أحسنت "الحياة" - منبر الرأي العربي الحر - صنعاً بإتاحة الفرصة لمختلف الأقلام لتناول مسألة "الدولة الفلسطينية"، وأسعدني أن أتابع مختلف الاجتهادات القانونية سواء من انطلقوا في اجتهادهم من قاعدة التخصص أو من حاول أن يسهم في النقاش بناء على ثقافته العامة وانطباعه. غير أن تلك المناقشة ربما تحتاج الى تنظيم من "الحياة" نفسها، كأن تفتح رسمياً باب الحوار حول هذا الموضوع أو غيره. وأشهد أن المسائل القانونية في المسألة الفلسطينية، التي تلتبس أصلاً على المتخصص، لهي أشد إلتباساً وغموضاً ومدعاة للايضاح عند القارئ العام. وما كنتُ أود أن أثقل على الجريدة بتدخلي في هذه القضية، لولا أنني لاحظت من متابعتي الأخيرة لما يكتب "تخبطاً" في المعالجة مما يضيف الى اللبس إرباكاً من قادة الرأي من بعض الكتاب. نقطة ايضاح أخرى قبل أن أقدم موضوع المقالة، وهي أن تناول المتخصص للجوانب القانونية للمسألة الفلسطينية، بخاصة في حوار علني، لا يجوز أن يتجرد من واجب النظر الى المسألة بما يمليه عليه التزامه العربي من خدمة القانون للقضايا العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية، مع اعتقادي الأكيد أن كل من قدم اقتراحاً أو رأياً انما رائده العمل على خدمة هذه القضية المحورية، ولذلك أرجو ألا ينظر الى معالجتي اليوم لهذا الموضوع بأي حساسية أو شبهة النقد أو التجريح. السؤال الأول الذي يدور حول الجدل القانوني والسياسي هو: هل إعلان الدولة الفلسطينية ضروري سياسياً وقانونياً، أم أن هذا الإعلان لغواً وتزيداً وتحصيل حاصل؟ والجواب عند البعض أنه ضرورية سياسية اما للضغط لحث اسرائيل على التحرك أو لتأكيد الهوية السياسية لما تحقق من أوسلو. وعند البعض الآخر من الفريق نفسه أن إعلان الدولة ضرورة قانونية لمواجهة الفراغ القانوني الناشىء عن انتهاء المرحلة الا نتقالية من أوسلو وانتهاء مفاوضات الوضع النهائي على أساس أن هذه المفاوضات تتناول مسائل أخرى ليس من بينها مسألة الدولة الفلسطينية. أما الفريق الثاني فيرى أن الدولة سياسياً قائمة، وقانونياً تتوفر عناصرها، وشكلياً أعلن بالفعل قيامها. وعند هذه النقطة يرى البعض أن الإعلان تم فعلاً في الجزائر العام 1988 واعترفت به الأممالمتحدة، بينما يرى البعض الآخر، وهو أمر لم أفهمه مطلقاً، أن الإعلان تم في أول تشرين الأول أكتوبر 1948 وأن حكومة الدولة المعلنة اتخذت غزة عاصمة لها لولا أن مصر قامت "باحتلال" غزة راجع مقال الدكتور موسى المزاوي في "الحياة" بتاريخ 6/10/1998. وأرجو أن يتسع صدر الدكتور المزاوي للمناقشة، وهو عميد سابق لكلية الحقوق في جامعة وستمنستر، ونظراً لهذا التخصص وما أعتقده من حرصه على الإسهام في خدمة القضية الفلسطينية قانونياً، وأظنه فلسطينياً أيضاً، فقد وجدت "الحياة" ما أبداه يحتاج الى نقاش ليس فقط لاختلاف الرأي وإنما في بعض المعطيات العلمية، وسوف أقصر تعليقي على نقطتين: النقطة الأولى: اقتراح طلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية لقرار الجمعية العامة رقم 181 الصادر في 27/11/1947 والمعروف بقرار التقسيم. وعندي أن هذا القرار هو حجر الزاوية في الشرعية الدولية الحالية، وبموجبه يمكن أن نؤكد الحاجة الى وجود دولة فلسطينية مادام القرار مكّن اسرائيل من ان تُنشأ بموجبه وقُبلت في الأممالمتحدة بشرط احترامه، أي شرط الموافقة على أن تسمح بقيام الدولة العربية وفقاً للقرار. ويجب أن تمضي السلطة الوطنية من دون تردد نحو تأكيد استنادهاالى هذاالقرار دستور التسوية على أرض فلسطين، وهو ما أحسنت صنعه في ديباجة إعلان الجزائر واتخاذهاالقرار مرجعية لها. كما يجب أن تفهم قرارات مجلس الأمن واتفاق أوسلو في شأن القدس على أنها تقدم حماية للقدس ووضعها في القرار المذكور ضد تصرفات اسرائيل لتغيير هوية المدينة وضمها وابتلاعها. ولا عبرة للجدل حول أي قدس، فهذه سفسطة لا طائل من ورائها، فالقدس في قرار التقسيم هو كل القدس وإن خامر الشك البعض بأن قدس القرار 242 هي القدسالشرقية. وعندي أن تفسير قراري التقسيم ومجلس الأمن 242 واضح، وهو تفنيد ما ورد في القانون الأساسي الذي أصدره الكنيست الاسرائيلي لضم القدس واعتبارها عاصمة أبدية ودائمة لإسرائيل العام 1980، فمجلس الأمن الدولي ردّ على ذلك القانون بالقرار الرقم 478 في 11/11/1980، والقرارات السابقة مباشرة واللاحقة على الضم، بتأكيد بطلانه ومطالبة الدول بإهماله وعدم الاكتراث به. والخلاصة أن طلب الفتوى مفيد بشرط أن يصاغ جيداً لجهة تحديد المطلوب على وجه الدقة في ضوء دراسة علمية متخصصة ضافية لهذه النقطة. واندفع الدكتور المزاوي، لغيرته على القدس وإدراكه لعامل الوقت، الى اقتراح طلب قيام المحكمة بإصدار أمر تحفظي يكفل عدم المساس بالقدس لحين البت في تفسير قرار التقسيم. والدكتور المزاوي يعلم قطعاً أن ذلك لا يجوز قانوناً، لأن طلب الفتوى شيء، وطلب أمر تحفظي شيء آخر مختلف تماماً، ويدخل في وظيفة الفصل القضائي. فلا يجوز للمحكمة أن تبحث في إصدار أمر تحفظي ما لم تكن هناك قضية موضوعية معروضة عليها ويكون طلب إصدار الأمر التحفظي جزءاً من الفصل القضائي وأن تتأكد المحكمة من ثبوت اختصاصها مبدئياً ببحث أصل النزاع، وأن تقدر المحكمة أن صدور مثل هذا الأمر ضروري لحفظ حقوق الطرفين المتنازعين أو احدهما في القضية الاصلية. النقطة الثانية: على أي أساس قانوني يستند إعلان الدولة؟، في الوقت الذي ركّز فيه الدكتور المزاوي على أهمية القرار 181 كأساس للدولة الفلسطينية، عاد فأعلن أن الدولة قائمة فعلاً منذ العام 1948. ومعنى هذا هو أن إعلان قيام الدولة في ذلك العام تم على أساس إنكار القرار 181، وقيام الدولة بالتالي على كل فلسطين من دون الاعتداد بقيام اسرائيل، وهو أمر لا يمكن القول به لتبرير قيام الدولة الفلسطينية. ثم اقترح الدكتور المزاوي أن يطلب الى محكمة العدل الدولية أن تطبق المبادئ التي سبق للمحكمة ان أقرتها في شأن الانتداب الذي أسند الى جنوب افريقيا على جنوب غرب افريقيا ناميبيا الحالية وهو يرى أن نقطة البداية من الناحية القانونية في القضية الفلسطينية هي الانتداب على فلسطين العام 1922". يتضح مما تقدم ان الدكتور المزاوي اقترح ثلاث مرجعيات متناقضة للعرض على المحكمة طلباً لرأي استشاري: مرجعية الانتداب السابق على قرار التقسيم، ثم قرار التقسيم، ثم إعلان قيام دولة فلسطين العام 1948، والأول والثالث مناقضان لقرار التقسيم. ولعل النقطة التي طرحت للبحث من دون إجابة شافيه هي: هل الدولة الفلسطينية قائمة؟، وعلى أي أساس قانوني صحيح اذا كانت الإجابة بالإيجاب؟ فإذا كانت الاجابة بالنفي فكيف يسد الفراغ القانوني؟ أجابتي أن الدولة الفلسطينية أعلننت بالفعل العام 1988 واعترف بها معظم دول العالم، ثم كانت أوسلو وقيام السلطة تجسيداً جزئياً لها وليست بحاجة الى إعلان جديد اللهم إذا كان ذلك من قبيل المناورة السياسية التي قد تقرر السلطة أنها تمنح مساحة للحركة أمام الإعلان الاسرائيلي التام لكل فرص التنفس السياسي. ولا حاجة - عندي - الى الحديث المتجرد - من الزاوية القانونية - عن قيام الدولة، ولكن تلح الحاجة الى استكمال تحرير أراضي الدولة وإرادة شعبها وحكومتها. وأما الأساس القانوني للدولة التي أعلنت في الجزائر فهو قرار التقسيم الرقم 181 وبذلك يمكن تحقيق الانسجاب بين عناصر الشرعية الدولية في قرارات مجلس الأمن 242، 338 ومدريد ثم أوسلو، ولا أميل الى تجزئة قرارات المجلس، أو الفصل بين ما هو دولي وما هو ثنائي، بين ما هو شرعية دولية، وما هو سياسي ثنائي يحكمه التوفيق بعيداً عن الأطر الجامدة التي تشعر اسرائيل انها تعوق حركتها وقدرتها على الانفراد بالشعب الفلسطيني الأعزل. * كاتب وديبلوماسي مصري.