حالت اسرائيل وتحول حتى الآن دون الوصول إلى السلام العادل والشامل بسبب رفضها الصريح والمعلن لمقومات هذا السلام وأسسه كما حددتها قرارات الشرعية الدولية. فبينما تعلن الدول العربية منذ أكثر من ربع قرن ان السلام خيارها وقرارها الاستراتيجي يمتنع قادة إسرائيل عن فعل ذلك أو التصريح به، ظناً منهم بأن ثمة إمكانية مع مرور مزيد من الوقت على احتلالها ان تتنازل الدول العربية عن بعض حقوقها وأن تقبل بما هو أقل من شروطها ومطالبها المعلنة لاحقاً، بسبب استمرار الضعف العربي وعدم قدرة الدول العربية على استرداد أرضها بالقوة. لقد حققت إسرائيل نصراً سهلاً في عدوانها في 1967 كما في عام 1948، وظنت ان هذا النصر وما فازت به من أرض شاسعة واسعة سيمكنها من الاحتفاظ بما احتلته تماماً كما فعلت عام 1948 عندما احتلت مساحات واسعة من الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية حسب قرار التقسيم، وكان منبع هذا الظن أو مصدره: 1- عجز العرب عن استعادة ما احتلته إسرائيل عام 1948 سواء بالقوة العسكرية أو بالقوة الديبلوماسية. 2- النصر السهل ذاته الذي مكنها من احتلال كل تلك الأراضي، الأمر الذي زاد في قناعتها أن عرب 1967 هم كعرب 1948 لن يستطيعوا استرداد أرض من إسرائيل. 3- ان بمقدورها كما في عام 1948 ان تحتمي بالولايات المتحدة والدول الغربية في مجلس الأمن للحيلولة دون صدور قرار عنه يفرض عليها الانسحاب. وبالفعل كادت إسرائيل أن تنجح في رهانها الأخير، فالمجلس لم يتمكن من إصدار قرار خلال أيام العدوان يدعو إسرائيل إلى سحب قواتها من الأراضي التي احتلتها، وكل ما أصدره كان قرارات تدعو إلى وقف اطلاق النار، وحتى هذه لم تستجب لها إسرائيل وقد احتلت الجولان السوري بعد صدور قرار بوقف النار وموافقة سورية عليه، ولم يصدر قرار عن مجلس الأمن يدعو إسرائيل إلى سحب قواتها من تلك الأراضي حتى تشرين الثاني نوفمبر 1967 القرار 242، أي بعد مضي خمسة أشهر على وقوع العدوان. وصدر قرار بنص غامض في ما يتعلق بالانسحاب ومن دون ان يحدد أي مهلة لموعد تنفيذه، فعلى رغم مرور خمسة أشهر على الاحتلال امتنع المجلس في قراره عن الدعوة إلى انسحاب إسرائيلي فوري وغير مشروط من الأراضي التي احتلتها، كما امتنع، وهذا هو الأهم، عن الإشارة إلى الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. وخلال تلك الأشهر باشرت إسرائيل عمليات ضم القدس والاستيطان في ما احتلته من أراض، ومع مرور الوقت زادت في اجراءاتها الهادفة إلى تهويد تلك الأراضي وزادت من وتيرة ادعاءاتها بأن ما قامت به عام 1967 لم يكن احتلالاً لأراض عربية بل تحريراً لأراض إسرائيلية، وخلال ذلك رفضت إسرائيل بداية الموافقة على القرار 242، وبعد ان وافقت عليه عام 1969 رفضت تنفيذه، وهي الآن إذ توافق على تنفيذه على المسارين السوري والفلسطيني، فإنها تريد تنفيذه جزئياً لا كلياً: توافق على انسحاب من أرض، وترفض الانسحاب من كل الأراضي، ساعية إلى الابقاء على بعض الأراضي تحت احتلالها بذريعة الاحتياجات الأمنية والاقتصادية أو الاستيطانية، حتى وإن على شكل استئجار لتلك الأراضي أو استثمار مشترك مع الدولة صاحبة تلك الأرض. لم تجعل إسرائيل السلام خياراً استراتيجياً لها بعد ولم تقرر ذلك بالتالي. في المقابل جعل العربي من السلام خياراً وبعضهم جعله قراراً استراتيجياً لم يحيدوا عنه منذ 1973 بعد أن اكتشفوا فوائد الاحتماء بالشرعية الدولية وقراراتها، وبعد ان اكتشفوا ان استعادتهم للأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 أمر ممكن عبر العمل الديبلوماسي المكثف طالما أنهم غير قادرين على استعادة تلك الأراضي بالقوة العسكرية، وطالما هم ممنوعون من ذلك كما اثبتت مجريات حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 والتدخل الأميركي فيها لصالح القوات الإسرائيلية. وتماشياً مع ذلك، كان للعرب مبادرات سلمية أقرت على مستوى القمة وكان العرب أكثر صدقاً وجدية في تعاملهم مع المبادرات الدولية للسلام، بما في ذلك مبادرة السلام الأميركية التي عقد على أساسها مؤتمر مدريد 1991، على رغم ما كان لهم عليها من ملاحظات وانتقادات، وعلى رغم احساسهم ان تلك المبادرة لا تلبي كل متطلباتهم، وبناء على ذلك كانت مفاوضاتهم مع إسرائيل وحرصهم على استئنافها كلما توقفت أو تعرقلت أو تعثرت أو تأجلت بسبب سياسة إسرائيل وساستها، وأكد العرب طوال ذلك الوقت المديد استعجالهم التوصل إلى سلام عادل وشامل ودائم يعيد لهم الأرض والحقوق المغتصبة، بينما أكدت إسرائيل حرصها على استبطاء السلام إلى أطول زمن ممكن وقدمت من البراهين على المسارين السوري والفلسطيني ما يؤكد استمرارها في هذا الاستبطاء، وما يؤكد استمرارها في الرهان على ابقاء الاحتلال وامنياتها بأن تصطاد يوماً تتمكن فيه من التخلص من براثن السلام ومتطلباته منذ أقر العرب السلام العادل والشامل وسيلة لاستعادة أرضهم وحقوقهم لم تنظر إسرائيل إلى السلام المنشود عربياً إلا بوصفه هدفاً عربياً يستعيد فيه العرب أرضهم منها، ويعيدون من خلاله إسرائيل إلى الحجم الذي كانت عليه قبل حزيران يونيو 1967، وهو ما ترفضه إسرائيل وتحاول الهرب منه. لقد أكد الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد بعد أدائه اليمين الدستورية بوضوح تام ان سورية تستعجل تحقيق السلام لأنه خيار الشعب السوري لاستعادة أرضه المحتلة، وهو السلام الموصوف بالعادل والشامل الذي يعيد كامل الأرض المحتلة من قبل إسرائيل في حزيران 1967 من دون أي مس بالسيادة أو الكرامة السورية. وجاء هذا التأكيد ليضع من جديد النقاط على الحروف بالنسبة لموقف سورية من السلام المنشود وليبيّن ان سورية بقدر ما تستعجل السلام العادل والشامل، فإنها تستبطئ بل ترفض أي سلام آخر، فاستعجال سورية للسلام لا يعني استعداداً سورياً للتفريط بشبر أو ذرة من تراب الجولان المحتل أو التفريط بشيء من مقومات وأسس السيادة والكرامة الوطنية، ولا يعني هذا الاستعجال من قريب أو بعيد خوفاً سورياً من الزمن المقبل، فإن تأخر هذا السلام لن يعني كارثة أو يأساً أو استسلاماً، وبقدر ما هو السلام خيار لنا اليوم وغداً وبعد غد، فإن الاستسلام والتسليم بشروط المحتل مرفوض اليوم وغداً وبعد غد. * كاتب فلسطيني، دمشق