قبل أعوام، وفي مستهل نقد لفيلم تدور أحداثه في البحر، عمد أحد الكتّاب العرب الى تخصيص مقدمة طويلة يتغنى فيها بالبحر ومواصفاته وما يثيره من شجون عاطفية أو يعكسه من رموز أساسية كالعمق والسرية والوفرة. المقدمة كانت طويلة الى درجة أن المرء يدهش، هل يصب الحديث كله في البحر، أم أنه يجد طريقه الى العودة الى بر الفيلم. الآن هناك أكثر من فيلم بحري، ما قد يراه الزميل دعوة جديدة الى بث عواطفه حيال البحر ومعانيه ورموزه، حتى لو أفاض في الشرح في ما لا يلزم. هناك "عاصفة عاتية" لوولفغانغ بيترسون الذي يدور على سفينة صيد تواجه عاصفة هوجاء في الجزء الشمالي من المحيط الأطلسي" و"الغواصة 571" لجوناثان مستو، وعلى الفيديو - من جديد - ولمناسبة مرور 25 سنة على إطلاقه، أول مرة، فيلم ستيفن سبيلبرغ Jaws، أو "الفك المفترس". قصة البحار العتيق "الفك المفترس" هو الفيلم الذي وضع سبيلبرغ على خارطة النجاح التجاري الكبير. قبله، كان حقق فيلمين محدودين في متطلباتهما الإنتاجية وطموحاتهما التجارية: "صراع" الذي كان أساساً إنتاجاً تلفزيونياً عرض سينمائياً خارج الولاياتالمتحدة، و"شوغر لاند أكسبرس"، كان "فيلم طريق" لا يختلف في تركيبته عن أفلام انتشرت في الستينات والسبعينات، بعضها أفضل منه. عام 1975 قدم سبيبلرغ "الفك المفترس" وفيه يجعل الغوص في الماء مخاطرة ذات عواقب وخيمة. هناك على مقربة من سواحل جزيرة صغيرة "أميتي آيلاند"، شرق أميركا يزور "قرش" ضخم الشاطئ باحثاً عن وجباته بين السابحين واللاهين من السياح. وبعد هجومين شرسين يقرر شريف البلدة الصغيرة دور لا ينسى لروي شايدر إغلاق الشاطئ حفاظاً على الأرواح. لكن محافظها يستاء من ذلك خصوصاً بعد اصطياد سمكة قرش اعتبرت مصدر المتاعب، فيقرر افتتاح الشاطئ من جديد. فالموسم صيف، وهو الموسم الاقتصادي الوحيد للمنطقة. لكن المشاهد يعلم أن السمكة المصطادة ليست المعنية. وشريف البلدة يعلم ذلك أيضاً، وتراه قلقاً وهو يقف على القمرة المرتفعة على الساحل ينظر الى البحر متأكداً من أن السمكة الشرسة ستعود، وهي لا تكذبه خبراً. فها هي ترجع، وفي غضون لحظات تلتهم وجبتها لذلك اليوم. الفيلم ينطلق في خط جديد، عندما يقرر الشريف وعالم محيطات اسمه هوبر رتشارد دريفوس وأكبرهم سناً هو كوينت الراحل روبرت شو صياد مجرب وبحار عتيق لديه خبرة في اصطياد القرش وكراهيته. يبحر الثلاثة على ظهر مركب الى وسط البحر وفي نيتهم إنجاز مهمة تبدو لمنع تابع الفيلم الى ذلك الحد، مستحيلة: قتل القرش الذي يبدو أنه أكبر حجماً من أي سمكة قرش في المحيط بأسره. ما يحدث بعد ذلك يمكن من لم يشاهد الفيلم بعد، اكتشافه على الفيديو، بنفسه. لكن سبيلبرغ وضع في ذلك الفيلم علامات سار عليها في أغلب إنتاجاته الكبيرة اللاحقة، وبينها معرفة سبل سرد قصة بأسلوب متحرك وتطويع تقنياته لخدمة ذلك السرد في المقام الأول من أجل تأسيس أعلى حد من التشويق وربط العمل بمختلف فئات الجمهور الباحث عن الترفيه. سبيلبرغ لم يستطع الخلاص من شروط موضوعية حاكها لنفسه حتى حين اتجه الى مواضيع أكثر جدية، وربما هذه حسنته الأكيدة: معرفته كيف يصوغ الموضوع، جاداً كان أم ترفيهياً، لخدمة متطلبات الجمهور. على أي حال، هو الصوغ الذي مكنه من التحول الى مخرج ذي وزن تجاري كبير. و"الفك المفترس" كان أولى خطواته الفعلية في ذلك الاتجاه. في القراءة الخلفية، كان "الفك المفترس" أيضاً بداية تحديد نظراته الى الشخصيات بحسب مراجعها أو تجاربه معها. والبارز في هذا المنحى معاملته شخصية كوينت، البحار المجرب الوحيد بين المجموعة. إنه "الرجل" الفعلي بين اثنين من صنع المدينة بما يشوبها من ملامح ضعف أو استكانة. هذا "الماتشو" لا يعرف سوى الماء والقرش والاعتماد على الذات. وسبيلبرغ يقرر قتله هو عنوة على رفيقيه. لا مجال في الحياة لأمثاله. وبعد ثمانية عشر عاماً عمد الى المفهوم نفسه في "جوراسيك بارك"، إذ قتل أكثر رجال الفيلم اعتزازاً بقدراته وحرفه القتالية والذكورية. وبينهما يمكن أن ننسج موقفاً مختلفاً في المشهد الذي يردي فيه انديانا جونز - المحارب الحديث - ذلك العربي الطويل ذا الرداء الأسود الذي يجيد اللعب بالسيف ويحركه في بهلوانية فائقة، في "غزاة تابوت العهد المفقود". رد انديانا جونز هاريسون فورد على ذلك المبارز أن سحب مسدسه وأطلق عليه رصاصة واحدة، بينما كان ذلك لا يزال يحرك السيف مثل كلام في الهواء. لكن ما أسسه سبيلبرغ أكثر من سواه في ذلك الفيلم هو الخوف من الماء ومن القرش، الى درجة ارتفاع نسبة قتل السمكة التي وجدت نفسها الضحية، لا الجلاد. شخوص عامة في "عاصفة عاتية" بعد 25 سنة، ها هو البحر يلعب على شاشاتنا من جديد. ليس لأن لم تكن هناك أفلام مائية أخرى، منذ ذلك الحين، بل لأن الفيلمين التاليين "عاصفة عاتية" و"الغواصة 751" هما الأحدث بينها وهما أيضاً مختلفان جداً. يسبر "عاصفة عاتية" غور البحار البعيدة. ولكن قبل ذلك هناك تقديم موجز للشخصيات التي ستصعد الى سفينة الصيد المسماة ب"أندريا غايل". في بلدة ساحلية شرقية صغيرة تعيش على الصيد وفيها حانة يلتقي فيها الصيادون وأقاربهم ومعارفهم، نتعرف الى بيلي جورج كلوني غير المرتبط بقصة عاطفية بعدما تركته زوجته، ربما لأن صيد السمك لديه كان أكثر أهمية من تمضية وقت كاف معها. وهناك بوبي مارك وولبرغ الواقع في حب المرأة المطلقة كريستين دايان لين، ومورفي جون س. رايلي الذي طلقته زوجته أيضاً وهو لا يزال يحبها، وسولي ويليام فيتشنر وهو مغامر يكن لمورفي حقداً قديماً، والجامايكي ألفرد الن باين الذي يمضي وقته الثمين على البر مع حبيبته، والذي يبحث عن الحب في الحانات. ثم بغزي جون هوكس الذي يبحث عن حبيبة. والليلة التي يلتقيها هي الأخيرة له على اليابسة، وهي تعاوده صباحاً ويصعد الى الباخرة لتمنحه شيئاً من الأمل بأنها ستكون في انتظاره حين يعود. هذا التمهيد لا يقول الكثير عن أي من هذه الشخصيات. وليس لدى الفيلم الواقع في ساعتين وعشر دقائق وقت إضافي يصرفه على تعريف أكثر تعمقاً وكشفاً. لذلك تبقى تلك الشخصيات رسوماً عامة لدى كل منها الحد الأدنى من التمييز عن الأخرى. دوافع بيلي مفهومة: آخر رحلة صيد له عادت بأقل من المرجو من الصيد. هذه المرة يريد أن يذهب الى البعيد. وحين يصل إليه لا يجد الصيد وافراً أيضاً ما يستدعي ذهابه الى أبعد منطقة شمالية عالية معروفة بسمكها. ومن المفارقة أن هناك سمكة قرش واحدة في الفيلم تحاول قضم قدم وولبرغ الذي ينجو بأعجوبة، لكنها تموت حين يطلق بيلي عليها رصاصة الرحمة بعدما جرها الى ظهر السفينة. خلال كل ذلك، وبينما كان الجميع مشغولاً بالعمل على ملء الخزانات الثلجية بالأسماك، كانت عاصفة يسمونها "تامة" لأنها تحوي كل العناصر المؤلفة لها وعلى درجة قصوى تتجمع جنوب السفينة، أي بينها وبين اليابسة في طريق عودة السفينة الى مرفئها. وتحاول قائدة سفينة صيد أخرى أعقل من بيلي ماري اليزابيث ماستر أنطونيو تحذير زميلها من مغبة الرجوع، لكن الخوف على مصير السمك، إذا ما فسد، يدفع بيلي ومجموعته الى ولوج المغامرة من دون هضم حجم العاصفة التي تجتاح المنطقة. وينتقل الفيلم، في خط ثان، الى ثلاثة بحارة مدنيين في يخت حديث وجدوا أنفسهم أيضاً في اليم الثائر. وكيف تحاول مروحية للقوات الجوية إنقاذهم في ظروف مستحيلة. لاحقاً تسقط المروحية في الماء ويصير لزاماً على القوات الجوية إرسال أخرى للبحث عنها، وباخرة ساحلية لإنقاذ الملاحين عليها. يقطع الفيلم بين هذا الخط والخط الأساسي في "تكتيك" إخراجي سليم. لكن الساعة الأخيرة المملوءة بالماء تصيب المشاهد بحال من الاستسلام. ليس هناك الكثير مما يمكنه أن يتطور بغية ربط شخصيات يبقى المشاهد حيادياً حيالها. وفي فيلم يعلم المشاهدون أن لا شيء مما يدور فيه حقيقياً، بل هو من نسيج المؤثرات الخاصة المصنوعة على الكومبيوتر بإتقان رائع لولا بعض الهنات الطفيفة، فإن الوسيلة الوحيدة لمتابعته مجرد فتح العين على الأحداث وترك القلب كما العقل في مكانيهما. وليس هناك الكثير مما يمكن السيناريو كتبه بيل ويتليف عن كتاب يرصد قصة واقعية حدثت في عام 1991 اضافته، إذ تدهم العاصفة صفحاته، قبل أن يستكمل المرحلة الأولى والأساسية، وهي تأسيس شخصيات يمكن التعاطف معها تعاطفاً فعلياً، ولديها دورة كاملة من التطور النفسي يجعلها أكثر من مجرد شخوص متحركة. في معظم تلك الساعة الأخيرة يضمحل دور الحوار إذا سمعته ويبدو كما لو كان لا يزيد على بضعة أسطر تنتقل من صفحة الى أخرى لأنها الوحيدة الملائمة لهذه المناسبة. حوار من نوع: استدر يميناً، امسك عجلة القيادة... آه... آه... هل أنت بخير... أنظر الى هناك... توتر في عمق الماء لكن "الغواصة 571" المأخوذ أيضاً عن قصة واقعية هو فيلم مختلف فعلاً. إضافة لاحقة الى أفلام الحرب العالمية الثانية التي تدور أحداثها في الغواصات. هل تذكر تلك الأفلام التي نسمع فيها صوت الغواصة ذات الصفرة المكبوتة الخاصة؟ تلك التي سمعناها في "العدو السفلي" و"أبحر بصمت، أبحر بعمق" و"مياه معادية"؟ "الغواصة 571" ينتمي بذكاء الى هذه النوعية الخاصة وإلى أجوائها الضيقة التي قد تجعلك تشعر بصعوبة التنفس. جون مستو، الذي نال علامات استحسان من النقاد عبر فيلمه الأول "عطل" قبل ثلاث سنوات، ينجز المهمة المسندة إليه جيداً. هذه قصة ذات أجواء تقليدية وعودة محافظة الى قصص الحرب العالمية الثانية الدائرة في غواصة تبحث عن ملجأ هرباً من العدو. وهي أن القيادة الأميركية قررت القيام بمغامرة خطرة. عليها أن تحتل متن غواصة ألمانية لتفهم الشيفرة التي تستخدمها القوات البحرية الألمانية، بعدما ارتفعت نسبة إصاباتها المباشرة لقوات الحلفاء البحرية. إلى هذه الغاية ينطلق لفيف من البحارة يتقدمهم ضابط شاب اسمه اندرو ماثيو ماكوهوني وبينهم مسؤول تقني اسمه كلوغ هارفي كايتل في ظهور نادر خارج سرب أفلامه المستقلة والصغيرة. بعد حين يحتلون الغواصة المطلوبة ويغوصون بها الى أعماق البحر هرباً من مطاردة البواخر الألمانية، وعلى رغم أن الكلمات قد تعكس وضعاً غير واقعي، إلا أن القصة واقعية حدثت مع القوات البحرية البريطانية لا الأميركية ما استدعى هجوم الإعلام البريطاني على سرقة بطولات قواتهم والمخرج يجهد في سبيل تحويلها مجرد مغامرة هوليوودية أخرى. في سبيل ذلك، يقدم شخصيات واقعية وقائداً لديه نقاط ضعف محددة، ومعالجة قديمة تنتمي الى سينما الأربعينات والخمسينات، لا الى سينما اليوم. هذا جهد في مكانه لأن آخرين ربما دمجوا الشكل القديم لغواصات الأمس بالمعالجة الجديدة لما هو بطولي ليقدموا شيئاً لا يقبله المنطق. الفيلم يحمل في كيانه المحدود، قدرة فائقة على توفير نقاط توتر قد لا يحملها "عاصفة عاتية"، ليس فقط لأن الشخصيات في "غواصة 751" أنجح في تعاملها درامياً مع المشاهدين، بل أيضاً لأن المشاهد التي يرتكز إليها المخرج لإثارة هذا التوتر منتفية من حالات الإبهار التي تصاحب الفيلم الآخر. المشهد الأكثر فاعلية في هذا الاتجاه هو ذلك الذي يصور إلقاء باخرة حربية ألمانية تلك القنابل المائية على شكل براميل كبيرة فوق الغواصة التي لا تستطيع الفكاك منها. وهذه القنابل شاهدنا مثيلاً لها واقعياً في أفلام الأمس تغوص أفقياً في الماء وتنفجر بعد مساسها بالغواصة أو قريباً منها. وبالانتقال المتقاطع بين من في الغواصة مثل مجموعة جرذان خائفة وتلك القنابل الممطرة، يؤلف مستو تشويقاً فاعلاً بأقل الإمكانات التقنية وأبسطها.