يتصدى بعض العرب في كفاحهم الشفوي لمعضلة حقوق الإنسان، بإثارة علاقة المفهوم بالهيمنة اليهودية على العالم، وكونه سلاحاً خفياً للقوى المتربصة بالعرب والإسلام. ويتردد هذا القول في القاعات المغلقة للنقاش أو الدعوة أو الدعاية المضادة، ويعلو صداه أكثر في فترات الإحساس بالقوة أو فوضى الدفاع عن النفس. بدايةً، ليست علاقة تاريخ المسألة باليهود محض خيال ووهم ودعاية متأخرة المضامين وحسب، بل هي حقيقة وواقع. فعلى رغم تاريخ حقوق الإنسان الطويل والمعقّد، إلا أن الثابت كونها لم تتوطن على الأرض وتصبح من دعائم النظام العالمي إلا بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال تجربة صعود الرايخ الثالث وانهياره، والتجربة التي مرت بها المانيا وأوروبا. والجانب المعنيّ هنا هو تسلط القوانين والأنظمة التي تسمح أو تتغاضى عن التوقيف والتفتيش الاعتباطي، ونزع الملكية والسخرة والتهجير والإعدام، والتمييز على أساس العرق والدين والجنس، وما الى ذلك. وهذا ما أثاره الموقف من اليهود والأقليات الأخرى، اضافة الى مجموع سكان أوروبا وخصوصاً في وسطها وشرقها المختلفين عن غربها. وحقوق الإنسان إذاً، إضافةً الى النظرية النسبية والتحليل النفسي وأشياء متنوعة أخرى، ذات علاقة ما باليهود، والليبرالية الغربية والاتكاء على التوراة في بعض أقسام البروتستانتية التي هي من الإصلاح الديني" الذي يرتبط اقلاع النهضة الأوروبية الحديثة به" جميعها تمرّ على اليهود واليهودية. فما العمل؟! هل يضمر بعضنا ما يعلن بعضنا الآخر، لنعادي العصر كلّه ونلجأ الى منعزلات التاريخ أو الجغرافيا ونستقيل - من ثمّ - من العالم الراهن بانتظار خلاصٍ مقبل؟! أم نعالج الكره والنفاق والمسكّنات والمخدرات بالعلم ومواجهة الوقائع والمهام الملحة والأعداء المباشرين، ونمشي؟! وحقوق الإنسان هي الموضوع الذي يتعرض لأكبر مقدار من الهجوم المنظم وغير المنظم، على أيدي الحاكمين - وهذا مفهوم - والفئات السائدة، وعلى أيدي الثائرين من أجل الهويّة، لا الباحثين الحقيقيين عن حلّ إشكالها. وفي بعض أشكال تجلّي المسألة، يبدو التشبث بالهوية دفاعاً عن النفس من قبل الحكّام والمحكومين كلٍّ لغايته المختلفة، أمام هجمة العولمة التي في أسلحتها حقوق الإنسان. أساساً، لم تعانِ حقوق الإنسان لدينا وحدنا، وعاشت على موائد اللئام في الغرب قبلنا. فمنذ طُرحت في القرن الثامن عشر، واجهت هجوماً مضاداً فلسفياً وسياسياً مزدوجاً: من اليسار واليمين. وقد اعتُبرت من أحلاف الأرثوذكسية الدينية، وأُخذت عليها الصفات "المطلقة" التي تتحدث عن "أبديتها" و"ثباتها الذي لا يتحوّل" وغير ذلك. في انكلترا - مثلاً - اتفق المفكران المحافظان إدموند بيرك وديفيد هيوم على ادانتها بسبب الخطر الذي تشكّله على تقسيم العمل الاجتماعي، وشرح بيرك كيف أن أنصار "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن" ينشرون "خيالاً متوحشاً" حول المساواة التي لا تخدم إلاّ في خلق الأفكار الزائفة والآمال الجوفاء "في أذهان أناسٍ تسوقهم أقدارهم في طريق الحياة الكادحة الغامض". في حين أدانها الليبرالي بنتام - وهو ملحد ومن روّاد "النفعية" - لأن الحقوق من نسل القانون "فمن القانون الواقعي تأتي الحقوق الواقعية، ومن القوانين المتخيلة كقانون الطبيعة، تأتي الحقوق الطبيعية". وقد وافق هيوم مع بنتام على أن القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية تعبير عن "ظاهرة ميتافزيقية غير واقعية". كما توافق جون ستيورات مل مع بنتام، على رغم دفاعه عن الحرية، في كون الحقوق لا تتأسس إلاّ على الفائدة والنفع. وأكد الألماني سافيني والإنكليزي هنري مين وغيرهما أن "الحقوق تابعة لمتغيرات البيئة الخاصة بكل مجتمع".وهذا كلّه سابق لانتصار حقوق الإنسان نهائياً في الربع الثاني من القرن الماضي، وليس قبل ذلك. ذلك الانتصار الذي بدأ تاريخه بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول ديسمبر من عام 1948. في البلاد العربية، وعلى أساس أننا نهيم بالهجوم كخير وسيلةٍ للدفاع، نؤكد أن حقوق الإنسان هذه بدعة واختراق غربي لخصوصيتنا وتقاليدنا وعاداتنا العربية والإسلامية، أو نلتف على الموضوع في استفادةٍ من كون هذه الحقوق أصيلةً في تراثنا وموروثنا منذ فجر الإسلام، بل ويزيد البعض العودة عمقاً حتى أيام الجاهلية وحلف الفضول وغير ذلك. وجميلٌ ومفيدٌ هذا الحديث على الوجهين المذكورين، لو انتهى أيضاً الى حيث انتهت شعوب الأرض الأخرى، ولم يُضمر بحقوق الإنسان شرّاً أو منها هروباً. وكما ورد أعلاه، هوجمت - لديهم - حقوق الإنسان لأنها ارتبطت بالأفكار الدينية في بداياتها، وهوجمت في ما بعد انطلاقاً من اعتبارات البيئة والتاريخ والثقافة الخاصة في كل مجتمع. لدينا، يتمّ دفعها بعيداً اعتماداً على فهمٍ محدودٍ - وخاطىءٍ حتماً - لأصول الدين أحياناً وعلى عكس ما جرى في الغرب، واعتماداً على شمائلنا وحضارتنا المختلفة وتركيبة شعوبنا المتميزة دائماً. وحين يكون الأمر بين أيدي حماة الأنظمة الإيديولوجيين يرتفع الحديث حتى قضية "الهويّة" وإشكالاتها والأخطار المحدقة بها. وفي النضال ضدّ حقوق الإنسان، تدخل موضوعة العولمة أيضاً في عجينة كبح التقدم ومقاومته، كما يحسبون في تخلّف أدواتهم وارتجالهم واهتمامهم بالتأجيل من يوم الى يوم. جاءت العولمة بجانبها الوحشي الذي لا ينتظر على المتأخرين والكسالى مجتمعات وسلطات أو نخباً. ولم ينتبهوا الى كون العولمة في بعض معالمها قد انسابت ولا رادّ لها. لا ينفي هذا احتمال التغيير في استقطاباتها أو لجم بعض جوانبها العاتية، ولا ينفيه أيضاً إطفاء النور في الغرفة، كما فعل جحا حين أراد أكل التفاحة التي نخرتها الدودة. وقد سبقت حقوق الإنسان الإمبريالية ذاتها في مضمار العولمة، وعاشت أجيالاً ثلاثة في تاريخها حتى الآن، وهي جاهزة حالياً للجيل الرابع... وما زالت عندنا على تخوم التحول من طور الجنين الى طور الخديج. كان الجيل الأول انتصاراً للفرد في مواجهة عسف السلطة السياسية، وانتصاراً لأفكار هوبز ولوك على دولة هيغل، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتحت ظلال الثورات الإنكليزية والأميركية والفرنسية. وفيه اعتُبرت الحرية درعاً يحمي الفرد ضدّ جور السلطة، وكانت حقوق الإنسان في طورها "السلبي"، أي التحرّر من كذا وكذا، وليس "الإيجابي" أي الحق في كذا وكذا. وحقوق هذا الجيل مضمونة في غالبية دساتير العالم، وليست مضمونة في بلادنا وبلاد الخلق من أمثالنا، إما لأن الدساتير مجرد زينة لا تُطبق، أو لأن قوانين الطوارِىء تخيّم على العلاقة ما بين السلطات والشعوب. والجيل الثاني يجدُ أساسه في دعوات الاشتراكيين وخصوصاً السان - سيمونيين منذ أوائل القرن التاسع عشر، وتطور مع الحركات العمالية وردود أفعالها على الرأسمالية وموقفها من الأفراد والطبقات التي تبيعها قوة عملها، إهمالاً واحتقاراً واستغلالاً بشعاً. ولذلك تميز هذا الجيل بالتحول الى الإيجابية المشار اليها، والى الحقوق المتعلقة بالمساواة الاجتماعية، مثل الضمان الاجتماعي والحماية من البطالة والحق في الراحة وأوقات الفراغ والحماية الصحية والتعليم وحماية الملكية العلمية والأدبية والفنية وغير ذلك. وتطوّر الجيل الثاني بطيئاً في "عولمته"، حتى جاء الجيل الثالث، وعبّر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 عن مضمون هذا الجيل. وكانت ستّة من عناصر هذا الجيل مرآة للجديد في مضمونه، تعكس الثلاثة الأولى منها صعود قوميات العالم الثالث، وما تتطلّبه من اعادة توزيع للسلطة والثروة العالميتين، والحق بالاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي والحق بالتنمية الشاملة، وبالمشاركة في الإرث العام للبشرية. والثلاثة الأخرى تتعلق بالسلام والبيئة والصحة والكوارث، ممّا يعيد مفهوم الدولة القومية الى فضاء العولمة في مناحيه الإنسانية. فمن الفرد الى القومية الى العولمة، تنزلق حقوق الإنسان من دون أن تتعرض للدوس والغياب. في حين تثق سلطات العالم الثالث بقدراتها البهلوانية، واللعب على اضافات الأجيال المذكرة بتحويلها الى "صراع أجيال" وصراع شعوب، فتطالب بحقّ الأمّة اعتراضاً على حقوق الأفراد، او تطالب بحقوق الطبقات اعتراضاً على حقوق الأمّة، وتستنكر حقّ الفرد الذي ينبغي ان يذوب في حقوق الأمة والكادحين جميعهم... إلخ. فالديموقراطية وحقوق الانسان حالياً جزء من ترسانة العولمة التي تهاجمنا برأسٍ واحدةٍ وأسلحةٍ كثيرةٍ، وهذا يجعل من المسألتين فضيحةً لمن ينادي بهما في بعض العالم الثالث، ولدى بعض المدافعين عن ضرورة الإبقاء على القمع والكبح واللجم في البلدان العربية. والاميركيون يجعلون من هذه المطالبة البسيطة والملّحة لعبة انتقائية لهم، يستعملونها متى شاؤوا ويهملونها متى شاؤوا، فهم الأكثر نفاقاً والأكثر مسؤوليةً عن فائض الاستبداد والتأخر في العالم الذي يدعون الى عولمته. مسؤوليتنا نحن معرفة حصّتنا من نتائج العولمة، وهي الديموقراطية وحقوق الانسان والتقدّم العلمي ومنافع الاتّصالات الحديثة والتحدّيات الاقتصادية المحرِّضة على النهوض وغير ذلك، كما هي مسؤوليتنا كبح جماح هذه العولمة عمّا يضرّنا ويجعل منّا نهباً لسادتها. وهكذا العولمة والهويّة، مثل الصراع العربي - الاسرائيلي، مثل نموذج الصراع الطبقي لدينا - سابقاً -، مثل المصلحة بالاستقرار، كلّها أدوات في لعبة استمرار السلطة وإهمال ما ينفع الناس. الحديث عن تلوث الهواء شيء، وعن ضرورة التنفّس شيء آخر. * كاتب سوري.