لا يمكن اختزال الصراعات الموسومة بالإثنية في أرجاء العالم أو تأويلها الى أصل واحد أو سبب واحد أو علة واحدة. فالعوامل التي أدت الى اشتعالها تختلف باختلاف كل صراع منها. إلا أنه قد تجوز الاشارة الى عامل تأجيج لها هو العولمة نفسها التي يطرحها العديد من أنصارها نقيضاً للعصبيات الإثنية وعلاجاً لآفاتها. وقد لا تنحصر مسؤولية العولمة باستفزازها ردات فعل متزمتة معادية لها، بل قد تكون العولمة نفسها، بالصيغة التي يجري تداولها اليوم، تحمل في طياتها بذور "الأثننة". الكلام عن الإثنيات والانتماء الإثني حديث نسبياً في الخطاب السياسي العربي، بل والعالمي. وعلى الرغم من حداثة التسمية، فإن المسمى هو في جوهره الشعور القومي والعصبية القومية لا غير الأصل اليوناني ethnos يعني القوم أو الأمة. إلا أن مصطلح "القومية" قد جرى استهلاكه، وربما إهلاكه، في الأدبيات السياسية العربية عبر اضفاء طابع توصيفي تقويمي عليه. فالشعور القومي، بناء على هذا الطابع، هو رغبة سياسية بتجاوز خطأ الأمر الواقع لتحقيق هدف تصحيحي يعيد الأمة الى حالة صائبة سابقة أو يسير بها الى صواب عتيد. بل كادت القومية في الخطاب العربي أن تكافئ الوحدوية، أي الوحدة الاندماجية الشمولية النافية لتفاوت الخلفيات التاريخية ولتباين الوقائع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أما "الإثنية" فهي مصطلح أكاديمي لم يتم استيعابه بعد؟ في الخطاب السياسي العربي، ويشير الى الانتماء الجماعي بطابع وصفي تقييمي وحسب، على النقيض من التوصيف والسعي الى التقويم في مصطلح القومية. فانطلاقاً من هذا التعريف، يفترض مصطلح الإثنية الحياد والموضوعية في وصف الهوية الثقافية الجماعية للفئات المختلفة، أو على الأقل هذا ما يتمناه له أصحابه. وهكذا يجري الحديث، في ما يتعلق بكوسوفو مثلاً، عن "تطهير اثني" سيء أقدم عليه الصرب بالصيغة الجماعية وعن "حقوق اثنية" حسنة يستحقها الألبان. أما العولمة، فهي كذلك صيغة خطابية، حديثة يراد منها التأطير لتحقيق قدر متصاعد من الدمج والاندماج بين مختلف أرجاء العالم على مختلف الأصعدة، ولا سيما منها الاقتصاد والثقافة الشعبية. ورغم تعرض خطاب "العولمة" لقدر من الانتكاس نتيجة الأزمات التي شهدتها الاقتصادات الآسيوية والشرقية والأميركية الجنوبية في الأعوام القليلة الماضية، ونتيجة لتأخر بزوغ فجر الرخاء الموعود في أوروبا الشرقية وسائر مخلفات الهزيمة الشيوعية، فلا شك أن أشكال الاستهلاك المادية والمعنوية والتي تؤطرها العولمة هي اليوم حقيقة تترسخ. ويتبين ذلك للأفراد والجماعات والمجتمعات على حد سواء، عبر تضاعف سبل الاتصالات الاحادية الاتجاه مثل البث التلفزيوني الفضائي، والطباعة المتزامنة للدوريات في أماكن توزيعها والثنائية الاتجاه الفاكس، ثم الانترنت بشكل خاص، وانخفاض كلفة المكالمات الهاتفية الخارجية، كما يتبين عبر انتشار واسع النطاق للشركات المتعددة الجنسية ذات المنحى الاستهلاكي مثل المطاعم والمحلات التجارية. ويلاحظ أنه ثمة شبه اجماع في كافة أنحاء العالم ربما باستثناء افغانستان في ظل حكم حركة طالبان، وبعض المناطق المعزولة الأخرى بحكم الأوضاع الأمنية والاقتصادية، على القبول بالعولمة، من حيث المبدأ على الأقل، ومن حيث الشكل مع تحفظات طارئة على المضمون، ولا سيما في ما يتعلق بالترويج الحاصل حكماً للآراء الاجتماعية والسياسية والدينية غير المقيدة. غير أن تصاعد العولمة قد أثبت للعديد من الفئات المتضررة من مضمونها، والتي كانت تتمنى الاقتصار على أشكالها التقنية، أنه لا سبيل للفصل بين الشكل والمضمون، فكان لا بد للبعض منها من اللجوء الى اجراءات من شأنها الحد من الضرر، كالرقابة على الشبكات المعلوماتية مثلاً، أو رفض العولمة من حيث المبدأ، كما يتبين من الهجوم الذي شنته الصحافة العراقية التابعة للحكم في بغداد على الانترنت، متهمة إياه بأنه أداة في مؤامرة أميركية تهدف الى البلبلة الثقافية. وعلى الرغم من تداعي هذا الطرح المؤامراتي الذي يهمل خلفية نشوء الانترنت عبر تضافر جهود جامعية وأهلية وتجارية وحكومية، ويتجاهل النتائج المتناقضة للانترنت، من حيث تمكين الجماعات الهامشية الأميركية من استقطاب الأعضاء، بما يشكل ذلك من بلبلة ثقافية في الولاياتالمتحدة نفسها، على سبيل المثال، إلا أنه لا بد من الإقرار بأن العولمة حاصلة ليس في أعقاب تشاور واتفاق بين أفرقاء المجتمع الدولي، بل نتيجة نجاح الغرب عامة، والولاياتالمتحدة تحديداً، في الارتقاء من وضع اقتصادي اجتماعي يغلب عليه التصنيع والانتاج، الى آخر يتميز بالتصميم والاشراف، أو وفق تعبير ألفن توفلر الى مجتمع "الموجة الثالثة". فإذا تم التسليم بهذا الدور الطليعي والرئيسي للولايات المتحدة، ومن ثم بأن للثقافة الاجتماعية الأميركية اليوم، عبر مختلف قنوات الاستهلاك الحضاري، ولا سيما منها قطاعات الإعلام والترفيه والتقنيات المعلوماتية، ثقلاً نافذاً على الأشكال الثقافية المتداولة في مختلف أرجاء العالم، تتضح أهمية المعالجة النقدية للخطاب الثقافي الأميركي، لا بهدف نقضه، بل لتبين مدى وجوب التحفظ عن صفة المعيارية أو الاطلاقية المنسوبة ضمناً إليه تحت شعار التطور والعولمة. وتأتي صفة المعيارية الملازمة للثقافة الاجتماعية الأميركية نتيجة كثافتها وانتشارها العالمي، فلا يكاد الاعتراض عليها في أوساط النخب الاجتماعية وفي ما يتعداها في أنحاء العالم أن يتعدى الطابع التلطيفي، أو الاعتذار للعوائق المحلية التي تجعل اعتناق هذه الثقافة متعذراً في الوقت الحالي. بل وفق المعطيات المتوفرة اليوم، وعلى الرغم من أن المستقبل قد يأتي أو لا يأتي بما توقعه صموئيل هانتنغتون من صراع حضارات، على الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية، فإنه قد يصح القول إن الغرب قد انتصر، وان مرحلياً، في ما يتعلق بالجانب الثقافي والتقني على الأقل. وفي حين أن العولمة هي بمثابة تكليل لهذا الانتصار، فإنه لا بد من الإقرار بأن الحضارة الغربية قد تمكنت في القرنين الماضيين من رصف مداميك تأثيرها ونفوذها في أرجاء العالم. وفي حين ينتفي طابع الحتمية التاريخية عن هذا الانتصار، فإن انكاره أو اعتباره نتيجة مؤامرة ما يجانبان الموضوعية في التعاطي معه. يذكر هنا أن هذا التحول الذي أدى الى تحقق نمط حضاري جديد يشهد معارضة ليس خارج الغرب وحسب، بل كذلك في صميمه. فكما أن طروحات الوطنية الاقتصادية مرشحة أن تبرز في كل موقع تتخلف فيه النخب السائدة عن استيعاب حقائق العولمة، فإن الدعوات الى تغليب "أميركا أولاً" في الولاياتالمتحدة تجسد الضيق الذي تشعر به الفئات المتضررة من انتقال التصنيع الى خارج البلاد، ولا سيما العمالية منها وأصحاب المؤسسات الصناعية الصغيرة والمتوسطة. ومن جانب النشاط المؤطر عقائدياً، لا شك أن التفجيرات التي أقدم عليها تيودور كيزينسكي ال"يونابومبر"، والتي استهدفت بعض العاملين في الحقول التقنية، كانت أبرز اعتراض على هذا التحول. وردات الفعل الناقدة للعولمة تتراوح من اتهامها بإنهاك الانتاجات الثقافية المحلية وتجاوز الاعتبارات الاجتماعية الخاصة بكل موقع، الى التركيز على دورها في مضاعفة النفوذ الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة، وهي وجهة النظر التي ينادي بها محرر "الموند ديبلوماتيك" اغناسيو راميه. غير أن أنصار العولمة يعتبرون في المقابل أنها تحتضن الثقافة المحلية ولا تنهكها، كما أنها جردت السلطات المحلية من قدرتها على اضطهاد الفئات الخاضعة لها مع التستر بخصوصياتها. فقضية صربيا وكوسوفو، رغم ما يشوبها من انتقائية وتخبط في الأسلوب، قد أرست المبدأ وحسب. وليس من التجاوز القول إن المبادئ التي وضعت قيد التطبيق في كوسوفو هي مبادئ مشتقة من الخطاب الفكري الأميركي. إذن، فالتناقضات التي يتنطوي عليها هذا الخطاب مرشحة أن تتأصل في الثقافة المعولمة. وإذا كان ثمة داء عضال في الفكر الأميركي، فإن هذا الداء هو "الوعي" العرقي، أو وفق المصطلح الحديث، الإثني. فمفهوم الإثنية في الثقافة الأميركية هو مفهوم عضوي. أي ان الانتماء الإثني سمة ثابتة جديرة بأن يحافظ عليها. وهكذا، على سبيل المثال، تكثر الاعتراضات حين يتبنى زوجان من البيض طفلاً أسود في حين يكاد أن يكون من المستحيل لزوجين من السود أن يتبنيا طفلاً أبيض، بما يكشف ذلك عن تجذر التمييز العرقي في المجتمع الأميركي. فالثقافة الإثنية السوداء أو اليهودية أو الهيسبانية أو غيرها هي حق ملازم لمن يلد ضمنها. وغالباً ما يطرح مفهوم الإثنية وضرورة الحفاظ عليها على أنه بديل تصحيحي لوضع التمييز العرقي الذي يراد له أن يتلاشى من المجتمع الأميركي، دون الأخذ بعين الاعتبار أن الموقف العنصري والوعي الإثني ينطلقان من الأسس نفسها، رغم اختلاف النوايا. وهذا المفهوم العضوي لا يقتصر على التقييم السائد في الخطاب الفكري الأميركي للمجتمع في الولاياتالمتحدة. بل ان مراكز الدراسات الجامعية قد انتقلت في العقود الأخيرة من تركيز اهتمامها على حكومات الدول المختلفة الى المجتمعات فيها، ثم الى الإثنيات. ومع بروز التخصص، تجد كل إثنية في الباحثين المختصين بها أنصاراً ضمنيين ينادون بضرورة الحفاظ عليها. ولا يخفى أن أي اختزال للانتماء الثقافي يتضمن قدراً من التبسيط الذي يقارب الإجحاف أحياناً، سواء كان ذلك عبر إنكار الطبيعة غير الإفرادية للانتماء الإثني، إذ قد تتعدد أوجه الانتماء الثقافي والديني واللغوي للفرد والجماعة، ولكن الباحث يختار حكماً الوجه الذي يشكل موضوع بحثه، أو عبر المبالغة الاحتياطية في الطبيعة الصدامية لعلاقة الإثنية موضوع البحث بالفئات الأخرى في محيطها، مع ما يستتبع ذلك من نتائج قد تكون عكسية. وتعمل أجهزة الإعلام الأميركية، وهي ذاتها أجهزة الإعلام المعولمة، على تعميم هذا الحرص الانتقائي في أرجاء العالم. وبالاضافة الى الإعلام ومراكز الأبحاث، فإن مؤسسات العون غير الحكومية ومؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان غالباً ما تكتسب طابعاً موجهاً نحو إثنية ما، للتمكن من رصد أفضل للأموال التي تحتاج إليها. كما أنه لا يمكن اهمال واقع أن السياسة الخارجية الأميركية نفسها تنتقل تدريجاً الى عهدة جيل جديد من المسؤولين الذين نشأوا في أجواء الإثنيات العضوية وضرورة الحفاظ عليها. فمفهوم الإثنية الذي تروجه الثقافة الأميركية المعولمة ليس مفهوماً حيادياً، بل هو توصيفي بقدر ما هو مفهوم القومية في الخطاب السياسي العربي. ولكن في حين أن القومية "العربية" تعارض التطور الحاصل بالدعوة الى تبديل في اتجاه ما، فإن الإثنية "الأميركية" تعارض هذا التطور بالدعوة الى تجميد حال الأمس القريب. والنتيجة الطبيعية لهذا الموقف هو أن يتحول العالم الى حديقة إثنيات، وهذا هو المقصود بالأثننة. إذن، ومن دون اللجوء الى التهويل أو الى التبسيط المجحف، فإن العولمة تنطوي على خطر، إذ قد تكون الأثننة في العديد من الحالات هي المضمون، فتأتي عولمة مسمومة مبطنّة بالوعي العرقي والعنصري الذي يغذي الخلافات ويكون على النقيض من الهدف المرتقب من الحضارة العالمية الواحدة.