرة من العلماء والخبراء تقول بأصرح عبارة ممكنة ان الشبكة المقترحة غير ممكنة ضمن القدرات المتوافرة للتكنولوجيا، وانها غير ضرورية اصلاً. واختتم برسالة نشرتها "نيويورك تايمز" لاوسكار ارياس، رئيس كوستاريكا السابق الحائز جائزة نوبل للسلام، فهو اتهم الادارة صراحة بأنها تعطي عقوداً لشركات السلاح التي تتبرع للحملات الانتخابية، مكافأة لها، وليس لحاجة امنية، وقال ان المال المخصص للصواريخ يجب ان ينفق على مشاريع مكافحة الفقر وتحسين الخدمات الاجتماعية.