ظلت قضية القدس احدى القضايا العقدية الشائكة سواء في مباحثات مدريد او اتفاقيات اوسلو او اتفاق واي بلانتيشن بالنسبة للعرب والفلسطينيين والمسلمين من جهة وبالنسبة للاسرائيليين واليهود ايضاً من جهة اخرى، فالعرب والمسلمون عموماً ينظرون اليها لا بوضعها الحاضر، بل بتجذّرها في صميم الوجدان العربي والاسلامي، ولا يمكن القفز عليها عند اية تسوية حقيقية وعادلة تاريخياً او سياسياً او اجتماعياً او نفسياً. فقد ترسخ شعور عرإسلامي ان لا فلسطين بدون القدس ولا قدس بدون فلسطين، ولذلك فان ايجاد اي حل عادل ويراد له صفة الديمومة لا بد ان يمهّد له حل مُرضٍ لقضية القدس. اما على الصعيد الاسرائيلي واليهودي فعلى رغم التراشق السياسي بين الحكومة والمعارضة وبالتحديد بين حزبي ليكود والعمل، الا ان القدس ظلت تشكل الخط الاحمر في الخطاب الانتخابي والاعلامي الذي لا يمكن تجاوزه، وتتبارى فيها الاحزاب السياسية الاسرائيلية باعتبارها نقطة اجماع ومصدر اتفاق، يتساوى في ذلك ايهود باراك زعيم حزب العمل او نتانياهو زعيم كتلة ليكود. وتبين الوثيقة الموقتة الموقعة بين ليكود والعمل هذه الحقيقة، فقد تضمنت وثيقة "بيلين - ايتان" بخصوص القدس ما يأتي: 1 - القدس عاصمة اسرائيل بحدودها البلدية الحالية، اي مدينة موحدة تحت سيادة القانون الاسرائيلي. 2 - على الفلسطينيين الاعتراف بالقدس عاصمة اسرائيل. وعلى اسرائيل الاعتراف بمركز سلطة الكيان الفلسطيني، الذي يقوم في حدوده، خارج الحدود البلدية للقدس. 3 - يتم التوصل الى اتفاق خاص بخصوص الاماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين في القدس. 4 - يحصل المواطنون الفلسطينيون في الاحياء العربية في اطار الحدود البلدية على مكانة تتيح لهم المشاركة في المسؤولية ومن ادارة شؤونهم في المدينة. وبغضّ النظر عن الحق العربي الفلسطيني والرؤية الاسرائيلية، فان القدس تعتبر من اقدم وأعرق مدن العالم، وتتمتع بقدسية دينية وثقافية وحضارية وأثرية خاصة، فهي تحتضن المسجد الاقصى وقبّة الصخرة وحائط المبكى وكنيسة القيامة، وكان يؤمها المسلمون والمسيحيون واليهود من كل انحاء العالم، باعتبارها رمزاً للتعايش وجوار الاديان وتفاعل الثقافات والحضارات. ان الفكرة الاساسية التي ننطلق منها هي: هل يمكن لمشورة قانونية دولية او فتوى قضائية من محكمة العدل الدولية ان تساعد في اخراج القدس من الوضع الذي وصلت اليه تحت الهيمنة الاسرائيلية وبالتالي تعضيد الحق العربي والفلسطيني؟ مقاربة للرأي الاستشاري الفتوى! بعد مناقشات عميقة ومستفيضة حث مشروع قرار اتخذه الملتقى الفكري السادس للمنظمة العربية لحقوق الانسان في لندن الحكومات العربية على التقدم في وقت مبكر بمشروع قرار الى الجمعية العامة للامم المتحدة بطلب المشورة او الفتوى من محكمة العدل الدولية في لاهاي بخصوص وضع مدينة القدس. وتستهدف فكرة طلب الفتوى حسب المادة 96 من ميثاق الاممالمتحدة المشورة في الامور الآتية: 1 - الوضع القانوني لمدينة القدس ضمن الحدود التي نص عليها قرار الجمعية العامة رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947. 2 - مدى شرعية القرار الذي اتخذته الحكومة الاسرائيلية في اعقاب عام 1967 بضم القدس القسم الذي كان خاضعاً للادارة العربية الى القسم الذي كانت تحتله اسرائيل. والمقصود هنا قرار الكنيست الصادر في تموز يوليو 1980 والقاضي بتوحيد المدينة واعلانها "عاصمة ابدية" لاسرائيل. 3 - حق العرب واليهود وغيرهما من اتباع مختلف الاديان: الاسلام والمسيحية واليهودية في الدخول والتجول بحرية في القدس وممارسة الشعائر الدينية فيها. وتنص المادة 96 من ميثاق الاممالمتحدة على ان: للجمعية العامة الصلاحية في الطلب من محكمة العدل الدولية في لاهاي اعطاء الفتوى في اية مسألة قانونية. ومن الجدير بالذكر ان محكمة العدل الدولية تتألف من خمسة عشر عضواً يمثلون مختلف النظم القانونية في العالم. وكانت المنظمة وجّهت رسالة الى الامين العام لجامعة الدول العربية الدكتور عصمت عبدالمجيد والى وزراء الخارجية العرب بهذا الخصوص - لفتت الانتباه الى اهمية فكرة الرأي الاستشاري او الفتوى من محكمة العدل الدولية، لصانع القرار السياسي وللمفاوض في آن، خصوصاً وان الهدف هو تحريك الرأي العام العالمي وتعميق الوعي بأهمية هذه القضية وبعدها الاعلامي والتعبوي، خصوصاً اذا اخذنا في الاعتبار اشكاليات هذه القضية، ليس على صعيد اوضاع الحاضر فحسب بل بما له علاقة بأوضاع المستقبل ايضاً، فهي لا يمكن ان تتوقف او تنتهي حتى عند اعلان الدولة الفلسطينية، وانما ستبقى ذات ابعاد طويلة الامد وجزءاً من المواجهة الشاقة والمضنية ولها تأثيراتها السياسية والدينية والادارية وقبل كل شيء انعكاساتها الجيوبوليتيكية والقانونية، لا على الصعيد الفلسطيني والعربي فحسب، بل على الصعيد الاسلامي وعلى صعيد السلم والامن والاستقرار في هذه المنطقة الساخنة والمهمة من العالم. وفي ضوء هذه المبادرة ناقش اتحاد المحامين العرب الامين العام الاستاذ فاروق ابو عيسى وجامعة الدول العربية الامين العام المساعد الدكتور سعيد كمال ونخبة من اساتذة الجامعات المصريين وخبراء في القانون الدولي بتاريخ 30/8/1998 هذه الفكرة بحيوية استوجبت بلورتها على نحو واضح بما يؤدي الى التحرك الديبلوماسي الدولي في هذا الشأن، خصوصاً عندما يقترن ببعد اسلامي يمكن توظيفه من خلال لجنة القدس الدولية برئاسة عاهل المملكة المغربية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي. واذا عدنا قليلاً الى التاريخ فقد صدر قرار التقسيم عن الجمعية العامة للامم المتحدة في 29/11/1947 وهو يقضي بإقامة دولة عربية واخرى يهودية. وتضمن الفصل الثالث من القرار اعتبار القدس كياناً منفصلاً Carpus Separatum ومستقلاً عن الدولتين المقترحتين، واخضع القرار المدينة لادارة الاممالمتحدة وتم تحديد حدودها شرقاً الى قرية ابو ديس وغرباً الى قرية عين كارم وشمالاً الى قرية شعفاط وجنوباً الى مدينة بيت لحم. وتضمن القرار خارطة توضح هذه الحدود. وهكذا، وبموجب هذا القرار تقرر اعتبار مدينة القدس حيادية ومنزوعة السلاح ومنع التمييز فيها بسبب العرق او الدين او اللغة او الجنس. يتوجه طلب الفتوى الى تفسير القرار 181 في ما يتعلق بقيام دولة عربية واخرى يهودية. واذا كان اليهود قد أقاموا دولتهم، فماذا ستقول المحكمة بخصوص حق الفلسطينيين في اقامة دولتهم، وهو ما يصبّ في القرار الخاص باعلان الدولة الفلسطينية الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني في دورة الجزائر عام 1988، ويتساوق مع مساعي اعلان الدولة الذي تم تأجيله. كما ان اعلان رأي المحكمة بأن القدس بشطريها هي مدينة محتلة من طرف واحد اسرائيل يعني التناقض مع منطق القرار 181، وكذلك مع القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة في 11/12/1948 الخاص بتدويل القدس، وكذلك مع القرار 242 لعام 1967 الصادر عن مجلس الامن والذي يقضي بانسحاب اسرائيل من الاراضي المحتلة. لقد حاولت اسرائيل اخفاء محاولاتها الاستيطانية والاجلائية بالاستيلاء التدريجي على القدس، خصوصاً وان عضويتها في الاممالمتحدة كانت عضوية مشروطة. فقد صرّح أبا إيبان عام 1949 في 5 ايار مايو امام اللجنة السياسية للجمعية العامة للامم المتحدة بأن اتهام اسرائيل بذلك هو "كاذب وشرير"، وان اهم ما في سياسية اسرائيل في موضوع القدس في الوقت الحاضر - هو رغبتها في ضمان اقرار الوضع القانوني للمدينة بصورة مرضية وبموافقة دولية. وتفسير مصطلح الوضع القانوني حسب القرار 181 يعني بقاء القدس كياناً منفصلاً ومستقلاً وتابعاً لإدارة دولية. لكن اسرائيل التي نادراً ما تحدثت عن موقفها الحقيقي من القدس ومن عمليات التهويد عملت طيلة السنوات التي سبقت عام 1967 على "القضم" التدريجي للمدينة وقامت بنقل الكنيست ومؤسساتها الحكومية الى القدس واعلنتها عاصمة لها، وبدأت بإدخال قواتها العسكرية اليها، ورافقت ذلك عمليات اجلاء منظمة وتهديم بيوت ومدارس ومساجد، ومحاولات تغيير معالم المدينة بنزع ملكية الاراضي وفرض اللغة العبرية وتغيير التركيبة السكانية والواقع القومي والحديث عن الاماكن المقدسة بمسوغات ايديولوجية والحق المُعلن في التوراة. ومن عمليات "القضم" التدريجي الى عمليات الاحتلال الفعلي عام 1967 للقسم العربي الشرقي ومن ثم اعلان الضم عام 1980، وفرض القانون الاسرائيلي. وهو الامر الذي دفع مجلس الامن الى اصدار القرار 478 لعام 1980، يستنكر فيه قرار الكنيست ويعتبره "باطلاً من اوله الى آخره حسب الشرعية الدولية"، كما دعا الى عدم ارسال بعثات ديبلوماسية في القدس. وحينها اعلنت جامعة الدول العربية حق الدول الاعضاء في قطع علاقاتها الديبلوماسية مع اية دولة تنقل سفارتها الى القدس او حتى تعترف بالقدس عاصمة لاسرائيل. وفي الواقع فان التبريرات القانونية التي ساقتها اسرائيل تختلف عن التبريرات القانونية الدولية، فهي لم تتحدث عن الضم Annexation، بل استخدمت مصطلح الدمج القانوني او "التكامل" Legal Integration، ولا تزال اسرائيل تعتبر الفلسطينيين من ابناء القدسالشرقية "مقيمين دائمين" Permanent Residents وليسوا مواطنين يتمعون بالجنسية والحقوق. وحسب قانون العودة لعام 1952 وتعديلاته في عام 1974 يعتبر "المقيم الدائم" عرضة لفقدان الوضع القانوني اذا عاش في بلد اجنبي لمدة سبع سنوات، او اذا حصل على حق الاقامة الدائمة في هذا البلد او على جنسيته، وهناك الكثير من الاجراءات الادارية لتعطيل حركته. لقد ظل الفلسطينيون مواطنون من الدرجة الثانية او الثالثة حسب تصريح عمدة القدس السابق تيدي كوليك - البالغ الصراحة والاهمية - لصحيفة "معاريف" في 10/10/1990، وأشار في حديث لوكالة "اسوشيتيد برس" في 30/1/1997 الى ان بناء المستوطنات يعني بناء الكراهية. اما الحيثيات القانونية لصنّاع القرار السياسي الفلسطيني والعربي والاسلامي فيمكن اجمالها بما يأتي: اولاً: ان المحكمة لا يمكنها رفض طلب ادلاء المشورة او الفتوى فهي جزء من الاممالمتحدة وملتزمة بميثاقها اضافة الى نظامها الاساسي. ثانياً: ان طلب المشورة بريء ومنطقي - حتى وان استهدف شيئاً آخر - حيث يمكن اللجوء الى القضاء في مسألة هامة، وذلك عوضاً عن سياسة الامر الواقع اي الاحتلال. ونظراً لمشروعية الحق العربي وعدالة القضية الفلسطينية وللمكانة التاريخية والحضارية العربية في القدس ووفقاً للقرار 181 لا يمكن تجاهل دورهم، وبخاصة في القسم الشرقي، ولن يكون حكم المحكمة الا لصالحهم القدس مدينة ذات كيان مستقل }منفصل{ وما فعلته اسرائيل يخالف قواعد القانون الدولي المعاصر كما يذهب الى ذلك البروفسور موسى المزاوي. ثالثاً: ان طلب المشورة لا يحتاج الى اكثر من غالبية بسيطة في الجمعية العامة، ولا تملك اية دولة من اعضائها حق الرفض او الفيتو، وللعرب والمسلمين اصدقاء يمكن حشدهم لهذا الطلب القانوني المشروع واليسير. رابعاً: عندما تتسلّم محكمة العدل الدولية الطلب فانها تعمّم ذلك على الدول الاعضاء في الاممالمتحدة طالبة منها الادلاء برأيها في وقت محدد. ويمكن لأية جهة غير حكومية ولأي انسان عادي التقدم بالرأي خطياً بخصوص هذا الموضوع وتقرر المحكمة في ما بعد عقد جلسات علنية للمناقشة. خامساً: الى ان تُعلن المحكمة رأيها وتنطق بحكمها النهائي في الموضوع يمكن الطلب اليها باصدار امر بمنع الدول الاعضاء من اتخاذ اي اجراء بشأن نقل سفاراتها الى القدس. ويمكن حسب الدستور الاميركي الحصول على قرار من المحكمة العليا في واشنطن بمنع نقل السفارة الاميركية الى القدس قبل صدور قرار محكمة العدل الدولية. وهناك نقطة هامة اخرى ان المشورة من محكمة العدل الدولية بشأن عدم شرعية الاجراءات التي اتخذتها اسرائيل قد يساعد العرب في محاكمة اسرائيل نفسها في موضوع مصادرة املاكهم وغير ذلك. ونختم بالقول ان طلب الفتوى من محكمة العدل الدولية يعني - في ما يعنيه ايضاً - لفت نظر العالم واعضاء الاممالمتحدة جميعاً الى ثقة العرب في حقهم واستعدادهم للاحتكام الى القضاء الدولي للافتاء بشأن اشكالية القدس وفقاً لمقررات الاممالمتحدة والقرارين الصادرين عن الجمعية العامة 181 و 194، وكذلك استناداً الى قرارات مجلس الامن 242 و338 و478، وطبقاً لقواعد القانون الدولي المعاصر التي لا تجيز استخدام القوة ولا تبرر العدوان المسلّح او الاستيلاء على الاراضي او اقتطاعها او ضمها او الحاقها، وبأية صورة كانت بالرغم من ارادة السكان وبما يخالف الشرعية الدولية. ومن شأن هذا الطلب ان يعيد الى الاذهان تعهد الدول احترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات الدولية وغيرها من مصادر القانون الدولي، كما ورد في ديباجة ميثاق الاممالمتحدة، وفي الحفاظ على السلم والامن الدوليين واللجوء الى الوسائل السلمية لحل المنازعات الدولية طبقاً لمبادئ العدل وقواعد القانون الدولي. * الامين العام السابق للجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية