عادت القارة الأوروبية خلال الاسبوع الأخير مجالاً لتنافس بين كل من واشنطنوموسكو كانت القارة أصبحت بمنأى عنه منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. صحيح ان التنافس هذا يبقى دون ذلك الذي كان قائماً، خلال الحقبة المذكورة، بأشواط بعيدة، دونه دراماتيكية ودونه حدة بما لا يقاس. وانه ان وجد، فهو بات من طبيعة ومن حجم مغايرين تماماً لما كان عليه. الا ان ما لا يسع المرء الا ان يلاحظه ان روسيا في صدد العودة، سياسياً، الى أوروبا، وان الولاياتالمتحدة، التي سبق لها ان أخرجتها منها من باب التنافس الاستراتيجي هي التي ربما مكنتها من تلك العودة ومن ذلك الباب نفسه. تكفي، في هذا الصدد المقارنة بين الصدى الذي تركته الجولة الأوروبية الأخيرة للرئيس بيل كلينتون، خصوصاً محطتها البرتغالية قبل ما يزيد عن الاسبوع، حيث حضر لقاء قمة ضمته الى قيادة الاتحاد الأوروبي، وبين ذلك الذي كان من نصيب نظيره الروسي فلاديمير بوتين لدى زيارته قبل ايام الى ايطاليا، فقد بدا في المناسبتين، ان كلينتون بعيد عن الهواجس الاستراتيجية والأمنية الأوروبية، غير متفهم لها، بقدر ما كان بوتين متسقاً مع تلك الهواجس الاستراتيجية والأمنية الأوروبية، غير متفهم لها، بقدر ما كان بوتين متسقاً مع تلك الهواجس، مسانداً لها، بل في مظهر صاحب القدرة وصاحب المبادرة في مواجهة الولاياتالمتحدة بشأنها. اما الباعث على ذلك التحول فهو يتمثل وان بقدر يسير، في شخصية الرئيس الروسي الجديد وعزمه على ما يظهر على ابداء قدر من الحزم ومن التماسك في موقف بلاده حيال التعاطي مع الولاياتالمتحدة على عكس ما كانت عليه الحال في عهد سابقه بوريس يلتسن ولكن اساساً في السجال الذي تنكبت الولاياتالمتحدة مسؤولية اطلاقه حول مشروعها انشاء "درع واق من الصواريخ" يحمي حيزها الترابي القومي من ضربات صاروخية محتملة قد تصدر عمن تطلق عليهم واشنطن صفة الدول "المارقة" مثل ايران وكوريا الشمالية والعراق، وهو ما تعترض عليه، بقدر من الاصرار ملحوظ دول أوروبا الغربية وروسيا، على ما قد يكون الرئيس الاميركي قد لمسه بوضوح اثناء جولته الأوروبية الأخيرة، خصوصاً ان الاعتراض ذاك قد حكم على تلك الجولة بالفشل، فلم يتمكن كلينتون من اقناع احد لا في أوروبا الغربية ولا في موسكو بوجاهة ذلك الخيار الدفاعي. بل ان أبرز ما يلفت في هذا الصدد ان الرئيس الاميركي قد سمع سواء من قبل الأوروبيين او الروس حججاً ومآخذ ومخاوف متشابهة. فمحاوروه أولئك عبروا له عن خلافهم معه في شأن تقييم تلك الدول المسماة ب"المارقة" ومدى مروقها المفترض ذاك، خصوصاً حول مدى جدية المخاطر الاستراتيجية الناجمة عن مثل تلك الدول وطريقة مواجهتها. فقد ووجه كلينتون بما يشبه الاجماع الناتج عن تحليلات أولئك المحاورين أو عن معلوماتهم أو عن مجرد الحس السليم، بما مفاده انه من غير الوارد أو من المستبعد ان تبادر دولة "مارقة" مهما بلغ الجنون بالمتسلطين على مقدراتها، الى اطلاق صاروخ نووي يستهدف الولاياتالمتحدة وان تخاطر بذلك برد فعل تكون نتيجته آلياً محوها من على وجه الأرض. وحتى من يسلمون، من روس ومن أوروبيين بوجود مثل تلك المخاطر من لدن الدول المارقة، يرون في مشروع "الدرع الواقي من الصواريخ" علاجاً أسوأ من الداء الذي يزعم التصدي له حسب تعبير استعمله فلاديمير بوتين وردده الاعلام الأوروبي بعده كثيراً. أي ان المعترضين على ذلك المشروع الاميركي يرون ان الوسائل الردعية المتاحة قمينة بدرء المخاطر التي قد تنجم عن الدول المارقة، في حين ان مضي واشنطن في تنفيذ مشروع "الوقائي" ليس له الا ان يؤدي الى العودة الى سباق التسلح، وتلك حجة تبدو سليمة. ذلك ان نهاية الحرب الباردة وان أدت الى انهيار ما كان يعرف بالمعسكر الشرقي الا انها لم تلغ تماماً العقيدة الاستراتيجية التي كانت سارية خلالها والقائمة على توازن الرعب النووي. وإذا كانت المواجهة مع المعسكر الغربي قد وضعت أوزارها واذا كانت روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي قد باتت توصف ان من قبل حلف الناتو ككل وان من قبل الولاياتالمتحدة بأنها "الشريك" الا انها لا تزال قوة تمتلك آلاف الرؤوس النووية. وذلك لا يزال يمثل عامل طمأنة لها، كدولة ما زالت على قدر من العظمة بالرغم من كل ما لحق بها من هوان وتطمح الى الاضطلاع بدور ان في محيطها المباشر أو على الصعيد الدولي على نحو اشمل. واذا ما مضت واشنطن في اقامة درعها الواقي من الصواريخ، فإن موسكو تخشى ان يؤدي ذلك الى تعطيل كل مفعول ردعي أو استراتيجي لما تبقى لديها من سلاح نووي. والأنكى ان ذلك المآل لن يكون ناتجاً عن خطة لنزع السلاح، يتفاوض عليها ويتفق بشأنها تجري على نحو تدريجي في اطار من التعاون يضمن حقوق جميع الأطراف ويستجيب متطلباتها وهواجسها، بل بفعل ضرب من العودة الى سباق التسلح تقدم عليه الولاياتالمتحدة من جانب واحد واضعة بقية دول العالم أمام الأمر المقضي. وغني عن القول ان تحليلا كهذا تلتقي حول الاخذ به أبرز القوى الكبرى سواء في ذلك الاتحاد الأوروبي أو روسيا أو الصين. وذلك ما يبدو ان الرئيس فلاديمير بوتين قد سعى الى الاستفادة منه، خصوصاً ان موقع بلاده كثاني قوة نووية كبرى خلال الحقبة المنصرمة يمنحها وزناً كبيراً، أقله لأنه لا يمكن تخطي النصاب الاستراتيجي الذي كان قائماً ابان الحرب الباردة وتصفية مخلفاته الا بالتعاون معها. اي لا يمكن لأي نقاش دولي كبير يتعلق بالقضايا الاستراتيجية الكبرى ان يجري دون ان تحتل فيه موقعاً فاعلاً. وبعبارة اخرى فذلك النوع من القضايا يمنح موسكو حظوة باتت تعوزها عندما يتعلق الأمر بالمسائل الاقتصادية مثلاً حيث اعتادت ان تكون في موقع دوني هو موقع الساعي وملتمس المساعدات والقروض. ولعل ذلك ما يفسر ان اللقاء الأخير، بين بوتين وكلينتون، لدى زيارة هذا الأخير الى موسكو قد اتسم بقدر من الندية ومن التكافؤ كان التعامل بين البلدين قد بات يفتقر اليهما منذ نهاية الحرب الباردة. ثم لعل ذلك ما يفسر ان الرئيس الروسي الجديد اتخذ من ذلك السجال الاستراتيجي حول مشروع "الدرع الواقي" مطية للتقارب مع أوروبا، يتوسم فيها الكثير من الجدوى على ما دلت زيارته الأخيرة الى روما واقتراحه اقامة "درع واق" يحمي القارة القديمة وتشترك في انشائه بلدان هذه الأخيرة الى جانب روسياوالولاياتالمتحدة. وتلك الفكرة يبدو انها اربكت الادارة الاميركية بعض الشيء وان كانت قد تظاهرت بالبرود حيالها قائلة انها تبدو لها في صيغتها الأولية تلك "فضفاضة". وهي تعني انها ليست جديرة بأن يجري بحثها على نحو جدي. فليس واضحاً ما اذا كانت الولاياتالمتحدة ستمضي فعلاً في مشروعها الاستراتيجي المذكور على رغم كل اعتراضات الحلفاء و"الشركاء". ذاك انه تحت ذريعة مواجهة الدول "المارقة" قد تتمكن من تحقيق أرجحية استراتيجية نوعية لا يوجد من يمكنه ان ينافسها عليها في الوقت الراهن. إلا انه يبدو واضحاً ان واشنطن انما تخاطر في ذلك بدفع كلفة سياسية عالية هي تلك المتمثلة للمرة الأولى في التاريخ الحديث ربما، في اجتراح تلاحم استراتيجي بين روسيا وأوروبا الغربية، وذلك بعد ان كانت الثورة الشيوعية ثم الحرب الباردة ثم الهزيمة في هذه الأخيرة، قد أمعنت في ابعاد هذه عن تلك. ... ربما اعتبرت واشنطن ان مواجهة ليبيا وكوريا الشمالية ومن ماثلهما، تتطلب مخاطر كتلك!