دعيت إلى المشاركة في ندوة فكرية اقيمت بهولندا تحت عنوان "الآخر وفكر الاختلاف". وقد كانت الندوة بالفعل فضاء للاختلاف بأكثر من معنى! اختلاف المدعوين أولاً، وتنوع مشاربهم وأوطانهم وجنسياتهم، واختلاف اللغات التي ألقيت بها العروض، واختلاف وجهات النظر المعروضة بطبيعة الحال. غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد. فقد كانت الندوة بالنسبة إليّ، تجربة اختلاف عميقة، أو على الأصح "صدمة" اختلاف لا تخلو من مرارة. ترددت كثيراً في اختيار الموضوع. ما خطر ببالي أول الأمر، هو ان استدعائي كان ولا شك، قصد تنويع التجارب المعروضة في الندوة، والحديث عن تجربة الآخر من خلال منظور عربي إسلامي ثالثي عاش تجربة الاستعمار والاحتكاك بالآخر الأجنبي، ويعيش تجربة التخلف ومحاولات التحديث... إلا أنني فضلت تناول موضوع نظري صرف كان يشغلني وقتئذ يتعلق بما آل إليه مفهوم الايديولوجيا عن مفكري الاختلاف. ترددت كثيراً قبل الحسم في المسألة. وقلت في نفسي إنهم ليسوا في حاجة إلى مثلي ليحدثهم عن قضايا نظرية، فهم معلمونا في هذا المجال. لكنني بررت المسألة بكوني سأتناول الموضوع بشكل تركيبي اربط فيه بين اسماء مفكرين غربيين ما عهدنا الربط بينهم. خالجني بعض الاطمئنان عند بداية الندوة عندما تبينت أن الجميع تقريباً، يتحدث عن الفكر الفرنسي المعاصر. صحيح ان المساهمين الألمان كانوا يوظفون تراثهم الفلسفي فيتحدثون عن كنط وهيغل ونيتشه وهايدغر، إلا أنهم كانوا يعرجون عليهم عبر فوكو ولاكان ودولوز ودريدا. والغريب أن فرنسا نفسها لم تكن ممثلة في الندوة إلا من طرف فلاسفة ذوي أصل غير فرنسي. وإن كانوا يدرسون بفرنسا ويكتبون بلغة البلد. أحدهم ذو أصل اغريقي والآخر من أوروبا الشرقية. الجميع، إذن، حتى أهل الدار من المشاركين الهولنديين، كان يتحدث عن فكر آخر، وبالتحديد الفكر الفرنسي، ولم يكن يشذ عن هذه القاعدة إلا أحد المساهمين الافارقة الذي كان يدرس بإحدى الجامعات الألمانية، والذي فضل أن يتحدث عما دعاه "تاريخ الفلسفة الافريقية". ما أثار انتباهي - وربما قليلاً من الغيرة - هو الاهتمام الشديد الذي ناله العرض الذي قدمه، والنقاش المهم الذي عقب العرض خصوصاً في النقطة التي تحدث فيها صاحبه عن فعل الكوْن في بعض اللهجات الافريقية. عكس ذلك تماماً ما لقيه العرض الذي قدمته. فما عدا ملاحظة الفيلسوف الفرنسي - الاغريقي الذي أثنى على قدرتي التركيبية خلال العرض، أشعرني الجميع بأن ما تناولته ليس هو ما كان منتظراً مني. فكأنني دخلت في ما لا يعنيني. أو على الأقل: كان من الأفضل أن أطرق قضية "الآخر والاختلاف" في سياق التراث العربي - الإسلامي. اعترف بأنني ملت أنا أيضاً إلى مؤاخذة نفسي. لكنني كنت أرفض في الوقت ذاته أن أكون خلال الندوة مجرد عيّنة. غير ان ما لم استطع فهمه جيداً الانزعاج الذي خلفه العرض الذي قدمته لدى البعض. ولم يكن مصدر ذلك الانزعاج مضمون الأفكار أو منهج العرض، وإنما اختيار الموضوع. لقد قبل جمهور المشاركين الاستماع إلى المرجعية الفكرية ذاتها من فم فيلسوف اغريقي يتكلم الفرنسية، لكنه لم يكن ليعطيني أنا الحق نفسه. ذنبي هو انني لم احترم "المهمة" التي انيطت بها، وهي أن "أمثل" خصوصية وربما كل القضية انني لم أميّز بين خصوصية وخصوصية. هناك خصوصية تمتزج بالكونية، صاحبها يتكلم باسم الجميع عندما يتحدث عن نفسه، ثم هناك خصوصية خاصة لا يمكن ان ترقى إلى مستوى الكونية. فأنا عندما "تجاوزت الحدود المرسومة" ولم اكتف "بتمثيل" عيّنة، وعرض قضايا تاريخية تراثية، والحديث عن المشكل المطروح "كما قد يكون عرفه الفكر العربي - الإسلامي أيام عزه" فتجرأت على الخوض في الفكر المعاصر، وطرق قضايا نظرية، ومناقشة مفاهيم مجردة، عندما سمحت لنفسي بكل هذا، فقد اقتحمت أبواب الكونية. فالمجرد والنظري والمعارص يجعلني في مستوى الشمولية ويضعني نداً لندّ مع من يستمعون إليّ. وهذا عين المحظور. ذنبي إذن، وبالضبط في هذه الندوة التي تطرق مسألة "الآخر وفكر الاختلاف" والتي تتم على أرض هولندا، هو أنني تناسيت ان خصوصيتي ليست كخصوصية زميلي الاغريقي، هو يدخل في دائرة الآخر الصغير، أما أنا ففي دائرة الآخر الأكبر. كان الأوْلى بيّ أن أنحو منحى زميلي الافريقي، وأن أتحدث عما هو "غريب عجيب"، فأعرض مسألة الآخر في التجارب "الأخرى".