من وجهة نظر أحد الإناسيين الانتربولوجيين، ان تاريخ الإناسة المجتمعية ما هو الا استبدال تدريجي للآراء غير المطلعة على أحوال الشعوب بالآراء المطلعة على أحوالها. وهذا يعني أن على المرء الباحث عن منظور مختلف، أن يكافح تلك التأويلات التضييقية، وتلك الحماقات النظرية التي اعتبرها إيفانز برتشارد "آيات في الحماقة"، وتنتشر في أروقة الخطاب الانطباعي السائد عن البدو كقطر ذري سام، إذ يسهم في انتشارها خطاب انطباعي أسهم في الترويج له بعض المستشرقين، وخصوصاً ما سماهم بعض الإناسيين ب"انتربولوجيو المقاعد الوثيرة" الذين أسهموا في الترويج لتلك النظريات على المجتمعات القديمة التي لا تزيد على كونها بعض حماقات العصر الفكتوري على حد تعبير برتشارد. فالبدو كما يراهم ابن خلدون أهل عبث وانتهاب، وتظهير البداوة في المشروع الخلدوني عن "الدورة العصبية" على أنها مستودع للتاريخ، لنقل لتاريخ عربي هو في المحصلة تاريخ مجموعة من الأعراب، الذين يأتون على ظهور خيولهم ليشكلوا دولة حضرية، ما تلبث أن تزول بفعل نوازعها التدميرية الداخلية. هكذا يقودنا ابن خلدون، كما يذكر محمد عابد الجابري، الى نفق مغلق "الى فلسفة للتاريخ مغلقة وخالية من كل تطلع أو استشراف مستقبلي". وقد بقيت هذه الفلسفة التاريخية الخلدونية ونظرتها التحقيرية للأعراب، مثار جدل عند مفكرينا القوميين ومفكرينا المعاصرين، وبقيت تتحكم في مسار الدراسات التي طاولت البداوة وتشل حركتها. في اطار نضالنا ضد التأويلات التضييقية، نجد أنفسنا مدفوعين الى تناول فرضيتين تسعى كل منهما الى الاعلان عن نفسها وكأنها نظرية في تفسير ظاهرة الغزو عند البدو. الفرضية الأولى: تربط بين الحرب والغزو عند البدو وبين الصحراء، إذ تظهر هذه الحروب على أنها ردود فعل ايكولوجية محضة، وعلى أنها ناتج مباشر للفوضى التي تميز هذه المجتمعات الصحراوية. يكتب مسعود ضاهر عن المسألة: حروب البدو صحراوية دوماً ولا تتجاوز الصحراء إلا للإغارة على أطرافها الريفية أو المدنية في حالات الجوع وانعدام الكلأ. وهذا الخطاب كما سنرى يركز على فوضى المجتمعات البدوية وعبثها ليبرر بالتالي ظهور الدولة ودورها في إقامة النظام وردع الفوضى. الفرضية الثانية :تتكامل مع الأولى في تفسيرها ظاهرة الغزو عند البدو، فهذه الفرضية ترد الحرب والغزو بين القبائل البدوية الى الجوع وانعدام الكلأ، وبذلك يصبح الغزو وسيلة بدوية لرد غائلة الجوع، وهذا يرد الغزو عند البدو الى مستوى نزعة فطرية، لنقل الى لوثة تاريخية. وكتب المستشرق فولني عن غزوات البدو يقول: لما كان الإعرابي نهاباً أكثر مما هو محارب، فهو لا يسعى الى إراقة الدماء، إنه يهاجم فقط من أجل السلب والنهب. وتضيف دراسة استشراقية حديثة كتبها فاسيلييف: "كانت الرغبة في النهب تلهب دوماً حماسة البدو". وتضيف و"نتيجة الغزوات يستطيع البدوي الفقير بعد غارة موفقة واحدة أن يصلح أحواله المالية ويمكن أن يغدو موسراً" ولكن فاسيلييف يلفت نظرنا الى أمر غريب، يقول: "كان الغزو يعتبر عملاً نبيلاً جداً". وسبق لانغلز أن عزا أسباب الغزو والحروب الى كونها وسيلة للكسب ورد غائلة الجوع، يقول: والحرب القديمة بين القبائل قبائل الهنود الحمر تتحول الى عملية نهب وسلب في البحر والبر لأجل الاستيلاء على الماشية والعبيد والكنوز، وتتحول بالتالي الى مصدر عادي للكسب، الى حرفة، وبكلمة تغدو الثروة موضع إطراء وتبجيل وتقدير بوصفها الخير الأعم. وتربط بعض الدراسات العربية ذات المنحى الانطباعي، بين الغزو والفقر والفوضى بحيث يغدو الغزو حليفاً للفقر، إذ أن حياة الصحراء هي حياة الفاقة والجوع والحرمان، وعبر هذا فإن حياة البدوي تغدو جحيماً لا يطاق، السلب والنهب والغزو والفقر والغلاظة واللوثة على حد تعبير محمد زهير مشارقة. فالفقر هو الحليف الأول للبدو، والجوع حليفهم الثاني، فحياة الصحراء هي حياة الفاقة. ويضيف مشارقة: "لقد كان الباعث الأساسي على الغزو عند العرب في الجاهلية وما تلاها من عصور، هو حب الكسل والحصول على الغنائم التي هي قوام معاشهم، أو الثأر أو الانتقام" و"إن الغزو ولم يزل، لعدم زوال الباعث الأساسي عليه ألا وهو الفقر". انهيار المرتكز الاقتصادي الحرب كظاهرة تشكل بنية المجتمعات البدائية والبدوية فقد لاحظ إنغلز واعتماداً على مورغان أن "قبيلة من قبائل الإيروكوا الهندية تعتبر في حال حرب مع كل قبيلة اخرى لم تعقد معها معاهدة صلح بحسب الأصول". وهذا يعني ان حال الحرب مع كل قبيلة أخرى لا تفسر استناداً الى مبدأ الفوضي ورد غائلة الجوع؟ إذ أن الاستناد الى مبدأ الفوضى لتفسير حال الغزو في المجتمعات البدوية، يخفي بحق، وراء هذا الخطاب، رؤية حضارية هدفها تفسير نشأة الدولة. ودأبت الدراسات الإناسية التي حررها "إناسيو المقاعد الوثيرة" والدراسات الاستشراقية والماركسية والعربية الممركة ذات النزعة الاقتصادية على تضخيم هذه الفرضية. يقول فاسيلييف في دراسته "وما كان بالإمكان تحقيق الاستقرار السياسي ووقف النهب البدوي وتأمين سلامة الروابط التجارية إلا في ظل دولة مركزية". ويضيف "ففي ظل انعدام السلطة المركزية القوية، كان البدو، يقومون بالغزوات دوماً". تكاد تجمع غالبية الروايات التي تقصيّناها من أفواه كبار السن من الأعمام والأخوال والأهل على تفاهة الأسباب التي تؤدي الى الحرب والغزو، وبالتالي الى شرعية الغزو. فالغزو لا يحتاج الى مبرر، انه ظاهرة قائمة بذاتها، ويعد على مستوى "رأس المال الرمزي" وعلى مستوى "المخيال الجمعي" عملاً نبيلاً يستهوي افئدة كل الشباب، الذين يغتنمون الفرصة لاجتراح المآثر، ويستمد معظم الأجداد المقدسين قدسيتهم وصورتهم المثلى من أعمال الغزو التي قاموا بها وليس من جنيهم للثروات. في بحث له عن "أثريات العنف أو الحرب في المجتمعات البدائية" كتبه بيار كلاستر عام 1977 رأى فيه أن هناك أنوية حضارية إن جاز التعبير، توجه الكتابات التي تطاول التاريخ البدائي، وتقود الى اطلاق حكم قيمة سلبي، يبرر العنف الذي ترتكبه بحق هذه المجتمعات، وهذه الأنوية تجد تعبيرها في القول ان الدولة هي قدر كل المجتمع، بمعنى انه لا وجود لمجتمع حقيقي خارج اطار الدولة، إذ ان المجتمعات الحقيقية هي التي تعيش في الظلال الوقائية للدولة. وبذلك تغدو المجتمعات القديمة - البدائية والبدوية - مجتمعات خارج التاريخ الانساني لأنها مجتمعات من دون دولة. انها مجتمعات الفوضى والحرمان والنهب والسلب، ومجتعات العنف الذي يتمفصل مع الشقاء، بحيث لا يمكن لجم هذا العنف الا بالعنف المضاد: أي عنف الدولة الذي يبرر نفسه من منظور أمني وحضاري. من وجهة نظر خبراء الإناسة والنياسة الاتنولوجي، فإن المجتمعات البدائية هي مجتمعات وفرة لا ندرة، وبذلك ينهار المرتكز الاقتصادي للحرب عند البدائيين ولم يعد له من مبرر يقول الإناسي الفرنسي كلود ليفي ستروس في كتابه الموسوم ب"الفكر البري" والذي اعتبر في حينه أهم مرافعة في وجه "إناسيو المقاعد الوثيرة". يقول في معرض حديثه عن هنود كواهويلا الذين يعيشون في صحراء كاليفورنيا الجنوبية حيث لا تستطيع اليوم بضع عائلات من البيض الاستمرار في الحياة "لقد كانوا آلافاً وعرفوا حياة الوفرة". ويذهب كلاستر وبناء على أبحاث قام بها اتنولوجيون مثل ساهلز وليزو الى القول: "ان الأبحاث الحالية تثبت أن الاقتصاد البدائي هو على العكس، اقتصاد وفرة لا اقتصاد ندرة، فالعنف لا يتمفصل مع الشقاء، وهذا يعني انهيار مرتكز التفسير الاقتصادي للحرب البدائية". ان التاريخ العربي الاسلامي وعلى لسان مؤرخيه، يحدثنا عن وفرة وثروات لا حدود لها. وهنا مثال نأتي به من كتاب "الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي" إذ يشير مؤلفه الى ثروة الأعراب بقوله "وما أكثر ما نسمع عن أولئك الذين كان لهم نعم قد ملأ كل شيء أو أولئك الذين كانوا يفقئون أعين فحلهم ليردّوا عن إبلهم العين لأنها بلغت ألفاً، أو ذلك الذي فقأ أعين عشرين بعيراً لأن ابله بلغت عشرين ألفاً، والذي ربما ذبح في أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة. وفي الاخبار ان عتاب بن ورقة تكفل مرة بدفع تسع ديّات، وما أكثر ما نسمع عن ديّات بلغت آلافاً من الإبل". ونلفت النظر هنا أن القبائل العربية لا تزال تنظر الى ثروتها في الإبل والأغنام، على أنها ثروة تستثيرها التحديات أكثر مما تتميز بالتراكم، وعبر هذا تغدو الولائم ذات الطابع السياسي مناسبة للاستجابة لهذه التحديات، أي بذبح أكبر عدد من الأغنام والذي يتنافى مع تكديس الثروات الذي يميز المجتمعات الرأسمالية المعاصرة المشغولة بمبدأ التراكم. يقول كلاستر: إن الماركسية كنظرية عامة للمجتمع والتاريخ معاً، مجبرة على أن تأخذ بمسلمة الشقاء البدائي، أي المردود الضعيف جداً للنشاط الانتاجي. لماذا؟ والجواب ان "الماركسية كنظرية للتاريخ تكتشف قانون الحركة التاريخية، والتغيير الاجتماعي في ميل القوى الانتاجية الذي لا يكبح الى النمو، بيد أنه لكي يمشي التاريخ ولكي تنطلق القوى الانتاجية ينبغي فعلاً عند انطلاق هذا المسار أن تكون القوى الانتاجية نفسها في بادئ الأمر في أقصى حدود الضعف، وفي حال تخلف شامل". الغزو لا يرتبط بالشقاء البدوي، ولا بالفقر الصحراوي المزمن كما تدعي بعض الدراسات. لكن السؤال: كيف تفسر الحرب كظاهرة عامة في المجتمعات البدائية والبدوية، فقد لاحظ الاناسون والنياسيون الغربيون بعد غزو اميركا، ان مجتمعات الهنود الحمر مولعة بالحرب وأن المجتمعات البدائية هي مجتمعات عنف، والكينونة الاجتماعية البدائية هي كينونة من أجل الحرب. يرفض كلاستر النظريات السياسية في علم الاجتماع الغربي التي تجد تعبيرها في كتاب البريطاني هوبز الموسوم ب"اللوياثان" أي الوحش. فالحرب لا تجد تعبيرها في صيد الانسان للانسان كما ظن هوبز فالحرب لا تمت بصلة الى الصيد، كما انها لا تتجذر في واقع الانسان كنوع، بل في الكينونة الاجتماعية للمجتمع البدائي، ولا تشير بشموليتها نحو الطبيعة، بل نحو الثقافة. كذلك يرفض كلاستر - كما بيّنا آنفاً - المقال الاقتصادي المغفل الذي تعتمده الماركسية كمرجع، لأن المجتمعات البدائية هي مجتمعات وفرة لا ندرة. وكذلك يرفض المقول التبادلي الذي اقترحه ستروس لتفسير الحرب البدائية الذي يربط الحرب بنشوء التجارة، فالحرب بنية للمجتمع البدائي، وليست اخفاقاً عرضياً لتبادل فاشل، والشمولية التي تتسم بها في عالم الوحشيين إنما تعكس وضعية العنف البنيوية هذه. ان المجتمعات البدائية، وكذلك الخراجية كما أوضح المفكر الماركسي سمير أمين، هي مجتمعات سياسية بمعنى أن السياسي هو الذي يحدد الاقتصادي وليس العكس. وهذا هو جوهر أطروحة المفكر الفرنسي اللامع ريجيس دوبريه في نقده للعقل السياسي. وانطلاقاً من أن القبيلة هي كيان سياسي ذو ايديولوجيا موحدة بامتياز، فإن الحرب تؤدي على صعيد هذه المجتمعات وظيفتين الأولى: التوحيد الداخلي للقبيلة، الذي تعززه وسائل فاعلة أخرى كالبنية النسبية عند القبيلة التي تسمح بإقامة علاقات سياسية كما تبين الإناسة السياسية، تجعل من جميع أفراد العشيرة ذكوراً وبالغين، أفراداً متساويين من حيث الحقوق والواجبات، يتساوى بذلك شيخ القبيلة مع أي فرد من أفرادها. فالمشيخة في العشيرة أو القبيلة تظل اعتباراً وليس امتيازاً، وسبق لكلاستر أن بين لماذا لا يوجد ملك على القبيلة، بل يوجد زعيم. وماذا يعني هذا؟ كان الجواب ان المجتمعات النسبية القرابية القديمة، مجتمعات سياسية، تحصن نفسها ضد ظهور المستبد، فالاستبداد يساوي الملك في أغلب الأحيان. فالزعيم كما يقول كلاستر لا يحوز على أي نفوذ أو أي سلطة قسر ولا على أية وسيلة لإعطاء الأوامر، فالزعامة ليست مكاناً للسلطة، ولا أناس القبيلة عندهم أي واجب للخضوع. وكذلك يفعل الزواج الداخلي الذي يعزز من وحدة القبيلة في الداخل. والوظيفة الثانية: تمايزها عن الخارج. إن الحرب في المجتمعات البدوية، تقوم بوصفها سياسة خارجية، تتعلق بسياستها الداخلية. وعبر هذا فإن المقدرة الحربية لأية جماعة عشيرة أو قبيلة، هي شرط استقلالها وتمايزها، وعبر هذا يصح القول إن المجتمع البدوي أو البدائي إن كان ولا بد من هذا المصطلح الذي يسود في حقل الإناسة، هو مجتمع من اجل الحرب وهو في جوهره حربي النزعة، وتظهر الحروب كوسيلة رئيسية يستخدمها المجتمع البدائي من أجل منع التغيير الاجتماعي الذي من شأنه أن يدمر البنية السياسية للقبيلة. وعبر هذا نستطيع أن نفهم لماذا كان تاريخ المجتمعات القديمة البدوية والبدائية هو تاريخ الصراع ضد الدولة، بحيث يصح وصف هذه المجتمعات بالمجتمعات المضادة للدولة. ولكن هل يعني هذا ان هذه المجتمعات هي مجتمعات بلا سلطة؟ والجواب لا لأن السلطة كما يقول جورج بالاندييه في كتابه الموسوم ب"الإناسة السياسية" صفة ملازمة لكل مجتمع. لكن يمكن الحديث وكما أسلفنا عن سلطة مفرغة لأن المجتمعات البدوية تفصل بين حقل البلاغة والكلام وحقل السلطة ولا تزاوج بينهما كما تفعل المجتمعات الحديثة التي تجعل من هذر السلطة أوامر وبذلك تقدم الضمان على عدم تحول زعيمها رجل الكلام الى مستبد. وهذا لا يعني أن السلطة المفرغة تنشأ من فراغ مجتمعي مساواتي، فالمساواتية تظل تعبيراً عن عمومية الواقع وشكله الأكثر تبسيطاً. وفي السياق المساواتي التي تفرضه قرابة الدم وصلة النسب، يظهر في الواقع، وفي سياق التحالفات والتجابهات، أشخاص ذوو مقامات، وآخرون مسيطرون وزعماء عرضيون، ومستشارون من كبار السن وخصوصاً أثناء الحروب التي تسهم ببروز السلطة وبروز التفاوتات. فالتفاوت هو شرط السلطة كما هو شرط استمرارها أيضاً. فالمجتمع المساواتي لا يعني ان هذا المجتمع يعمل بتلقائيته القائمة على العرف أو العادة، فالسلطة تبرز كضرورة للحفاظ على القبيلة، وتنشأ من ضرورة مكافحة كل قصور يعرضها للفوضى، لكنها السلطة المفرغة من الإكراه. فالميكانيات الداخلية للعشيرة والقبيلة تعمل بصورة فاعلة على الحد من حيازة السلطة للإكراه ومن تكديس الثروات، التي تظهر جلية في المجتمعات الطبقية. فالثروة كما بينا تظل اعتباراً وليس امتيازاً، وتحدد بالتحديات التي تثيرها أكثر مما يميزها التراكم الذي يكشفها. * كاتب سوري.