يعود الرئيس ياسر عرفات اليوم إلى غزة منتصراً على رغم فشل مفاوضات كامب ديفيد،انتصار عرفات يتلخص في أنه صمد في وجه الضغوط الإسرائيلية والأميركية، ولم يتراجع عن المطالب الفلسطينية الثلاثة: انسحاب إسرائيل من كل الأراضي التي احتلت في الرابع من حزيران يونيو 1967 عملاً بقرار مجلس الأمن الرقم 242، وفرض السيادة الفلسطينية الكاملة على القدسالشرقية بما في ذلك القدس القديمة التي تتركز فيها المواقع المقدسة للمسلمين والمسيحيين واليهود المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق، ثم حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم المحتل منذ العام 1948، حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194. وانتصار عرفات هنا انتصار مثلث الأضلاع، فهو أولاً انتصار على الخصم الإسرائيلي الذي ظن أن الخضوع الفلسطيني الكامل أصبح في متناول يده، ما دام قد أعلن استعداده للاعتراف بدولة فلسطينية من دون اعلان حدودها، وإذا به يفاجأ بثقل القضية الفلسطينية ينتصب كاملاً في وجهه. وهو ثانياً، انتصار على الرئيس الأميركي بيل كلينتون الذي ظن بأن الاغراء المالي، والاستعداد لدفع بلايين الدولارات، كفيل بأن يطوع صلابة عرفات، ويجعله ينسى المسجد الأقصى، وأساس القضية الفلسطينية المتمثل بعودة اللاجئين. وهو ثالثاً، انتصار على بعض الاجتهادات داخل الوفد الفلسطيني التي تركز دائماً على ما تسميه "الحلول العملية"، وتنتدب نفسها للتفكير بديلاً عن المفاوض الإسرائيلي، لتقول إن هذا سيكون مقبولاً منه وذاك غير مقبول، فتنحدر نحو المساومات حتى في القضايا الأساسية، وهو المنهج الذي رفضه عرفات، مصراً على ان الأساسيات هي حق فلسطيني في وجه معتدٍ إسرائيلي على هذا الحق، بحيث يستحيل، ولا يجوز البحث عن حلول وسط. وإذا كانت عودة عرفات إلى غزة أمس، هي عودة روتينية المظهر، إلا أن مغزاها الحقيقي أكبر من ذلك وأهم، فعرفات يعود اليوم إلى غزة صافياً نقياً، مُبرأً من الاتفاقات العرجاء التي مضى عهدها، ومن التنازلات المذلة التي كانت تريدها له واشنطن. إنه يعود إلى غزة "فلسطينياً"، فلسطينياً بشخصه، وفلسطينياً بموقفه، ولذلك فإن نكهة الاستقبال الشعبي له ستكون نكهة مختلفة، انها نكهة التحالف الوطني حول المبادئ التي لا تنازل عنها. وعرفات العائد إلى غزة منتصراً بصموده، سيواجه منذ لحظة وصوله الأولى معركة مفتوحة، معركة مع إسرائيل التي ستسعى إلى تحجيمه، ومعركة مع الولاياتالمتحدة التي ستعمل لتجعله يدفع ثمن رفضه لاقتراحاتها الإسرائيلية، وهي معارك تستدعي منه ان يجعل من قضية التحالف الوطني الفلسطيني شغله الشاغل في الأسابيع المقبلة. فالمعركة ستكون شرسة، تختلف عن كل ما سبقها من معارك، ولن يمكن خوضها بنجاح إلا على قاعدة التحالف الوطني العميق والواسع. تحالف مع الشارع، وتحالف مع القوى الاجتماعية، وتحالف مع أبناء المخيمات، وتحالف مع الفصائل. تحالف مع المؤيدين وتحالف مع المعارضين، ومع كل ما يستدعيه ذلك من سياسات جديدة، لعل أبرزها الافراج عن جميع المعتقلين، وكف يد أجهزة الأمن عن الناس، ووقف التعاون الأمني مع إسرائيل. وهذا كله ممكن، لأن عرفات "الصامد" لا يخشى خطراً يأتيه من شعبه.