حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    المملكة تؤكد على أهمية استدامة الفضاء الخارجي وضمان استمرار الفوائد التكنولوجياته    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    تراجع أسعار النفط إلى 73.62 دولارًا للبرميل    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    إسرائيل - حزب الله.. هل هي الحرب الشاملة؟    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    التزامات المقاولين    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    حروب بلا ضربة قاضية!    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    سلامة المرضى    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حروب الداخل" مسرحية غنائية للبنانيين اثنين في أميركا : تجربة الصداقة والموسيقى وقهر الحرب والذعر
نشر في الحياة يوم 19 - 07 - 2000

حدث طريف. صديقان من بيروت يؤلفان أغاني إبان الحرب الأهلية، ثم تضع حولها كاتبة اميركية مسرحية تقدّم في مدينة أتلانتا قبل بضعة أسابيع. أغان بالانكليزية للبنانيين لا يحترفان الموسيقى، وعمل مسرحي عن الشباب اللبناني وحربهم وهجرتهم وغربتهم لمؤلفة اميركية كانت تجهل لبنان ومشكلاته تماماً، ولم يجمعنا بها الا المصادفة، فهي ليست صديقة حميمة. مشروع استغربته بادئ الأمر، ثم ما لبث أن أعاد اختباراً وجدانياً كثيفاً وأحياناً مؤلماً الى الواجهة بعدما ظل مختبئاً في سريرتي لسنوات خلت. كيف أبدأ؟ أين أبدأ؟
بيروت، ربيع عام 1975. جماعة أصدقاء، بل هم اخوان لقوة الصداقة بينهم، في الجامعة الاميركية وقبلها في الانترناشونال كولدج المتاخمة لها. انكلونونيون، يجيدون الانكليزية، تصلهم أخبار ثورة الشباب في الغرب، وقبل الأخبار، الموسيقى. موسيقى "الروك" التي بادرت فيها فرقة "البيتلز" بعد التحول المثير في نمط أغانيها الذي بدأ عام 1965 بدخول آلات كهربائية ساهمت في ابتكار أصوات جديدة أحسن استخدامها أعضاء الفرقة الأربعة ومخرجهم الفني جورج مارتن. شباب لبنانيون في الأقسام العلمية للدراسة، لكنهم يختلفون عن معظم زملائهم لأنهم يختزنون نزعة ابداعية تلح عليهم باستمرار، وتزيد مع زيادة الكبت النفسي الذي يواجهونه. وقد كنت في قسم الهندسة، وكان صديقي كمال بدر في كلية الطب، والمهندسون والأطباء لا يجوز أن يكونوا موسيقيين وشعراء، أليس كذلك؟
لقد هويت الموسيقى منذ طفولتي، ومن حسن حظي أن أهلي قدموا لي فرصة الحصول على دروس لأتعلم العزف على آلة البيانو، في حين ترعرع كمال في عائلة تحب العزف والغناء على رغم أنه باشر بلعب الغيتار في عمر متأخر. وبيروت، رأس بيروت عام 1975، بيروت نزار قباني وأدونيس وشتى الأفلام الغربية والموسيقى الثائرة والنساء الفاتنات المتحررات حديثاً، كانت فعلاً "بيروت الحب والمطر". فما لبث أن أطلّت علينا امرأتان في الجامعة، وأخذنا الهيام بهما الى أمصار وجدانية وموسيقية ساحرة. وإذا بالكلمات والأنغام تتدفق سريعاً، وقد بدأت أجيد العزف على الغيتار أيضاً، مما سهّل تبادل الأغاني في غرف بعيدة عن الصالات حيث توضع آلة البيانو، والتي يندر فراغها من الزيارات العائلية والاجتماعية.
الأغاني التي ألهمنا بها الوجد غربية، كلماتها بالانكليزية، لماذا؟ أولاً، لأن الحضارات والثقافات تلاقت في بيروت بجدية وأصالة، بعكس ما نقاسيه الآن من عولمة سطحية تكاد تُختزل بالرياضة والملابس والمأكولات والمرطبات والكومبيوتر. فلا عجب أن تكون لغة الابداع في بيروت ليست بالضرورة العربية. ثانياً، لأن موسيقى "الروك"، قبل بدء استغلالها التجاري، الذي دفعها الى سذاجة مخزية في غضون سنين قليلة، مثلت هي بدورها حركة عالمية أسهمت في منح الشباب وسيلة فاعلة للعبارة عما يجري في طويتهم. فمن الطبيعي أن تجتذب هذه الموسيقى الشاب المنفتح أينما كان وتفجر طاقته لترميه في اتجاهات منها ايجابي ومنها سلبي. وثالثاً، لم يكن للشاب العربي آنذاك وسيلة للعبارة عن نفسه بلغته الأم وهذه المحنة ما زالت تشتد، لأن تدريس اللغة العربية كان يشوبه التحجّر والتخلّف والانغلاق والعفن. حتى لو كان لأحدنا الموهبة ليكتب مثل أدونيس أو أنسي الحاج. لأدى ذلك الى سقوطه الحتمي في مادة اللغة العربية. فالشعر الحديث والنثر الحديث كانا غائبين عن البرامج، وأنا أعترف أن قراءتي لهذه الأعمال بدأت عندما وجدت نفسي على مضض في الولايات المتحدة وخشيت أن أنسى العربية. عندئذ "اكتشفت" أنه يوجد أعمال كثيرة في لغة قريبة لقلبي، أحسن قراءتها، وتصون لغتي في الوقت ذاته. بيد أن الفرصة لأعبر عن تجربتي الفنية الأولى في العربية فاتتني وفاتت أعز أصدقائي، بما فيهم كمال بدر، لأسباب نحن لسنا مسؤولين عنها.
بيروت، ربيع عام 1975، أغان بالانكليزية ألفناها لامرأتين. وإذا بيروت ربيع عام 1975 هي بيروت الحرب أيضاً، الحرب التي قرأنا دلائلها الكثيرة، الحرب التي انتظرناها مع الأمل الضئيل ألا تقع. لكنها وقعت. بضراوة ووحشية لم يتوقعها أحد. والعجيب انني رحلت الى الولايات المتحدة في ذلك الصيف لزيارة بعض الأقرباء والأصدقاء، وللسياحة، ولم يخطر في بالي أنها ستمسي رحلة في اتجاه واحد. ظننت أنني سأعود في الخريف لمواصلة دراستي في الجامعة الاميركية، واستمر في حياة يملأها الحب والصداقة والموسيقى. قبيل رحيلي في مطلع ذلك الصيف، ألّفت فرقة لعزف موسيقى الجاز مع ثلاث أصدقاء آخرين، وكنا واثقين أنها ستغدو بداية مثيرة وفريدة من نوعها في العالم العربي. بيد أن الحرب اشتدت في نهاية صيف 1975، فأُحرقت الأسواق في الوسط التجاري، ثم وصلت المعارك الى الفنادق الكبيرة في ميناء الحصن، ومنها الى حي القنطاري القريب جداً من حيّنا، وتلا ذلك المجازر والمجازر المضادة في المخيمات والضواحي والقرى، والقصف العشوائي، مع الاشارة الى الخطف والقتل على الهوية الذي أدخله الشياطين الى بلادنا. فأضحى خياري الوحيد البقاء في الولايات المتحدة، وبعد تفحصي لجامعات عدة، قررت الالتحاق بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. أما كمال، فبقي في بيروت لأن أبواب كليات الطب لا يخرقها الأجانب قبلما يتخرجون ويدخلون طور التخصص.
لقد أحرقت حرب لبنان ما يزيد أهمية مشاريعنا الموسيقية بأضعاف. وفجأة صار كل منا في جو غريب، مرعب. من ظل في لبنان واجه أهوال الحرب المختلفة، وأصبح هاجسه الرئيسي البقاء. أما من وجد نفسه ف يالغربة، وخصوصاً في الولايات المتحدة التي بدت بعيدة جداً لمن اعتاد الحياة في بلد صغير وحميم الذي ليس من أولوياته التقدم المادي، خصوصاً اذا ك ان هذا على حساب الانسان، فأصبح هاجسه الرئيسي الحفاظ على الذات. جهاد للبقاء المحض في الوطن. وآخر للنفس والروح في الخارج.
عندما حسبت نفسي سائحاً في كاليفورنيا، تنعمت بجمالها المدهش وجوها اللطيف. أما عندما وجدتني مجبراً على المكوث هنالك، فاستحضرت كل غريب ورهيب في بلاد شاسعة ظننا أننا ألِفناها من خلال الأفلام والمجلات، لكن سرعان ما اتضحت الأوهام التي يسوقها الاعلام الأميركي بمهارة.
الغرب حضارة عرفتها عن كثب منذ صغري، معرفة واسعة وقتني من الوقوع في فخ الغرام النابع عن الدهشة والاعجاب الزائد. فالطرقات المعبدة والجسور والبنايات الشاهقة والمطارات والتنظيم الفائق والسرعة في كل شيء وسهولة الحصول على المنازل والاثاث وخطوط الهاتف كانت معلومة لدي لدرجة الابتذال. أما الثقافة الغربية، فكانت في متناول الراغبين في بيروت، وهي ثقافة أحببتها وما زلت أحبها. أول الأمر، سررت بحرية التنقل من مكان الى آخر، إذ سافرت وحدي، وبحرية النمو الشخصي من دون الرجوع المستمر الى آراء ونصائح الآخرين. بيد أنه لم يكن ممكناً استباق الوحدة، وبعدها الوحشة. كما لم يكن ممكناً تصور الفراغ المروِّع الذي يعم الولايات المتحدة، والذي يغلفه غطاءاً كثيفاً من التفاهات المتلفزة وغير المتلفزة، والثرثرة واللغو، والهروع الى اقتناء ماديات ما تلبث أن تزيد من غربة ووحشة المقبلين عليها من حيث لا يدرون. في هذه الاثناء، خِلتُ نفسي كالهائمين في أماكن القفر المدني التي رسمها ببراعة الايطالي دي كيريكو de chirico 1888 - 1978، ونحصر الذكر هنا بمشاهد شوارع خالية ومصانع ضخمة ومبان مدلولها الرئيسي العداء للانسان. فعندما أتأمل هذه اللوحات، أخالني كائناً صغيراً جداً يتلاشى وجوده أمم الاسمنت والحديد. هكذا كانت حالتي الوجدانية وأنا أتجول وحدي في حرم الجامعة في بيركلي، جامعة عظيمة ومشهورة أهدتني ثقافة غنية وفذة على مر السنين، لكنها ترفض الاعتراف بالروح والمهجة وتواجه نداءاتهما إما بالتهكم أو بالصمت المفزع.
بينما تنادى أصدقائي وإخواني في لبنان الخطف والقنص والقصف، دخلت لعبة كر وفرّ مع الخلاء المحيق، خلاء يتسع لانحلال الملايين من البشر، ولا مخرج حقيقي غير الدأب الفكري والروحاني مع التعلق بشعرة أمل الا تبرد العاطفة وأنتهي عربي الجسد، أسوجي القلب! وفي المواجهة مع الخلاء، ان لازمها الصبر وشيء من البركة، ينجلي اللانهائي، ويستفيق الانسان الى غلاف يختلف تماماً عن الهذر والهراء، وإذا به ينغلف بالمحبة والرحمة والنور، عند الهجرة في التلال والأحراج المطلة على حزام المدن الذي يلفّ خليج سان فرنسيسكو، أو في دجّنة غرفة النوم بعد منتصف الليل، وفي كل مكان وزمان. هكذا عشت، بين القفرة والاشراق، مع فسحة ثقافية واسعة تمتد وتشتد بين الاثنين. فإذا سلمنا ان الثقافة تارة تسقط في عبث القفرة، وطوراً تعلو الى قمم التجلي، صدف لي أن أعيش حقبة تاريخية شديدة العبث وأواظب في البحث عما يدفعني نحو المعنى.
في غضون ذلك، وأنا على باب الانتقال من الهندسة الى الفلسفة تناغماً مع التجربة الوجودية التي فرضتها الغربة علي، ومحبة عفوية بالحكمة، لم أتوقف عن التأليف الموسيقي. وإن كان الحب ما برح موضوع بعض الأغاني التي ألفتها في المهجر، فأصبح بعيداً، وباتت نساء بيروت اللاتي أحببت رمزاً لصمودي أمام الانحلال الذي اصاب الكثير من اللبنانيين وسائر الشباب العرب في الولايات المتحدة. فتحول مضمون الكلمات نحو الغربة واللهفة والتوق والقلق من المستقبل وغموضه وما سيحمل لنا من مصائر قد تبعدنا الواحد عن الآخر. وتطرقت بشيء من الحذر والحياء، في جمل خاطفة تكاد تختبئ داخل الأغاني، الى الروحانيات. وبدأت أسجلها على كاسيتات، وأرسلتها في ظروف صعبة جداً الى كمال بدر في بيروت. فكان من حظي ان المدير لمكتب أميركا الشمالية لشركة "النقل الجوي عبر المتوسط" TMA التي مثلت بدورها نجاح اللبنانيين ومهارتهم قبيل الحرب، هو صديق عزيز للعائلة، فضمن ايصال رسائل واسطوانات وكاسيتات عدة الى بيروت حتى عندما وصل القصف أوجه في ربيع عام 1976، بل حتى بعد اغلاق المطار الدولي! وما زلت أجهل كيف وصلت بعض رسائلي الى منزل جدتي في شارع السادات من حيث كانت توزّع على الآخرين. لكنها وصلت جميعاً.
في الوقت ذاته، استمر كمال ايضاً في تأليف الأغاني وتسجيلها على كاسيتات، ووجد من يحملها الى الولايات المتحدة لتصلني عبر البريد الى بيركلي. وبما أن الكاسيت يتسع لساعة ونصف من التسجيل، أصبح وسيلة للحديث اضافة الى الموسيقى. فالمخابرات الهاتفية كانت شبه مستحيلة في تلك الفترة لقلة الخطوط وشدة اقبال اللبنانيين في الخارج عليها، وحتى في الحالات النادرة التي حصلت فيها على خط، وجب علي أن أختصر الحديث لكثرة كلفة المكالمة. على رغم اختبار الحرب، لم تدخل أغانيه تغييرات مماثلة للتي دخلت موسيقاي، باستثناء ذكر الحرب احياناً ووصف حي مضحك مبكي لوضع مناف للعقل، ألا وهو محاولة تلاميذ الطب للتركيز على تفاصيل الكيمياء والبيولوجيا بينما القنابل تنهال على أحيائهم خارج حرم الجامعة. فمن الصعب فهم الجامعي الذي يهرع تحت القصف ليدرس أشياء تبدو سخيفة جداً عندما تستحوذ عليه بتواصل مسائل جوهرية تتعلق بالحياة والموت. لكنه ليس مستغرباً ألا تتغير أغاني كمال كثيراً، فهو بقي في بيروت، والنساء التي أحب وأحببنه بقين هنالك أيضاً. غربته لم تصب أعماق الطوية، بل كانت غربة الذي يشاهد بلده يتهدم ويدخل مسخاً مجهول النتيجة. سخرية القدر ان الذين لم يغادروا لبنان، على رغم كل ما قاسوه، تنعموا بلحمة انسانية غابت عن حياة اخوانهم في المهجر، بل استطاعوا في بعض الحالات ان يزيدوها قوة. المأساة انه في غياب الحرب بدأت هذه اللحمة تضعف أمام المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة والتي يزكيها الاجتياح المادي الذي يسمى "العولمة" استكباراً.
حرب السنتين عامي 1975 و1976 جعلت الكثير من اللبنانيين في الخارج يعتقدون أن العودة قد تستحيل، وكان هذا شعوري. وإذا بالحرب بدت أنها انتهت، فعدت الى بيروت لأمضي عطلة الصيف عام 1977، كدت ألا أصدق أنني في المنزل ذاته، مع أهلي واخوتي، وأقرباء وأصدقاء علموا بموعد قدومي فجاؤوا فوراً لاستقبالي، ومن بينهم كمال بدر. بعد أيام قليلة، عدنا نعزف موسيقانا سوية، في حضور الأصدقاء والصديقات بين حين وآخر، بما فيها جمعة في الهواء الطلق في حرج صنوبر بالقرب من مصيف برمانا. في غضون بضعة أسابيع، أنجزنا انسجاماً في العزف والغناء دفع بنا الى تسجيلات جديدة لم نفكر يوماً أن أحداً غريباً علينا سيسمعها، مع العلم أننا درسنا قيمتها من ناحية الصدق والجمال، لكننا لم نود التفكير بما قد يفسد نقاهة عملنا. في صيف عام 1978، وضعنا تسجيلات أخرى مع صديق ثان يعزف الغيتار بمهارة، مما حررني لأضيف صوت البيانو لفرقتنا. وخالجتنا نشوة النصر على الأشرار في الداخل والخارج الذين دفعوا ببلادنا الى الحرب، فبدا لوهلة أن الدهر قهرنا، وإذا بنا نقهر الدهر ونعود بزخم الى أنغام الأيام التي تنامت فيها صداقاتنا، والتي جسدت موسيقانا قممها. لكن للدهر حيل كثيرة. فعادت الحرب، وزاد التزامنا بأنماطنا الحياتية المختلفة. فمتطلبات الطب لا تترك المجال لارتباطات جدية أخرى، في حين صرت أركز على عزف الموسيقى الكلاسيكية كونها أكثر تناغماً مع عملي وأنا أحضر للحصول على الدكتوراه في الفلسفة. بقيت الصداقة، ونسينا الأغاني. وتجمعت الغبار على علب الكاسيتات، ومرّت السنين.
في التسعينات أصبح كمال بدر طبيباً مميزاً في جامعة "إموري" في أتلانتا، متخصص في علم الكلويات. وانتقلت من كاليفورنيا الى واشنطن لأكون على مقربة من بعض الخبراء بالاسلام وبقضايا الشرق الأدنى، إذ كنت بطور وضع كتاب عن الحرية والحداثة والاسلام، لأعود بعد انجازه وصدوره الى المواضيع الفلسفية التي شغلتني في أطروحتي، ولأباشر بحوثاً مشتركة مع جماعة علماء في الطبيعة منفتحين على الأبعاد الماورائية للاكتشافات والنظريات الحديثة. أي كنا أبعد ما يكون عن جو الأغاني قبيل الحرب وخلال مراحلها الأولى. لكن الصدف شاءت أن يلتقي كمال بواسطة مساعدته في أتلانتا بكاتبة مسرحية في حفلة عشاء، ولم يعرف شيئاً عن طبيعة عملها عندما بدأت توجه الأسئلة اليه عن لبنان والحرب والأصدقاء وعلاقات الحب بفضول بالغ. فما أن روى لها قصة الموسيقى التي ألّفها معي وكيف ثابرنا بإرسالها بين لبنان وأميركا عبر مختلف أنواع الحواجز حتى طلبت منه الاستماع الى الأغاني. عندها علم أنها كاتبة مسرحية، وقالت له على الفور انها وجدت في الأغاني وفي ما روى لها نواة قصة مثيرة تريد ايصالها الى خشبة المسرح. فلم يتردد في القبول، وهكذا كانت ولادة المسرحية التي اسمها "حروب الداخل". لكنه رفض البوح بأي شيء آخر عن حياتنا، وآثر أن تعود الكاتبة الى مخيلتها والى الأغاني والى الكتب عن لبنان وحربه التي نصحها أن تقرأها.
اسمها دبي فلاناغن كالابريا. أصلها من مدينة نيويورك، أبوها إىرلندي وأمها ايطالية. أحوالهما متواضعة جداً. في أتلانتا، وفاء لفنها المعروف لقلة عائداته في معظم الأحوال، تعيش في جو من المهمشين. ثقافتها وسلوكها وآدابها مغايرة تماماً لنا. لا يجمعها بنا إلا عمل فني أعادنا الى أجواء منسية. غدت معرفتها بلبنان مدهشة ان اعتبرنا أنها لم تعرف شيئاً قبل الحديث مع كمال بدر وقراءتها لكتب عدة. أعرف هؤلاء الأميركان جيداً: ينكبّون بحماسة مخيفة على موضوع ما، يتشربون كل ما يضطلعون عليه، الى أن يصلوا الى مرتبة يفاجئون بها أصحاب العلم بذاك الموضوع. وطبعاً تمتلك المرأة حس ورهافة نادرتين. وإلا كيف وجدت نفسي، وأنا داخل مسرح في وسط أتلانتا التجاري، وكأنني عدت الى جو حميم في إحدى شقق بيروت؟
وقبل ذلك بشهور، كيف جعلني مجرد تمرين لمشهد واحد أظن أن الحرب ما زالت مندلعة خارج الاستوديو على رغم ان الحوار بالانكليزية، والممثلين جميعهم اميركيون يحاولون التكلم بلكنة لبنانية؟ ثمة حس ورهافة ومخيلة تلغي حدود الزمان والمكان، ثمة هبة ذهنية وروحية تسافر بنا الى أبعد الأقطار وأجسادنا قابعة في غرفة لا علاقة لها إطلاقاً بغاية الإسراء.
مسرحية "حروب الداخل" قدمت في شباط فبراير وآذار مارس. بدأ انضمامي الى صفوف المشاركين فيها في أيلول سبتمبر عام 1998، أو بالأحرى كانت البداية المباشرة عندئذ، لأن البداية الحقيقية كانت، كما رويت، في السبعينات. إذاً في هذه المرحلة الجديدة، وبعد اقتنائنا لآلات الكترونية تتيح لنا استخدام مختلف الأصوات والزنغام، فأمسى العزف على الغيتار الكهربائي وعلى لوحة مفاتيح مشابهة لمثيلتها في الأرغن أو البيانو، دأبت على إعادة صوغ الأغاني الشبه منسية. وعندما بدأت تتضح ملامح الأغاني في إطار اشكالها وأصواتها المحدثة، أفهمتني إلفتها وكأنه يتم إعادة تكوين مناطق شاسعة في داخلتي.
ثمة ملء لا يهجرنا أبداً، وإن بدا منحسراً لفترات. هوذا الملء القاهر لكل دهر، الملء الذي يقوم عليه الفن الصادق، والحياة الصادقة. هوذا الملء الذي تصطدم عقبات الدنيا عبثاً بصلابته. هوذا الملء المتأصل في خزائن الغيب، وإن جحد عصرنا عن ذلك. إنها عجيبة الوجود: طرق لا حصر لها لتجسد الغيب، لوجوده بيننا وفينا. وفي غيابه، الدُجى، الفراغ، لا شيء.
كل منا ركّز على مجاله: دبي كالابريا على جمع الممثلين الصالحين وعلى السيناريو الذي نقحته مراراً، كمال بدر على الاخراج والاعلام، وأنا على الموسيقى بالمشاركة مع كمال. وأخيراً، بعد عثرات شتى وهموم هددت المشروع في كل مرحلة، وصل عملنا الى خشبة المسرح في الوسط التجاري لمدينة أتلانتا، مسرح ال Founteentl Street Playhouse.
"حروب الداخل": مسرحية غنائية عن صديقين خلال حرب لبنان، واحد منهم بقي في بلاده، والثاني آثر الهجرة والدراسة في الخارج. قصة عن لبناني يحارب من أجل الحياة الطبيعية في أجواء غير طبيعية، يواصل دراسته ويبحث عن العشق بعدما تزوجت حبيبته من أخيه المحارب مع إحدى الميليشيات. ولبناني آخر في الولايات المتحدة يحاول التأقلم والتكيف مع ثقافة غريبة عجيبة، ثم يجد الغرام مع أميركية تنسيه الحرب لوهلة، إلا أنه يواجه هشاشة وضعه فجأة بعدما يكتشف حقيقة عشيقته. قصة تؤكد أن نعمة الذين بقوا في لبنان هي ان الحرب جنّبتهم الاستغراق بحروب الداخل، أي الحروب التي تجري داخل النفس عندما يبرح الانسان وحيداً في وحشة لم يتصورها أبداً. الحروب الداخلية هذه هي لعنة المحبين للعشرة والإلفة المتوسطية في بلاد تدوس عجلاتها فوق كل شيء حميم من أجل القوة و"التقدم". المسرحية كوميديا مأسوية. فاللبناني في الولايات المتحدة يعاني من سوء تفاهم محزن ومضحك في الوقت ذاته. مثلاً رد فعل الاميركي عندما يعلم أن شخصاً ما من لبنان قد تكون مضكة لشدة الجهل الذي تدل عليه، في حين أن هذا الجهل ذاته يجرح شعور اللبناني الذي شوّهت الحرب حياته وكادت تودي بها، وإذا بالاميركي يجهل احياناً أن لبنان بلد، الى الهراء الذي تحمله اللبنانيون هنا مراراً عند طرح موضوع الحرب.
لا عجب إن كتب لبناني عن ذلك بوعي وحساسية. بيد أن كالابريا، في تصويرها لمعاناة اللبنانيين في الداخل والخارج بدقة وجدية، دلت على مقدرة تثير الإعجاب. كما ذكرت أعلاه، لم تمتلك غير الأغاني وما قرأته في الكتب والمقالات لتؤلف روايتها المسرحية. ولئن اعتبرنا ان الأغاني بحد ذاتها تروي قصة عديدة الأبعاد بإخلاص، فليس سهلاً أن تنتقل القصة بين الأغاني والحوار من دون أي انقطاع بانسيابها. ليس سهلاً ادارة ممثلين اميركيين وجب عليهم إداء أدوار شخصيات لبنانية بكثافة وجدانية قلما نشهدها في الفنون المسرحية والسينمائية في عصرنا الملطخ بالمادية والفظاظة. ثمة كيمياء خارقة جمعت بيننا وبين شلة من الأميركيين لاستحداث سيل من المشاهد الصادقة والحميمة والمؤثرة والموجعة أحياناً عن اختبار الحرب، مع لمسات جمالية وأسلوب تأليف يوحي مراراً بالفن السابع.
هكذا وجدتني في ظلمة الصالة أتابع المسرحية بشوق، وإذا بملامح الوحشة والفراغ تستحوذ على وجداني في المشاهد التي تروي مصير اللبناني الشاب في أميركا. بدت الصالة أكبر مما هي بكثير، والأصوات الجلية والقريبة أمست أصداءً لأيام بعيدة خَلَتْ. فأفرغت مغارات النسيان مخزونها من اللهفة والتوق، لأمور غامضة، ولدفء التعاطي بين الناس في لبنان حتى في أشد أيام الحرب. لكنها أوليست أيضاً حسرة فقدان أيام الصبا؟ وهل فقدت نهائياً؟ أم حفظتها الأغاني ومسرحية أثبتت اهتمام قسم من الأميركيين بقصتنا؟ لقد لازم الأسى الذي خالجني في الصالة راحة وانفراج، بل سعادة الذي يتأكد أنه يمكن الرد على كل حيلة يمتلكها الدهر.
زمن الانسان لا يقاس بالساعة، بل يغدو ملئاً موحداً متواصلاً صلباً لمن له بعض الاستعداد لأقصى ممكنات الحياة.
زمن الانسان لا يقاس بالساعة لأن الساعة استُحدثت في زمن الانسان ، وإن أفلتت من قبضته لتهدد زمنه بالاختزال.
زمن الانسان متصل بالأبدية لأنه مولودها. وآيات ذلك كثيرة، منها كل كشف يوقننا أن ما عشناه بصدق وكثافة، وإن مضت عليه سنين، ما زال حاضراً.
* مفكر وأكاديمي لبناني مقيم في واشنطن. والنص عن تجربة مع كمال بدر في كتابة عرض موسيقي قدم في اتلانتا خلال شهري شباط وآذار فبراير ومارس الماضيين، وأخرجت العرض دبي فلاناغن كالابريا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.