اعلان المبادئ، على رغم النقائص التي تضمنها، يمكن للشعب الفلسطيني ان يفيد منه، اذا تم تطبيقه بالطريق القانونية الصحيحة. اول اعتراض قد تتقدم به اسرائيل ضد اعلان المبادئ هو انه غير ملزم لها قانونياً لأنه ليس اتفاقية او معاهدة بين طرفين متساويين في كفاءة الشخصية القانونية. فاسرائيل دولة معترف بها، ولها كل الصفات والصلاحيات التي ينصّ عليها القانون الدولي. أما منظمة التحرير الفلسطينية فلا تملك الشخصية الكاملة. فالقانون الدولي ينص على ان الدولة تتكوّن من مقومات رئيسية ثلاث، وهي: أرض حدودها معروفة الى حد كبير، وشعب ينتمي اليها، وحكومة تملك زمام الامور على الارض والشعب. وهناك علامات استفهام في نظر بعض الخبراء حول حدود الارض التي تملكها أو يحق ان تملكها منظمة التحرير الفلسطينية او السلطة الوطنية الفلسطينية. والجواب عندي هو ان المعيار القانوني الصحيح والوحيد في هذا الموضوع هو قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1947. ولا ينتقص من شرعية هذا القرار ان الشعب الفلسطيني والدول العربية قد رفضت جميعها قرار التقسيم عند صدوره لأن معيار الشرعية هو سلطة الهيئة التي اصدرت قرار التقسيم وصلاحياتها، وهذه هي منظمة الامم التحدة التي آل اليها الانتداب على فلسطين الذي أوكلته عصبة الامم الى بريطانيا عام 1922. وقرار التقسيم لا يزال قائماً من الناحية القانونية. والوضع هنا شبيه بالوضع الذي ينشأ عندما يعترض احد الطرفين في قضية في المحكمة على قرار اصدرته المحكمة في النزاع بينهما. فإذا رفض احد الاطراف الاذعان الى قرار المحكمة او اذا قدم استئنافاً ضده، فإن هذا لا يعني ان القرار اصبح باطلاً. ويظل للطرف المعترض الحق في نهاية الامر في قبول القرار الذي اصدرته الهيئة المختصة ولم تبطله. نأتي الآن الى العامل الثاني في صفة الشخصية القانونية، وهو "الشعب". والشعب الذي تصلح تسميته لهذه الغاية بالشعب الفلسطيني، هو - اذا استعملنا المقاييس التي درجت الدول العصرية على استعمالها - يشمل الفرد الذي ولد في الاراضي الفلسطينية او ولد من أب فلسطيني، والذي لم يتنازل رسمياً عن هويته الفلسطينية وذلك باعتناق هوية وطنية اخرى لا تسمح بتعدد الجنسيات. وليس من الصعب التحقق من هوية مثل هؤلاء الاشخاص. اما الاعتبار الثالث المتمم للهوية الفلسطينية فهو وجود حكومة او هيئة يمكنها ان تمارس الصلاحية في الاراضي وعلى الافراد الذين ذكرناهم. هذه بالنسبة الى فلسطين هي السلطة الوطنية الفلسطينية المنحدرة من منظمة التحرير الفلسطينية. واذا رفضت اسرائيل الاعتراف بأن اعلان المبادئ يمكن اعتباره معاهدة ملزمة فانها لا تستطيع حسب القانون الدولي ان تتنصل من الوفاء بما تضمنه وتعتبره مجرد حبر على ورق. فاعلان المبادئ حتى لو لم يكن مستوفياً مقومات المعاهدات يظل ذا فعالية من الناحية القانونية وملزماً لاسرائيل لمجرد ان اسرائيل قالت في البداية او اوعزت بأنها ملتزمة به، ولقد اعتمد على تعهدها هذا غيرها من الدول والهيئات مثل منظمة التحرير الفلسطينية. فالقانون الدولي ينص على ان الدولة ملتزمة بما صدر عنها من بيانات او تصاريح من جانب واحد اذا كان من المعقول للغير وبحسن نيّة اعتبارها جدية وملزمة للدولة التي صدرت عنها. ولعل من اغرب الامور في القضية الفلسطينية هو ان اجهزة القانون الدولي لم تتيسر لها اية فرصة جدية لمعالجة وجه الحق والباطل في هذا الموضوع. هناك محكمة العدل الدولية في لاهاي التي تعتبر جزءاً من منظمة الاممالمتحدة. ويحث ميثاق المنظمة الاعضاء على السعي الى حل المشاكل التي تنشأ بينهم بالرجوع الى محكمة العدل الدولية. هذه المحكمة لا يمكنها ان تعالج خلافاً بين دولتين او اكثر ما لم تعترف الدول المعنية بصلاحيتها. والواقع ان اقل من ثلث اعضاء المنظمة الدولية قد اعلنوا مقدماً عن قبولهم بصلاحية محكمة العدل الدولية للنظر في نزاعات بينها وبين دول اخرى. ولكن لمحكمة العدل الدولية حسب المادة 96 من الميثاق دوراً آخر في تسوية الخلافات بين الدول، وذلك عن طرق تقديم الفتوى في اية مسألة قانونية بطلب من الجمعية العامة او مجلس الامن. ونقول مع الاسف الشديد ان الفلسطينيين لم يفكروا جدياً في اي وقت في انتهاج هذا المسلك. ولطالما بعثت شخصياً بمذكرات الى الاخوة المسؤولين على اعلى المستويات وتحدثت معهم لأحضّهم على تحويل موضوع معيّن في الخلاف مع اسرائيل الى محكمة العدل الدولية. ولا ازال الى الآن لا افهم السبب الحقيقي في التردد في انتهاج هذا المسلك. قال لي مرة احد كبار المسؤولين انهم يخشون ان تقوم اسرائيل برشوة القضاة بالمال او بالجنس! محكمة العدل الدولية تتألف من خمسة عشر قاضياً يمثلون مختلف النظم القانونية في العالم. واذا حوّل الى المحكمة طلب لتقديم المشورة فإنها تعلن في الحال عن ذلك وتوفر الفرصة لكل من يريد ليتقدم بآرائه حول الموضوع. ومع ان المشورة من محكمة العدل الدولية غير ملزمة من الناحية القانونية على عكس الحال في القرارات الصادرة في القضايا المقامة بين دولتين او اكثر الا ان لها ثقلاً اخلاقياً ومعنوياً كبيراً جداً على مختلف المستويات في عالم السياسة. ولا شك عندي على الاطلاق في ان وجه الحق في مطالب الشعب الفلسطيني ووجه الباطل في ما تفعله اسرائيل من تجاهل لهذه المطالب وتنكّر لمبادئ العدل والانصاف سينكشفان اذا ما تيسرت لمحكمة العدل الدولة الفرصة لمعالجة هذا الموضوع. وهذا لن يضرّ بالفلسطينيين بل على العكس سينفعهم اذ يقوي ساعدهم في احقاق حقهم وازهاق باطل الجانب الاسرائيل. ان كل الامور الغامضة او المبهمة او الظالمة في اعلان المبادئ يمكن توضيحها وتصحيحها بواسطة محكمة العدل الدولية. فاعلان المبادئ يشير اكثر من مرة الى "الحقوق المشروعة" للطرفين كأساس للتسوية النهائية وليس هناك اقدر وافضل من محكمة العدل الدولية لوضع النقاط على الحروف في هذا الخصوص. ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض نقاط الخلاف بين الفلسطينيين واسرائيل. أولاً الحدود الجغرافية للدولة الفلسطينية. فهذه تكون على اساس قرار التقسيم لأن الاحتلال غير المشروع مهما طال لا يعطي للمحتل أي حق. وما لا تنسحب منه اسرائيل يظل موضع مساومة ومقايضة. ومن الامور الاخرى التي يقول اعلان المبادئ بأنها ستكون موضع المفاوضات "القدس". ما هي حدود القدس. الحكومة الاسرائيلية تقول ان القدس "عاصمة اسرائيل الأبدية". وقد توسعت حدود القدس حسب مفهوم اسرائيل حتى اصبحت تشمل مدناً وقرى تبعد اميالاً عدة عن القدس كما كان الجميع يعرفها قبل التقسيم. ولكن هناك قراراً من الجمعية العامة للأمم المتحدة رقمه 181 لعام 1947 يحدد بدقة المعالم الجغرافية لمدينة القدس ويعتبرها "كياناً مستقلاً" Corpus Separatum لا هو عربي ولا هو يهودي بل دولي لا يحق لأي من الطرفين أن يمارس السلطة الوطنية فيه. هذا القرار لم تلغه الجمعية العامة ولا يزال قائماً. وأقل ما يمكن للجانب الفلسطيني ان يحصل عليه هو الاعلان بأن "القدس" لا تعني اكثر مما كان العالم يفهمه عام 1947. وهناك نقطة مهمة في هذا الموضوع هي ان قرار التقسيم الذي تضمن تحديد وضع القدس كان الاساس الذي بنت عليه اسرائيل الاعلان الرسمي لاستقلالها وتقدمت بموجبه بطلب العضوية في منظمة الأممالمتحدة عام 1949. ويشير اعلان المبادئ الى المفاوضات حول موضوع "اللاجئين". هؤلاء، لا جدال في هويتهم، فهناك القرار الرقم 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول ديسمبر 1948 الذي ينص في البند الحادي عشر على ان اللاجئين الذين يودون العودة الى بيوتهم والعيش بسلام مع جيرانهم يجب ان يسمح لهم بذلك في اقرب وقت ممكن، وانه يتوجب دفع التعويض عن ممتلكات الذين لا يختارون العودة وعن فقدان الاموال والاضرار التي لحقت بها حسبما تقره مبادئ القانون والعدل والانصاف. وقد كررت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا القرار وثبتته من دون اي تعديل فيه ما يزيد على مئة وخمسين مرة خلال الخمسين سنة الماضية. وهناك سجلات محفوظة لدى منظمة الأممالمتحدة عن ممتلكات الفلسطينيين هذه. ثم هناك المستوطنات. هل كل بيت تبنيه اسرائيل في الاراضي التي تحتلها يعتبر جزءاً من اسرائيل؟ ان فكرة المستوطنات هذه يمجّها العالم المتمدن الذي لا يقبل بالاستعمار واغتصاب املاك الغير. وينص اعلان المبادئ على ان قراري مجلس الأمن 242 و338 سيكونان اساس التسوية النهائية للخلاف بين الطرفين. والقرار 242 الذي كرره القرار 338 الصادر في 22 تشرين الأول نوفمبر 1967 ينص على ما يأتي: "مجلس الأمن... اذ يشدد على عدم شرعية الاستيلاء على الأراضي بالحرب... يقرر بأن تنفيذ مبادئ ميثاق الأممالمتحدة يقتضي التوصل الى سلم عادل ودائم في الشرق الأوسط يتضمن تطبيق المبدأين الآتيين: 1 - انسحاب القوات المسلحة الاسرائيلية من الأراضي التي احتلت خلال النزاع الحديث...". اسرائيل تقول ان القرار يطلب منها فقط الانسحاب من "أراضٍ احتلت" وليس من "الأراضي التي احتلت". وتعتمد اسرائيل في هذا على عدم وجود أل التعريف The قبل "أراضي" في النص باللغة الانكليزية. وعلى هذا الاساس تقول اسرائيل ان انسحابها من متر مربع واحد من الأراضي التي احتلتها يفي بمتطلبات القرار. وهذا التفسير لا تدعمه النصوص الرسمية الاخرى للقرار باللغات الفرنسية والاسبانية والروسية والصينية حيث ال التعريف موجودة بوضوح تام. والجدل حول هذا الموضوع يمكن لمحكمة العدل الدولية ان تحسمه. نأتي الآن الى الترتيبات الامنية. اسرائيل تقول ان من حقها ان تسيطر على كل ما تحتاج اليه لضمان امنها، وان هذا يبرر الاستيلاء على المناطق المجاورة وإقامة استحكامات فيها. هذا التفسير كان مقبولاً في قديم الزمان عندما كانت للدول حدود طبيعية صعبة الاختراق مثل الصحارى والجبال والوديان والبحار. ولم يُعرف في التاريخ الحديث ان طالبت دولة بالمزيد من الأراضي المجاورة لمجرد ان هذا ضروري لضمان امنها، باعتبار ان الجار سيكون معادياً لها. ولا شك ان محكمة العدل الدولية سترفض حجة اسرائيل في هذا الخصوص. هذه عينة فقط من المشاكل التي يمكن لمحكمة العدل الدولية ان تقرر الأسس لحلها اذا ما لجأنا اليها. فالقانون هو الأساس الأول في الامن والسلام العالمي. وظهور القانون واحترامه كانا بداية المدنية والحضارة الانسانية ونهاية شريعة الغاب حين كان القوي يأكل الضعيف. والذي اقترحه على المسؤولين الفلسطينيين هو ان يعلنوا بحزم انهم يقبلون بما يقضي لهم به القانون والعرف الدوليان لا أكثر ولا أقل، وان يطالبوا رسمياً بأن يسمح لمحكمة العدل الدولية بأن تقول كلمتها في هذا الموضوع.