آمل أن يكون الجدل الذي بدأ إبّان الحرب الإسرائيلية على غزة، حول ما إذا كان يتعيّن على الدول العربية سحب «مبادرة السلام» التي اعتمدتها في قمة بيروت عام 2002 أم منحها فرصة إضافية، قد انتهى الآن. كما آمل أن يكون العرب قد أدركوا في النهاية أن ترك مبادرتهم أو سحبها من على «الطاولة»، اليوم أو غداً أو بعد غد، لن يغيّر من واقع الحال شيئاً. وإذا كانت حكومات إسرائيل المتعاقبة تعاملت مع المبادرة العربية، منذ إطلاقها قبل أكثر من سبع سنوات بصلف، فكيف لأحد أن يتصور أن حكومة نتانياهو - ليبرمان، وهي من أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل، يمكنها أن تقبل هذه المبادرة أو أن تتعامل معها بجدية؟ وعلى أي حال فهناك أسباب كثيرة تدفعنا إلى الاعتقاد أن أي حكومة إسرائيلية لن تكون جاهزة، لا الآن ولا في المستقبل المنظور، لتسوية دائمة للصراع في الشرق الأوسط على أساس المبادرة العربية. وأهم هذه الاسباب: 1- إدراك النخب الحاكمة في إسرائيل، على اختلاف ألوانها وانتماءاتها، أن موازين القوة في المنطقة تميل لمصلحتها وستظل كذلك لفترة طويلة مقبلة، لأن إسرائيل تزداد قوة ومنعة بينما يزداد العرب تشرذماً وضعفاً. 2- غياب رأي عام دولي ضاغط يرغم إسرائيل على قبول المبادرة العربية ويسعى إلى فرض تسوية بالشروط الواردة فيها على مختلف الأطراف. 3- وجود فراغ قيادي في إسرائيل وخلوّ الساحة من أي قيادة، قائمة أو محتملة، تملك رؤية استراتيجية قادرة على إنقاذ إسرائيل من نفسها ومن قدرها المحتوم. فهل معنى ذلك أن أوباما سيستسلم لمشيئة نتانياهو ويتعامل مع ملف الشرق الأوسط بأسلوب الإدارات السابقة نفسه، والتي كانت تلجأ أحياناً إلى التلويح بالعصا لإسرائيل في لحظة معينة، ثم لا تلبث أن تعود لتستسلم تدريجياً لمنطق إسرائيلي مراوغ ينجح دائماً في وضعها أمام أمر واقع جديد؟ ربما. وأياً كان الأمر فإن أخطر ما يمكن أن تسفر عنه التحركات الديبلوماسية المكثفة الراهنة هو أن تنجح الضغوط الأميركية المتوقعة على إسرائيل خلال المرحلة المقبلة في دفع نتانياهو إلى قبول المبادرة العربية شكلاً ولكن كأساس لتفاوض يسعى من خلاله إلى إجهاضها وتفريغها من مضمونها والنزول بسقفها تدريجياً إلى النقطة التي يريد دفع العرب للوصول إليها. لذا يتعين على العالم العربي أن يتوجه برسالة واضحة إلى إسرائيل وإلى جميع حلفائها الدوليين مفادها أن المبادرة ليست مطروحة للتفاوض وإنما للقبول أو الرفض بلا تحفظات أو شروط من أي نوع. كما يتعيّن على العرب أن يتمسكوا بهذه المبادرة نصاً كما هي وأن يرفضوا إدخال أي تعديلات عليها أو حتى التطوع بتقديم تفسيرات لبعض بنودها، وأن يصروا على أن تجري أي مفاوضات تتم على أساسها في إطار جماعي شامل، أي من خلال مؤتمر دولي يربط مختلف المسارات ببعضها بعضاً ويستهدف الخروج بتسوية متزامنة وملزمة للجميع تتضمن آليات محددة لضبط إيقاع الحركة وضمان عدم تعارض أو تضارب ما تفرزه من مخارج. قد يكون هذا الموقف بالنسبة إلى البعض متشدداً ويتجاوز قدرات عالم عربي يبدو ضعيفاً ومنكسراً في اللحظة الراهنة. غير أنه لا يوجد، في تقديري، ما يدعو العالم العربي، حتى في لحظة انكساره الراهنة، إلى الهرولة نحو تسوية لا تستجيب للحد الأدنى من مصالحه المشروعة. فمن شأن مثل هذه الهرولة أن تفضي به إلى الاستسلام في النهاية للمنطق الرامي إلى فرض تسوية بالشروط الإسرائيلية. ولأن هذا الاستسلام، إن تم لا قدّر الله، لن يفضي إلى تسوية قابلة للدوام وإنما إلى نقل الصراع إلى ساحات أخرى وتحويله من صراع عربي - إسرائيلي إلى صراع عربي - عربي وربما عربي - إسلامي أيضاً، يجدر بالعالم العربي أن ينظر إلى ما هو أبعد من تحت أقدامه ويتحلى بالحذر الشديد وبالصبر في هذه المرحلة البالغة الحساسية. فخلف ما يجري على السطح في اللحظة الراهنة من مظاهر توحي بأن إسرائيل تمضي في طريقها واثقة من نفسها وغير عابئة بما يحدث حولها في العالم من تحولات معاكسة، تكمن في الأعماق مظاهر أخرى توحي بأن المشروع الصهيوني دخل مرحلة أفول وبدأ ينحدر بسرعة نحو السقوط والانهيار، خصوصاً إذا أصرّت إسرائيل على الاستمرار في سياساتها الراهنة. وهناك أسباب كثيرة تدعونا إلى استخلاص مثل هذه النتيجة: السبب الأول: يتعلق بانكشاف إسرائيل عسكرياً وسقوط أسطورة «الجيش الذي لا يقهر». وكانت مسيرة هذا الانكشاف قد بدأت مع حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، حين نجح الجيش المصري في شن حرب أمسك فيها بزمام المفاجأة والمبادرة، فعبر قناة السويس، واقتحم وحطّم خط بارليف ثم استولى عليه وأسر العشرات من الجنود الاسرائيليين، وكاد يلحق بالجيش الإسرائيلي كله هزيمة ساحقة لولا تدخل الولاياتالمتحدة. ثم استمرت المسيرة وتصاعدت عبر ثلاث محطات متتالية: الأولى: حين نجحت المقاومة بقيادة «حزب الله» في إجبار الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب اللبناني من دون قيد أو شرط. والثانية: حين عجزت آلة الحرب الإسرائيلية عن تحطيم «حزب الله» في حرب انتقامية شنتها على لبنان صيف 2006، والثالثة: حين عجزت عن تدمير «حماس» أو حتى إضعافها وإجبارها على التخلي عن السلطة بعد حرب مدمّرة شنتها على غزة في شتاء 2009. وبوسعنا أن نستخلص من هذا الانكشاف العسكري نتيجتين على جانب كبير من الأهمية، الأولى: قدرة الجيوش النظامية العربية على إلحاق الهزيمة بإسرائيل إذا ساندتها إرادة سياسية قوية. الثانية: قدرة المقاومة الشعبية على أن تشكل بديلا يمكن أن يحول، عند الضرورة، دون تمكين الجيش الإسرائيلي من حسم الصراع عسكرياً لصالحه، حتى في حال فشل أو تقاعس الجيوش العربية عن الاستمرار في المواجهة لأي سبب من الأسباب. أما السبب الثاني فيتعلق بانهيار الأساس البنيوي لمشروع صهيوني ثبت أنه قام على أسطورة نسجتها أكبر عملية تزييف للتاريخ في التاريخ. ولم يثبت هذا التزييف من خلال كتابات الباحثين العرب وحدهم، من أمثال كمال الصليبي وعبدالوهاب المسيري وفاضل الربيعي وغيرهم، ولكن أيضا من خلال دراسات عديدة قام بها باحثون يهود وإسرائيليون ينتمون إلى تيار «المؤرخين الجدد» أو تيار «ما بعد الصهيونية»، يطالبون بضرورة الانتقال إلى «مرحلة النضج» بعد الانتهاء من «مرحلة التأسيس»، ونبذ الكثير من مكوّنات الفكرة الصهيونية التقليدية، مثل تفرّد القومية اليهودية ونقاء الشعب اليهودي وسياسات التوسع القائمة على مبدأ الأرض وليس على منطق الدولة والقانون، واعتماد الدين وليس المواطنة العلمانية كمعيار للانتساب الى الدولة.. الخ. وعلى رغم وجود معارضة قوية لهذه التيارات التجديدية في الفكر الصهيوني فإن المطالبة بضرورة إعادة النظر في الكثير من مسلّماته لم تعد من المحرّمات. السبب الثالث: يتعلق بسقوط أخلاقي لهالة مزيفة كانت إسرائيل قد نجحت في أن تحيط نفسها بها. ومن المعروف أن آلة الدعاية الجهنمية للحركة الصهيونية كانت قد نجحت على مدى عقود طويلة في أن تصنع حول إسرائيل هالة صورتها كدولة صغيرة يحق لها أن تدافع عن نفسها في مواجهة أعداء يحيطون بها من كل جانب. و «واحة للديموقراطية» في منطقة لا تعرف سوى الاستبداد، و «دولة قانون ومؤسسات» وسط عالم تحرّكه الغرائز. لكن ما كان بوسع هذا القناع الزائف أن يصمد بعد حرب 1967، التي أظهرت أن إسرائيل دولة عدوانية وتوسعية بطبيعتها، وبعد بناء «الجدار العازل»، والذي لم تجرؤ أعتى الدول عنصرية على أن تقيم مثله، وبعد حرب إجرامية على قطاع غزة قصفت فيها مدارس وجامعات وعربات إسعاف وحتى وكالات إغاثة تابعة للأمم المتحدة وأظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن إسرائيل هي التجسيد الحي للعدوان والخروج على القانون. في سياق كهذا من الطبيعي أن تسقط تباعاً الأقنعة الصهيونية كافة وأن تتغير نظرة الملايين في مشارق الأرض ومغاربها إلى إسرائيل التي لم تعد ترى فيها سوى الدولة الأخطر على السلم والأمن العالميين. فإذا أضفنا إلى ذلك أن تحولاً مهماً في الرأي العام الأميركي بدأ يحدث نتيجة بروز تيار يرفض استثناء إسرائيل من الخضوع لقواعد القانون الدولي، وهو ما قد يفسّر مطالبة الإدارة الأميركية الجديدة لإسرائيل أخيراً بالانضمام إلى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، لأدركنا حجم المأزق الذي تتجه نحوه إسرائيل لا محالة والذي لن يكون بوسعها أن تخرج منه إلا إذا تخلّت عن رؤيتها التوراتية واستبدلتها برؤية سياسية براغماتية أساسها البحث عن طريقة واقعية للتعايش مع شعوب المنطقة والاندماج فيها وليس الهيمنة عليها. وإذا كانت إسرائيل تصر على أنه لا حل من دون دولة يهودية خالصة فلماذا لا يطرح العرب حلاً بديلاً جريئاً يوافقون بمقتضاه على إقامة «مركز روحي لليهود» على رقعة محدودة من الأرض بالقرب من القدس، في مقابل أن تصبح فلسطين التاريخية كلها دولة محايدة منزوعة السلاح ونموذجاً للتعايش بين الأديان؟ * كاتب مصري