ترتبط اشكاليات دستور الانقاذ في السودان بمختلف الموضوعات الأخرى، وخصوصاً العلاقات الخارجية. المبدأ الأساسي في العلاقات الخارجية هو أن توظف نفسها لخدمة الاستراتيجية القومية الشاملة التي تحدد خطوطها مصالح البلاد الوطنية العليا، مثال المياه التي تتدفق علينا من دول الجوار القرن الافريقي و افريقيا الاستوائية السواحلية كينيا، أوغندا والكونغو، ومثال أمن الحدود المشتركة مع تسع من دول الجوار المحيطة، ومثال التنمية الاقتصادية التي تربطنا بالاقتصاد العالمي، ومثال التأهيل العلمي التكنولوجي الذي يربطنا بالسقف العلمي للتطور. وهناك آفاق عدة في اطار العولمة الراهنة. مهمة السياسة الخارجية ان توظف نفسها في هذا الاطار الاستراتيجي الوطني، غير أن سياستنا الخارجية وضعت أمامها استراتيجية نقيضة تحت دعاوى المشروع الاسلامي الحضاري العالمي، ولا اعتراض لدينا على المشروع بوصفه اسلامياً وحضارياً وعالمياً. فنحن نؤمن بكونية القرآن وعالمية الاسلام، ونؤمن بالتلازم والتكامل ما بين الاستراتيجية القومية الشاملة والمشروع الاسلامي الحضاري العالمي، غير أن قيادة الانقاذ أوجدت تناقضاً جذرياً بينهما، فعوضاً عن أن يكون المشروع الاسلامي عالمياً متفاعلاً مع مختلف مناهج المعرفة البشرية، ومع كل الأنساق الحضارية الانسانية أصبح مشروعاً يضيق حتى بأهله وبتعدديتهم وحرياتهم، ويتمحور حول ذات حزبية أكثر ضيقاً لمجرد تبرير مشروعية السلطة وإضفاء الصفة العالمية على بعض رموزها، وإهدار موارد الدولة الشحيحة لتمجيدها الذاتي عالمياً حتى من دون أن تتمتع بأصالة وإبداع فكري. هذا الوضع أوجد تناقضاً بين مهمات السياسة الخارجية التي تقوم على الاستراتيجية القومية الشاملة ومشروع الانقاذ المتأسلم ذاتياً بمظهر عالمي، فكانت الحروب مع دول الجوار الاقليمية ومناطحة المراكز العربية والدولية المؤثرة ما أفقد حدودنا مقتضيات الأمن المشترك وأخل بموجبات التنمية الاقتصادية لمواردنا والتأهيل العلمي المتقدم لأبنائنا، بل وتعاني البلاد حال الحصار بأشكال مختلفة ومعرضة للتدخل الدولي مهما كانت الانفراجات النسبية. هذا الوضع يجعل سياستنا الخارجية الآن في موقف من يتمسك بالقشة لإنقاذ الغريق، فكل جهودها من أجل تحسين صورة النظام تصطدم بعبارة عدم الصدقية، وكل ما تصل اليه من انفراجات اوروبية أو آسيوية هي مجرد انفراجات نسبية ولا تجد صدى دولياً، بل ان صدى هذه الانفراجات في الاعلام السوداني المحلي وتصريحات وزارة الخارجية من أجل الاستهلاك الداخلي تفوق حقائقها الاقليمية المجاورة والعربية والدولية، تماماً كإعلامنا النفطي الذي يكاد يضعنا في دائرة الأوبيك فما كل من لبس الجلباب هو كبير التجار. ان اصلاح السياسة الخارجية لا يتم بمعزل عن تصحيح مفهومنا للمشروع الاسلامي الحضاري العالمي، ليكون بالفعل اسلامياً وحضارياً وعالمياً، يستوعب بعالميته أهل السودان انفسهم وبداية، شمالهم وجنوبهم وغربهم وشرقهم. ويستوعب بحضاريته كل الملل والنحل، ويستوعب باسلاميته حاكمية الكتاب، وهذا جهد معرفي وفكري يتجاوز عقلية الانقاذ الراهنة التي تطرح المشروع الحضاري العالمي وتطلب من أولي القربى من المعارضين الاغتسال في مياه البحر الأحمر وأمام سمع العالم وبصره من الذين تدعوهم وزارة الخارجية للتعاون مع السودان. كان لنا أن ندعو للتنسيق بين وزارة الخارجية ومركز "الدراسات الاستراتيجية" وجهاز "الأمن القومي" لوضع محددات الاستراتيجية السودانية القومية الشاملة التي بدأنا بها ملاحظاتنا هذه، ثم الطلب من وزارة الخارجية تنفيذها، غير ان القضية تتجاوز هؤلاء جميعاً الى مصدر اتخاذ القرار، وهو مصدر كما ذكرنا في ملاحظاتنا حول الدستور مصدر فوقي غير مقيد بنهج أو ملتزم بشورى. فأزمة الخارجية هي من أزمة النظام نفسه، ولا يمكن حلها إلا بحل أزمة النظام أولاً. أما حل أزمة النظام فهي ترتبط بالنقاط الأربع المطروحة أمامنا وهي السلام، أساليب العمل السياسي، مهددات الأمن الوطني، والوفاق الوطني. السلام الى السياسة الخارجية هناك موضوع السلام. يهمنا أن نطرح لا مجرد خيارنا الذي طرحناه حول الوحدة الكونفديرالية بين شمال السودان في اطار السيادة السودانية الواحدة غير المجزأة ولكن يهمنا أن تتناولوا معنا الكيفية التي توصلنا من خلالها الى هذه النتيجة. فقد شرحنا لكم أصول المشكلة منذ عام 1874 والى اليوم أنظر صحيفة "الحياة" - 26/5/1999. فعلاقاتنا بالجنوب لم تكن يوماً علاقة وطنية وإنما هي إدارية ودستورية فقط، وحين يريد الجنوب فسخ حتى تلك العرى الادارية والدستورية فلا يحق للشمال أن يمتنع عن ذلك بإدخال وافتعال حجج وطنية ليس لها أي أساس تاريخي أو ثقافي، ثم أن بحور الدماء وعدم الثقة بيننا والتشكيك المتبادل في الصدقية، اضافة لتداخل الصراعات الاقليمية ووصولاً الى نداءات التدخل العالمي والتدويل، وعدم قدرات المتعصبين في الشمال والجنوب معاً على مواصلة هذه الحرب الاستنزافية. كل هذا يتطلب منا طرح الخيار الكونفديرالي بين الشمال والجنوب. غير اننا نطلب منكم تبني ورقة واضحة، لطرح استفتاء شامل في الشمال والجنوب على السواء ولكن بادارتين مستقلتين تختص الأولى بتسجيل الشماليين شمالاً وجنوباً وتختص الثانية بتسجيل الجنوبيين جنوباً وشمالاً حول الكونفديرالية في اطار سيادة وطنية واحدة أو استقلال الجنوب، أما الصيغ الأخرى من الحكم المركزي الوطني الواحد أو الفديرالية أو الحكم الذاتي الاقليمي فقد طبقت وسبق فشلها. أما الملاحظات التي ترد الينا دائماً حول عبور المياه الاستوائية الينا من خلال الجنوب توهماً بإمكان وقف تدفقها الينا فهذه مجرد توهمات طفولية، هذه مجاري أنهار دولية لها ضوابطها، ثم أن أهل الجنوب سيكونون أول ضحايا وقف التدفق المائي، تماماً كما نكون نحن حين ندّعي بإمكان وقف المياه عن مصر، فالغرقى نحن في المقام الأول ويكفي عدم قدرتنا حتى على استيعاب ما يرتفع به منسوب النيل. أما الحدود الكونفديرالية أو الاستقلالية فهي مبينة تبعاً للترسيم الاداري بين الشمال والجنوب عام 1956 وما حددته اتفاقية أديس أبابا لعام 1972. أما بالنسبة للنفط فأهل الجنوب أولى بنفطهم، ولدينا نفطنا في غرب السودان. وارتكب الشمال، منذ نميري وشيفرون الكثير من التجاوزات حول نفط الجنوب، وورثت حكومة الانقاذ هذه الأخطاء، فظهر الشمال عالمياً وكأنه يسرق نفط الجنوب، ويقيم مصافي التكرير في الشمال من دون حقول الانتاج في الجنوب، بل ولا يشرك جنوبياً واحداً في ادارة أعمال هذه الشركات ولا في التأهيل المستقبلي للصادرات النفطية، ولم أشاهد جنوبياً واحداً في احتفالات بور سودان لتصدير النفط. العمل السياسي يرتبط اسلوب كل عمل سياسي بالقائمين عليه، ما هي المعطيات الموضوعية التي تكون مطروحة أمامهم؟ ثم قدراتهم في ادارتها؟ ان المنهجية كحد علمي أعلى في فهم المعطيات السياسية والتعامل معها، وكذلك الموضوعية أو العقلانية كحد أدنى، غائبان تماماً في أساليب العمل السياسي السوداني، ثم ان لأساليب العمل السياسي وجوهاً أخرى غير ما نحن فيه الآن ولكن ماذا عن الأساليب السياسية التي يقرر الشعب الأخذ بها بمعزل عن أساليب النظام في العمل السياسي وحتى - ربما - بمعزل عنا، كالاضراب والتظاهر حين تتواصل الأزمات في فرض نفسها ولا يكون الانقاذ قادراً على دعوة كل الشعب لورش العمل؟ وحين لا تكون ورشة العمل الدائمة - المجلس الوطني قادرة على التعبير عن مشكلات الشعب؟ وحتى حين يعجز الموالون المتوالون عن الموالاة والتوالي؟ إن اسلوب العمل السياسي - كما ذكرنا - يتحدد بالمعطيات وفهم القائمين على الأمر لهذه المعطيات وكيفية تناولها، غير أننا لا نجد أي آلية لا في التعاطي ولا في اتخاذ القرار. ثم اذا غضبنا يوماً، فما هو مدى الاحتجاج المسموح به كأسلوب من أساليب العمل السياسي؟ فليس هناك - حتى الآن - أي اسلوب مقنن للاحتجاج او المعارضة على رغم طرح الانقاذ أنها تجاوزت الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية التي أوضحنا فيها رأينا. ان قواعد المفاهيم لأساليب العمل السياسي واضحة تماماً في الفكر السياسي الديموقراطي الليبرالي الغربي، ولكن لا وجود لها نهائياً في نظام التوالي الذي يقصر كل الأمور نظرياً على شورى اسلامية تنتهي الى اجماع مع اغفال متعمد للبدائل الاحتجاجية فيما اذا لم يتوافر عملياً النظام الشوري والاجماع. بل ان الشورى في نظام الانقاذ وبحكم الثغرات الدستورية التي أوضحناها هي معلمة فقط - للعلم - وليست ملزمة دستورياً فماذا لو عقدت ألف ورشة عمل ولم نخرج بنتيجة؟ فما هو اسلوب الاحتجاج المقنن والمباح دستورياً لنا؟ هذه هي نقطة الضعف الدستورية في "نظام التوالي" قياساً الى النظام الأوروبي الغربي الليبرالي المسيحي. فأين ذلك الاجتهاد الذي يعطيه لنا مفكرو الانقاذ على قمة المؤتمر الوطني لحل هذه الاشكالية في النظام الاسلامي قياساً الى الغرب؟ اننا نطلب ورقة واضحة في هذا الشأن من المؤتمر الوطني، ورقة غير تبريرية ولا تتخفى بالمسموح الديني فنحن ندرك ان بعض مواد الدستور كالمادة 24 والمادة 25 تعطي السودانيين الحق في أن يفكروا وأن يعبروا وأن يتعبدوا، ليقال لنا في النهاية أنتم أحرار بموجب هذه المواد وغيرها، غير اننا في الواقع أحرار من دون هذه المواد في مجال أن نفكر وأن نعبر وأن نعبدالله سبحانه وتعالى. ولكن ما هي الحقوق الاحتجاجية في هذا النظام مقايسة الى الدساتير الغربية المذمومة والمنكرة؟ هذا هو السؤال. * سياسي ومفكر سوداني.