يتفق الباحثون على أن العامل الديني كان في مقدم الدوافع للحملة التي جهّزها البرتغاليون ضد مدينة سبته، ويتضح ذلك جلياً من الخطاب الذي وجهه البابا الى رجال الحملة مباركاً إياها ومعلناً عن "غفران ذنوب من يسقط في محاربة الكفار في هذه الحملة". إن حملة سبته كانت استجابة للروح الصليبية التي عمّت شبه جزيرة ايبرية مع تقدم ما عرف بحركة "الاسترداد" ونجاحها. ولعل ما أوحى بالهجوم على سبته في المقام الأول الحماسة الصليبية لضرب المسلمين في المغرب ضربة قاضية. عمل ملك البرتغال جون الأول وزوجته الإنكليزية فليبا لانكستر وأبناؤهما الخمسة جاهدين على استمرار حروب الفرنجة التي بدا وكأن جذوتها أخذت تخبو بعد أن تم إجلاء المسلمين عن أراضي البرتغال ذاتها، فشرع في حملة سبته - أولى حملات البرتغال في الخارج - وهي دليل على أن حرب "الاسترداد" والفتوح التوسعية كانا في أساسهما حرباً مقدسة. وينسب الى الأمير هنري قوله لوالده وهو يحاول إقناعة بالموافقة على حملة سبته إنه لا وجه للمقارنة بين عداء قشتالة المسيحية للبرتغال وبين عدائها "للكفار الذين هم أعداء طبيعيون لنا". ولما استشار الملك جون الأول أحد كبار مستشاريه بشأن الحملة المقترحة ضد سبته أجابه قائلاً: "يبدو لي أن هذه الخطة ليست من بنات أفكارك، وإنما هي بوحي من الله". كان الأمير هنري - بوصفه رئيساً لنظام المسيح الديْري العسكري - وريثاً لتقليد صليبي طويل. ولما لم يكن بقي ما يمكن تحقيقه في هذا المجال في البرتغال ذاتها بعد أن أُجلي المسلمون عن أراضيها في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، فإن هنري أراد مواصلة هذا التقليد في ديار الإسلام في المغرب، لمحاربتهم بل والعمل على تنصيرهم. وقبيل إقلاع سفن الأسطول البرتغالي صوب سبته، ماتت الملكة فليبا، وكان لها دور كبير في إذكاء هذه الروح في نفوس أبنائها وفي صفوف المحاربين. وكان البرتغاليون يحسبون أن ثمة الى الجنوب من المغرب شعوباً وثنية يمكنهم تنصيرها والتحالف معها ضد المسلمين في المغرب. ويرى المؤرخ المغربي عبدالله العروي أن الدافع الديني يبدو أنه كان الدافع الحاسم في سياسة دول شبه جزيرة ايبرية تجاه شمال افريقيا، وأنه ينبغي النظر الى الهجوم الإيبري على المغرب على أنه في أساسه حملة صليبية ورد فعل على إخفاق الحملات الصليبية في المشرق، وعلى الخطر العثماني الجديد الذي كان يهدد شرق أوروبا. وبتجديد حملات الفرنجة القديمة ضد المسلمين، كان ملك البرتغال جون الأول يأمل في أن يحوز رضا البابوية وأوروبا وتأييدهما. إن مجمع كونستانس الذي دعي الى الانعقاد في شهر تشرين الثاني نوفمبر 1414م كان يُنتظر أن يضع حداً للانقسام البابوي وينهيه، ورأى البرتغاليون أنهم إذا شنّوا حملة صليبية أمكنهم أن يتوقعوا رضا البابا الجديد والتوصُّل الى سلم مع مملكة قشتالة. وقد جاء الاقتراح بالقيام بحملة ضد مدينة سبته من جانب رئيس أساقفة لشبونة وممثل الملك جون الأول في المفاوضات مع قشتالة في كونستانس. ويذكر أن البابا أصدر مراسيم عدة يأذن فيها لملك البرتغال بمهاجمة المسلمين وإخضاعهم لحكمه، وبأخذ أموالهم وأراضيهم، وباسترقاقهم، وبأن تؤول أموالهم وأراضيهم لملك البرتغال وذريته من بعده. دوافع اقتصادية لا تقل عن الدوافع الدينية، الدوافع الاقتصادية، كالظفر بالأسلاب والغنائم، وتلبية رغبات الطبقة البورجوازية النامية في مدن البرتغال، والحصول على ذهب السودان الغربي عن طريق سبته، فضلاً عن ثروات المغرب ذاته، وتعزيز تجارة البرتغال في منطقة البحر الأبيض المتوسط حيث كانت التجارة وقفاً على تجار المدن الإيطالية، وحكراً لهم. إن بعض المؤرخين المحدثين لم يعودوا يكتفون بالتفسير التقليدي لأخذ مدينة سبته بأنه أوحت به الحماسة الدينية والرغبة في تحقيق الأمجاد والبطولات الحربية، ويرى هؤلاء المؤرخون أن الدوافع الاقتصادية والاستراتيجية لا بد من أن كان لها دور كبير في أذهان مخططي الحملة. فسبته - كما يصفها الأنصاري - كانت مدينة تجارية مزدهرة، وهي منفذ رئيسي لصاردات المغرب وأحد المراكز التي تنتهي إليها تجارة ذهب السودان الغربي عبر الصحراء الكبرى. إن الدافع للحصول على الذهب كان دافعاً مهماً، إذ كان على الذهب إقبال كبير خلال القرنين الأخيرين من القرون الوسطى في غرب أوروبا. فخلال هذه الفترة ضُربت العملة الذهبية في بلد تلو آخر على غرار الفلورين الذهبي بفلورنسة الذي ضرب سنة 1252م، والدوقة الذهبية التي ضربت في البندقية في حدود سنة 1280م. ولم يكن للبرتغال عملة ذهبية خاصة بها منذ سنة 1383م، فكانت البرتغال من بين الممالك الأوروبية القليلة في هذا الوضع. إن أسرة أفيس جاءت الى الحكم في البرتغال سنة 1385م بفضل مساندة الطبقة البورجوازية من تجار المدن، وهي طبقة احتلت مصالحها التجارية المقام الأول في سياسة المملكة. وكان تجار لشبونة وأبورتو يطمعون في تجارة البحر المتوسط المجزية التي كانت تحتكرها جمهوريتا البندقية وجنوى وتجار المسلمين، بمن فيهم تجار مدينة سبته. وكان البرتغاليون يطمعون كذلك في ثروات سبته والمغرب الاقتصادية، كمصائد الأسماك في مياه سبته وقبالة سواحل المغرب. وكانت تحاك في مدينة فاس أقمشة تصدّر عن طريق سبته، وكان على هذه الأقمشة إقبال في بلدان جنوب أوروبا. وكانت سبته منفذاً رئيسياً لصادرات المغرب من الحبوب، التي كانت البرتغال كثيراً ما تفتقر إليها. إن الداعي الرئيسي لحملة سبته هو خوان أفونسو المشرف الملكي على المالية، والممثل الرئيس للطبقة البورجوازية في الحكومة. إن الأزمة الطويلة التي كانت تعاني منها البرتغال قبيل حملة سبته نتيجة لحروبها مع قشتالة أدت الى نقصان كبير في موارد الدولة، مما حدا بالملك جون الأول الى العبث بالعملة وتخفيض قيمتها لتسديد ديونه. لم يكن الهدف الرئيسي للتوسع البرتغالي في القرن الخامس عشر الميلادي الرغبة في السيطرة على أراض عبر المحيط، بل السيطرة على ساحل المغرب. ففي المغرب ذاته كان يتوافر الكثير من السلع المطلوبة كالقمح والماشية في الشمال، والسكر وبعض المنسوجات، وكذلك الأسماك والجلود والشمع والعسل. فجنوب المغرب من شأنه أن يساعد على سد ما كانت تعانيه البرتغال من نقص في إنتاج الحبوب، فضلاً عن جاذبية تجارة ذهب السودان الغربي. ويرى الباحث البريطاني نيفل باربر أن ما دفع الى القيام بحملة سبته الطموح من جهة، والرغبة من جهة أخرى في إيجاد منفذ للمغامرين الذين أصبحوا عاطلين من العمل بعد أن تم إبرام السلم مع مملكة قشتالة. الرواية البرتغالية إن تواريخ جويس ايانيش دي ازورارا وبخاصة تاريخه عن الملك جون - خوان الأول- تروي قصة أخذ البرتغاليين مدينة سبته، وبعد عشر سنوات من سقوط المدينة، بأسلوب حكايات الفروسية، فتقول: حاول ابنا الملك جون الأول إقناع والدهما بالمشاركة في حملة باهرة لكي يتسنى لهما أن يرسَّما فارسين، إلا أن الملك عارض مشروع الحملة بحجة بُعد سبته، وتكاليف الحملة والتجهيز لها. كما أن الملك تردد في تجريد مملكته من الجند طالما بقي السلم مع مملكة قشتالة غير ثابت. كما أشار الملك الى أن المغاربة سيذكرون دوماً بكل مرارة "هزيمتهم على أيدينا، وسيأخذون في مهاجمة سفننا قرب ساحل إقليم الغرب في جنوبالبرتغال". وقال الملك كذلك إن البرتغاليين سوف يفقدون كل أمل في إرسال مراكبهم وبضائعهم الى مدن حوض البحر المتوسط، وذكّر بالمصير الذي سيؤول إليه أسراهم على أيدي المغاربة. وفي آخر الأمر، تمكّن هنري من إقناع والده بأنه يقلل من شأن القوات البرتغالية، وبأنه لا وجه للمقارنة بين قشتالة المسيحية وبين "الكفّار أعدائنا الطبيعيين"، مضيفاً أن تسهيل استيلاء قشتالة على غرناطة من شأنه أن يعود بالفائدة على البرتغال، إذ سوف ينشغل القشتاليون بمشكلات غرناطة، مما سيجعل البرتغال تنعم بالسلام زمناً طويلاً. وكما هي الحال في الحروب "الجيدة" كافة، بدأت حملة سبته بإيفاد رسل للاستطلاع وجمع المعلومات عن المدينة وتحصيناتها. وجالت في خاطر الملك خطة أشار إليها المؤرخون بأنها "حيلة بارعة". فقد جهّز سفينة لإرسالها الى ملكة صقلية ليعرض عليها الزواج من ابنه بدرو. ولما كانت الملكة أعربت عن ميلها للزواج من دوارتي/ ادوارد وارث العرش، فإن ملك البرتغال كان لا يشك في أنها سترفض عرضه. وهكذا أتيحت لرسله فرصة التجوال بمدينة سبته ومعاينة ما يريدون. وتبريراً للاستعدادات الحربية الجارية وحشد الأسطول، قرر ملك البرتغال "أن يتحدى دوق هولندا ويهدده بالحرب إن هو لم يوقف الأضرار والسرقات التي كان رعاياه يوقعونها بالتجار البرتغاليين المارّين بمضائق بلاده". وبالطبع فإن الدوق - وكان على علم مسبق بكل ذلك - تظاهر بتصديق التهديد. ثم بعث الملك جون برسله لاستئجار السفن من غليسية جليقية وبسكاي، وحتى من انكلترا وألمانيا. كما أن الفرسان الإنكليز والفرنسيين عرضوا عليه خدماتهم. لم يُكشَف للجند عن هدف الحملة إلا بعد إبحار الأسطول، حينما أعلن أحد الرهبان أنه يقصد مدينة سبته، وتلا عليهم "خطاب البابا، وفيه يغفر ذنوب كل من يسقط في قتال الكفار في هذه الحملة الصليبية". توقف الأسطول - وقوامه 200 سفينة وخمسون ألف رجل - في مرسى الجزيرة الخضراء قرب جبل طارق بعد أن قدم الملك جون الضمانات كافة لملك قشتالة. وفي البداية صادفتْ الحملة بعض التعثر، إذ هبت ضبابة كثيفة جعلت الأسطول يتحول الى ناحية مالقة بسبب التيارات، ووقعت بعض الاشتباكات مع مسلمي غرناطة الذين حسبوا أن الهجوم سوف يقع على أراضيهم. كما أن الطاعون الوافد من لشبونة تفشّى بين الجند في سفن عدة. ومع ذلك، فإن الأسطول توجه آخر الأمر الى سبته. ونزل الجنود الى البر ودارت معارك عنيفة، وكان يقود الجند الأميران ادوارد وهنري. وقد أبدى المدافعون عن المدينة، قبيل نزول الغزاة الى البر، نشاطاً كبيراً في تعزيز دفاعهم، وكان بالإمكان مشاهدتهم وهم يجْرون فوق أسوار المدينة، مما يدل - على حد قول أزورارا - أن الخوف كان أبعد ما يكون عن قلوبهم. وكما يذكر أزورارا في تاريخه، فإن "صاحب سبته صالح بن صالح" خاطب البرتغاليين بالعبارات الآتية: "إننا لا نخشى هجوم النصارى علينا، فهم ليسوا كثيرين عدداً، وبوسعنا قتالهم، ومن يدري؟ فلعلّهم يتيحون لنا الفرصة لإحراز نصر كبير... ومن الممكن أن يقع أسطولهم في أيدينا. وقد نستعمل أوانيهم الذهبية والفضية في أعراس أبنائنا... إن الأسطول قسمان، ونعتقد أنهم سينزلون اليوم الى البر، وسوف نذبحهم على الشواطئ، إذ إن أكثرهم مثقلون بالدروع لا يقوون على الحركة إلا ببطء وصعوبة، بينما نحن خفاف ونستطيع التحرك بسرعة ومهاجمتهم. وإذا سقطوا على الأرض تعذّر عليهم النهوض. وأنى لهم ذلك، وهم كجلاميد الصخر وزناً". ولم يكن بالأمر الهيّن الهجوم على أسوار مدينة سبته الثلاثة المتتالية والقتال في أزقة المدينة وشوارعها الضيقة التي يسهل الدفاع عنها. دامت المعركة خمس ساعات من دون توقف. وقام المغاربة - وهم أكثر عدداً وأقل سلاحاً - بالهجوم من دون سلاح على الغزاة. ويشيد أزورارا ببلاء محارب مسلم خارج باب المدينة فيقول: "كان رجلاً طويل القامة، أسود اللون كالغراب، وكان عاري البدن، يثير منظره الفزع والرعب. ولم يستعمل سلاحاً سوى الحجارة. وكان الحجر الذي يقذف به يبدو وكأنه قذف من منجنيق أو مدفع بفضل قوة ذراعه. وقد أصاب بحجر قذف به خوذة ضابط برتغالي فأطارها عن رأسه، ولكن الضابط رماه برمحه فأرداه قتيلاً. ويذكر أزورارا أن السبتيين قاتلوا دفاعاً عن منازلهم حتى النهاية، مؤثرين الموت على الفرار. وكانوا - وهم عزّل من السلاح - يرمون بأنفسهم على الجند المسلّحين مستميتين في القتال، ولم يستسلموا حتى أمام الكثرة من الجند. وكان من يسقط منهم جريحاً يواصل القتال ويلوّح بيده على أعدائه". كان سقوط سبته في أيدي المغيرين البرتغاليين في 21/8/1415. وفي اليوم الثالث والعشرين من آب اغسطس قام ملك البرتغال بتحويل المسجد الجامع في المدينة الى كنيسة كاثوليكية. وأقيمت فيها حفلة كبيرة، وتليت صلاة شكر وامتنان في يوم الأحد التالي 25/8/1415، وجرى في الحفلة ترسيم أبناء الملك الثلاثة - بحسب رغبتهم - فرساناً، وولّي على المدينة الكونت بدرو دي منزيس وتُركت معه حامية قوامها 2700 رجل وسفينتان لحراسة المضيق. وبعد سقوط المدينة بثلاث سنوات، قام "أهل فاس وأهل غرناطة وملك مراكش وملك تونس وملك بجاية ومعهم الأسلحة والمدافع الكثيرة" بمحاصرة مدينة سبته براً وبحراً. وقد قدَّرت كتب التاريخ البرتغالية عددهم بمئة ألف رجل، بمبالغة تتفق مع الأسلوب الملحمي الذي دُونت به تلك التواريخ. وهرع الأمير هنري الى نجدة المدينة بأسطول جديد، وبعد أن "أوقع مذابح بالمسلمين، حرّر المدينة وعاد ظافراً الى البرتغال"، وكان غاضباً لأن "الظروف لم تسمح له بأخذ مدينة جبل طارق كما كان قد خطط". رواية صاحب "نشر المثاني" لا تتوافر في المصادر العربية تفاصيل كافية عن حملة سبته، باستثناء نتف أوردها صاحب "كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" الذي ذكر أن استيلاء البرتغاليين على مدينة سبتة كان بعد حصار طويل للمدينة، وأنه كان على أثر خديعة لجأوا إليها. فقد نقل عن صاحب "نشر المثاني" قوله: "إن النصارى جاؤوا بصناديق مقفلة يوهمون أن بها سلعاً، وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين، وذلك صبيحة يوم الجمعة من بعض شهور سنة 818. وكانت تلك الصناديق مملوءة رجالاً عددهم أربعة آلاف من الشباب المقاتلة، فخرجوا على حين غفلة من المسلمين واستولوا على البلد... وسمعتُ من بعضهم أن الذي جرّأ النصارى على ارتكاب تلك المكيدة هو أنهم كانوا قد قاطعوا أمير سبته على أن يفوض إليهم التصرف في المرسى والاستبداد بغلّتها، وأن يبذلوا له خراجاً معلوماً في كل سنة. فكان حكمُ المرسى حينئذ لهم دون المسلمين. ولو كان المسلمون هم الذين يلُون حكم المرسى ما تركوهم يُنزلون ذلك العدد من الصناديق مقفلة لا يعلمون ما فيها". ويضيف صاحب "نشر المثاني" أن أهل سبتة جاؤوا الى سلطان فاس مستصرخين "وعليهم المسوح والشعر والوبر والنعال السود رجالاً ونساء وولدانا. إلا أن السلطان ردهم الى الفحص قرب بلادهم لعجزه عن نصرتهم، حتى تفرّقوا في البلاد". وما إن تم للبرتغاليين الاستيلاء على سبته حتى قاموا بتحصينها. وينقل الناصري السلاوي عن مؤرخ برتغالي اسمه مَنويل ما مفاده أن عبدالله بن أحمد - المعروف بسيدي عبد - اغتصب المُلك من أخيه السلطان المريني أبي سعيد عثمان، ولكنه "تكدّر عيشه بذهاب سبته... وتكدّر المسلمون لفوات هذه المدينة العظيمة منهم". ويُذكر أن أهل سبته توجهوا الى مدينة فاس ملتمسين مساعدة السلطان عبدالحق لدحْر المغيرين البرتغاليين، وصرح السلطان بعجزه عن نصرتهم. لم يهدأ للبرتغاليين بال ولا طاب لهم مقام منذ أن وطأت أقدامهم أرض سبته، إذ تعرّضوا لهجمات مستمرة من جانب القبائل من المناطق المجاورة لسبته والمتطوعين المجاهدين من أنحاء المغرب، وبخاصة مدينة فاس. وتقول الرواية البرتغالية إن بدرو دي منزيس، أول ولاة البرتغال على سبته، كان يرتدي درعه باستمرار على مدى 16 عاماً لكي يكون على أهبة في حال وقوع هجوم مرتقب من جانب المسلمين الذين كانت هجماتهم لا تنقطع طوال فترة ولايته 1415- 1437م. إن حملة سبته احتاجت الى المال والسفن والرجال والأسلحة، أما المال فقد تم الحصول عليه من أصحاب المصارف وعن طريق العبث بالعملة. وأما السفن فقد جُمعت من موانئ كنتبرية ومنطقة خليج بسكاي كافة. وفي خطاب لملك إنكلترا هنري الخامس بتاريخ 26 أيلول سبتمبر 1414م، يأذن الملك لممثل البرتغال بشراء 400 رمح، كما يأذن في خطاب آخر بتاريخ 26 كانون الثاني يناير 1415 بشراء 300 رمح وبتجنيد عدد من الرجال المسلحين. لم تُجدِ تحصينات سبته كما لم يجد الرماة والمدافعون عنها في وجه القوات البرتغالية الغازية، فمع أن أعدادهم كانت كبيرة إلا أن أساس نجاح الحملة كان يكمن في عامل المباغتة الذي هيأه تخطيط المغيرين الدقيق لها. ولما وافق ملك البرتغال على قيام الحملة، أصر على أن يشارك فيها بنفسه آملاً - على حد قوله - في أن يكفّر سفكه دماء "الكفار" عما كان قد سفكه من دماء النصارى. إن الثغر الجديد للبرتغال لم يواجه سوى هجوم واحد ذي بال شنّه المغاربة والغرناطيون معاً سنة 1419م، ولكن الهجوم فشل نتيجة للخلافات في صفوف بني مرين. وفي العام التالي، اغتيل السلطان المريني أبو سعيد عثمان، وتفاقمت بمقتله الحرب الأهلية في المغرب. نتائج السقوط ترتبت نتائج مباشرة على استيلاء البرتغاليين على سبته، وهي المدينة التي آلت إلى إسبانيا منذ سنة 1580 حينما ضم ملك إسبانيا فيليب الثاني بلاد البرتغال الى مملكته، وما زالت سبته في أيدي الإسبان الى اليوم. إن النتائج المادية لأخذ البرتغاليينسبته كانت مخيبة لآمالهم، ولم تبدُ للعيان فوائد مباشرة نتيجة استيلائهم عليها. إن أخذ سبته لم يكن له سوى أهمية رمزية، ولم تُبذل محاولة من قبل البرتغاليين لاستغلال احتلالهم قبل سنة 1437م حينما جهزوا حملة للاستيلاء على مدينة طنجة باءت بالفشل. إن المدينة - وبخاصة مخازن التجار ومتاجرهم ومنازلهم - تعرّضت لأعمال النهب والسلب من قبل الغزاة، وذهبت وقوداً للنيران محتويات المتاجر والمخازن من التوابل والثياب الرفيعة والسجاجيد الشرقية. أما سكان المدينة فقد قتل الكثير منهم، واستُرقّ بعضهم، ونزح عن المدينة المنكوبة من استطاع من ساكنيها. وبعد يومين من سقوط المدينة، بادر ملك البرتغال الى تحويل مسجدها الجامع الى كنيسة، هي اليوم كاتدرائية سبته. إن معظم التجارة التي كانت تمر بمدينة سبته لما كانت في أيدي المسلمين توقفت وتحولت عنها الى موانئ شمال افريقيا الأخرى. وفي حين أن بعض أفراد الحامية البرتغالية كانوا يقومون بنهب المزارع والبساتين في أحواز سبته، أو بممارسة القرصنة في مضيق جبل طارق، فإن الملك لم يجن من انتصاره مكسباً مادياً يذكر، فهو لم يزد من إيراداته بل أصبح لزاماً عليه الإنفاق على حامية المدينة وقوامها نحو ثلاثة آلاف رجل. إن سبته وقد خلت من سكانها وأصبحت في عزلة عن المنطقة المحيطة بها أصبحت - بعد أن كانت ذات يوم ميناء مزدهراً - عبئاً ثقيلاً على الخزانة البرتغالية. وقد مكّن احتلال سبتهالبرتغاليين من الحصول على بعض المعلومات حول بلاد السودان في أعالي حوضي نهري السنغال والنيجر، وهي مصدر الذهب بالنسبة للمغرب. وكان البرتغاليون يصْبون الى الاتصال المباشر بمصادر الذهب في السودان الغربي، إذ لم تكن للبرتغال عملة ذهبية خاصة بها منذ سنة 1383م، فكانت من بين الممالك الأوروبية القليلة في مثل هذا الوضع. إن استيلاء البرتغاليين على مدينة سبته قوبل بالترحيب في أوروبا وأثار حماسة كبيرة لأنه كان بمثابة حملة ناجحة، وكان من شأنه تعزيز هيبة البرتغال وملكها في أوروبا. كان الأتراك العثمانيون يتوغلون آنذاك في شرق أوروبا بعد انتصارهم الكبير في معركة نيقوبوليس سنة 1396م على تحالف باركه البابا، ولذلك فإن أوروبا نظرت إليه كأول هجوم مضاد ناجح ضد المسلمين. أضف الى ذلك أنه تمّ بسقوط سبته الاستحواذ على موقع حيوي على ساحل البحر المتوسط، إذ لا ينكر - كما يقول المؤرخ البرتغالي أزورارا - أن سبته هي مفتاح البحر المتوسط بأسره. وحرص ملك البرتغال على تأكيد أن استيلاءه على سبته لم يكن باسم البرتغال فحسب بل باسم أوروبا بأسرها. وبعد الاستيلاء، بدأ البرتغاليون في مزاولة القرصنة في مياه غرب البحر المتوسط. فأنشأ حاكم سبتهالبرتغالي سفناً كانت تكمن لمراكب المسلمين التي تتردد على ميناءي جبل طارق ومالقة، وأصبح قراصنة البحر البرتغاليون يفرضون شروطهم على المراكب في البحر المتوسط، ويأسرون من فيها من المغاربة ويسترقونهم ما لم يقوموا بفداء أنفسهم. إن احتلال سبته من قبل البرتغاليين يمثل أول استيطان أوروبي ثابت على ساحل المغرب الأقصى، كما كان بداية لتوسع استعماري أدى خلال القرن الخامس عشر الميلادي الى احتلال الكثير من موانئ المغرب من قبل الإسبان والبرتغاليين وفاتحة سيطرة أوروبا على قارتي افريقيا وآسيا واستعمار أراضي القارتين. سبته قبيل الاحتلال تتحكَّم مدينة سبته بالملاحة في مضيق جبل طارق بحر الزقاق، وظلت - بحكم ضيق المجاز وصلتها الوثيقة بالاندلس - أندلسية الطابع. وغصت بالنازحين من الأندلس ابتداءً من القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي، حينما أخذت قواعد المسلمين في الأندلس - كقرطبة واشبيلية - تتهاوى . اشتهرت سبته بالتجارة براً وبحراً. وكان يقصدها تجار المدن الايطالية - وبخاصة تجار جنوة - وكانت لهم فنادق فيها. كما كانت بدايةً لطرق القوافل المؤدية الى غانا والسودان الغربي. كما اشتهر أهل سبته بركوب البحر وانشاء المراكب. وكانت فيها دار صناعةٍ لإنشاء السفن، وكانت القاعدة الرئيسية لأسطول الموحدين، وكان لرماتها شهرة رماة الغُزِّ من التركمان في المشرق. كان من بين النازحين عن سبته بعد سقوطها في أيدي البرتغاليين 818 ه 1415م الفقيه محمد بن القاسم بن عبدالملك الانصاري، السبتي الدار والنشأة والمولد. وصنَّف كتاباً بعد سبع سنوات من سقوطها، سماه "اختصار الأخبار عما كان بثغر سبته من سنيِّ الآثار"، استعرض فيه معالمها قبيل سقوطها، فذكر مقابرها ومساجدها وخزائنها العلمية ومحارسها وأزقتها وحماماتها وحوانتيها وفنادقها وديار الاشراف فيها ومطاميرها وطواحينها وأرباضها وأبوابها ومقاصرها ومراسيها ومصايدها. كما تحدث عن احواز سبته، فذكر وفرة مياهها وغلاتها وفواكهها على مدار فصول السنة. ويتبين من هذا الثبت المفصل ان مدينة سبته كانت - الى أوائل القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي - مدينة تنعم بالرخاء والازدهار والعمران وان سقوطها كان كارثةً، اذ تعرضت المدينة وأهلها لأعمال النهب والسلب والتقتيل، ونزح عنها معظم سكانها. يذكر الانصاري انه كان بسبته ألفُ مسجد، وأن عدد الخزائن العلمية المكتبات بها 62 خزانة، وأن عدد الروابط والزوايا 47، أما محارسُ المدينة فعددها 18 محرساً تمتدُّ الى 12 ميلاً من خارجها من ناحيتيْ البحرين. وكان بسبته 22 حمَّاماً، و174 سوقاً. أما المنجراتُ المُعَّدةُ لعمل القسيّ فعددُها 40 منجرة. ولما كانت سبته ميناءً تجارياً يقصده التجار الاغراب، فأنها احتوت على 350 فندقاً لخزن الحبوب وايواء المسافرين. أما ديارُ الاشراف الجمارك حيث يقيم المشرفون الماليون - فعددها أربعة: دار الاشراف على عمال الديوان أمام فندق النصارى - وفنادقهم سبعة، ودار الاشراف لشدِّ الأمتعة وحلِّها، ودار الاشراف على البناء والنجارة، ودار الاشراف على سكَّة المسلمين. وكان بسبته من المطامير لخزن الحبوب أربعون الفاً يمكث الزرع القمح فيها "الستين سنة والسبعين سنة ولا يلحق تغير لطيب البقعة واعتدال الهواء، ولكونها جبلية. فسبته في ذلك شبيهة بقاعدة طليطلة من بر الأندلس". ولما عُني أهل سبته بالرمي لأغراض الدفاع عن ثغرهم، فقد كان بسبته من المرامي المعبّر عنها بالجلسات - أربعة وأربعون مَرْمى للرماة "إذ الرمي طبعٌ لأهل سبته طبعوا عليه، فلا تلفي منهم شريفاً ولا مشروفاً، ولا كبيراً ولا صغيراً، الا وله بصر بالرمي وتقدم فيه، ومعظم رميهم بالقوس العقارة، وهو من حجة الأشياء التي تميزوا بها". وكان الشريفُ الادريسي - وهو من أبناء سبته - قد نوَّه بمصائد الحوت في سبته، فذكر ان يصاد بها من السمك نحو من مئة نوع، ويصاد بها السمك المسمَّى التُن الكثير، كما يصاد ببحرها المرجان. وبسبته - كما يقول الأدريسي -"سوق لتفصيل المرجان وحكه وصُنعه خرزاً وثقبه وتنظيمه، ومنها يتجهز به الى سائر البلاد، وأكثر ما يحمل الى غانة وجميع بلاد السودان غرب افريقيا لأنه في تلك البلاد يُستعمل كثيراً. وبعد الادريسي بنحو ثلاثة قرون، يذكر الانصاري ان بسبته من المصايد 299 مصيداً مفترقة. واشتهرت أحواز سبته بوفرة مياهها وغلاتها، وخصوصاً في قرية بليونش الى الجنوب من سبته. ويذكر الانصاري بليونش - ويرسمها بينونش - فيتحدث عن كثرة وتعدد فواكهها الصيفية والشتوية والخريفية، بحيث توسق منها الأجفان وتسير الى المغرب وبلاد الأندلس. كما تكثر في منطقة سبته الغابات، وبها ضروب الشجر كالأرز والبلوط، مما يعود نفعه على ثغر سبته ويُستعان به على انشاء المراكب وما يرجع الى الأمور الجهادية. * أستاذ جامعي فلسطيني في اكسفورد.