الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    نهاية مشوار صالح الشهري في "خليجي 26"    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بدولة الكويت يزور الهيئة الوطنية للأمن السيبراني    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف إسرائيلي على حي الشجاعية وخان يونس    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن اتصالات الفاطميين بالفرنجة ودورها في انهيار الدولة الفاطمية
نشر في الحياة يوم 09 - 05 - 2000

لاشك في أن استيلاء الفاطميين على جزيرة صقلية سنة 296ه/ 908م ، بعدما كانت تحت سلطة الأغالبة، أضر كثيراً بمصالح الأمويين البحرية، وشكل خطراً على حدودهم البحرية، وعلى مراكبهم التجارية على حد سواء. واتهم بعض المؤرخين خلفاء بني أمية في الأندلس بالتعاون مع الأوروبيين ضد الفاطميين لاسيما لجهة المعاهدة بين الناصر وملك جنوه هوغو البروفانسي، وهو موضوع رد عليه الباحثون عدة.
الفاطميون والفرنجة
انعكس الخلاف العقدي والسياسي بين الدولتين الفاطمية والعباسية على موقف الفاطميين من الزحف الافرنجي، الذي اعتقدت القاهرة بادئ الأمر أنه يتوقف عند حدود بلاد الشام الشمالية ولا يواصل إلى جنوبها فلسطين حيث النفوذ الفاطمي.
كما يظهر أن القيادة الفاطمية لم تشعر بالخطر الفرنجي في أوله، بل ظنت أنها ستستفيد منه، ففي الوقت الذي انشغل فيه ملوك بلاد الشام الشمالية - وجلهم من السلاجقة الموالين للخلافة العباسية في بغداد - بدفع العدوان، قيل إن أصحاب مصر "لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، ودخول الأقسيس إلى مصر وحصرها، فخافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه ويكون بينهم وبين المسلمين. والله أعلم" .
أرسل الفاطميون، بتدبير الوزير الأفضل شاهنشاه ابن بدر الجمالي، وكان الحاكم الفعلي للبلاد، وفداً في مطلع سنة 492ه/ 1099م إلى الغزاة الجدد وهم على أبواب أنطاكية يعرضون عليهم الصلح والتفاهم على صيغة سياسية تكفل اقتسام البلاد الشامية بينهم . وشهد الوفد الفاطمي سقوط أنطاكية وما وقع لأهلها من المآسي والمذابح، ومع ذلك أظهروا حسن النية والعزيمة على إنجاز ما جاؤوا من أجله فرافقهم وفد افرنجي إلى القاهرة لمقابلة القيادة المصرية بهذا الخصوص .
وعرضت القاهرة على الغزاة الأوروبيين الانفراد بها على أن يبقى بيت المقدس تحت النفوذ الفاطمي، وأن يُسمح للفرنجة بزيارة الأماكن المقدسة وأداء طقوسهم الدينية بشرط أن لا تزيد مدة إقامة أحدهم بها عن شهر واحد، وألا يدخلوها بسيوفهم .
ورفض الفرنجة العرض، اعتداداً منهم بقوتهم من جهة، ولأنهم عزموا على تحقيق الشعار الذي جمعوا بسببه العامة والغوغاء وهو تحرير القبر المقدس وتخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين، من جهة أخرى .
وقد رأى جمهرة المؤرخين في ذلك تحالفاً صريحاً، واقتساماً واضحاً لمناطق النفوذ في شمال بلاد الشام على حساب السلاجقة، على أن يبقى جنوب الشام فلسطين تحت نفوذ الفاطميين الذين أهمّهم خروج دمشق من يدهم إلى يد السلاجقة حلفاء بغداد العباسية وما فتئوا يتحينون الفرص لاستعادتها.
ويقال بأن نصيحة الإمبراطور البيزنطي ألكسي كومنين لجموع الفرنجة الزاحفين باتجاه الشرق أن يتحالفوا مع الفاطميين ساهمت في حفاوة استقبال الوفد والاستماع إليه باهتمام . وقد كان التعاون والانسجام تاماً بين إمبراطور بيزنطيا والفاطميين .
وزيادة في تضليل الرأي العام العربي لمعرفة مقصدهم كاتب الفرنجة صاحبي حلب ودمشق أنهم لا يقصدون إلا البلاد التي كانت بأيدي الروم ، وهذا يعني كسب الوقت لتحقيق تجمعهم وأخذهم أهل الحصون على انفراد في طريقهم إلى القدس.
ومن الواضح أن الخلاف المذهبي والسياسي وما ترتب عليهما من صراع النفوذ بين معسكر أهل السنة والجماعة تحت قيادة الخليفة العباسي في بغداد، وبين الإسماعيلية تحت قيادة الفاطميين في القاهرة كان له أكبر الأثر على سوء النية المتبادلة بين المعسكرين، الأمر الذي فتح ثغرة واسعة في جدار الأمة، وترك الفرنجة يعبثون بالبلاد وقد أمنوا الردع الفاعل بسبب تفتت الصف الإسلامي.
وعلى رغم قوة الأسطول المصري والتنظيم الإداري الدقيق الذي عرف به الفاطميون، فإنهم لم يحركوا ساكناً لمواجهة حقيقية وجادة في وجه الزحف الافرنجي. ويصف ابن تغري بردي ذلك بعبارات مليئة بالأسى فيقول: "وكان الآمر يتناهى في العظمة ويتقاعد عن الجهاد، وما قاله الذهبي في ترجمته فبحق، فإنه مع تلك المساوي التي ذكرت عنه، كان فيه تهاون في أمر الغزو والجهاد حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه".
ويتابع المؤرخ المشهور بث همومه مقارناً حال الضعف والانحدار في عهد سلفه المستعلي الذي سقطت القدس في عهده، فيلتمس له عذراً أنه بذل جهده وأرسل جنده وإن لم يوفق في حركته بينما يرى الآمر جامداً أمام الهجمة الغربية بلا حراك: "وإن كان وقع لأبيه المستعلي أيضا ذلك وأُخذ القدس في أيامه، فإنه اهتم لقتال الفرنج وأرسل الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش بالعساكر فوصلوا بعد فوات المصلحة بيوم، فكان له في الجملة مندوحة بخلاف الآمر هذا فإنه لم ينهض لقتال الفرنج البتة".
ولا يلتمس العذر للفاطميين حتى لو استنهض أحد وزرائهم وحاول شيئاً فهو في نظره ليس بشيء ذي قيمة، ويفصّل سبب نظرته السلبية هذه عقب عرضه لأحداث أودت بملك بني عمار في طرابلس الشام وقد استنجدوا بسيدهم الفاطمي فجاءهم مدده بعد سقوط البلاد في براثن من لا يرقُب في مؤمن إلاَّ ولا ذمة، فيقول:
"قلت: ومن هذا يظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كل وجه، الأول: من تقاعدهم عن المسير في هذه المدة الطويلة، والثاني: لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر، ولو كان لعسكر الأسطول قوة لدفع الفرنج من البحر عن البلد على حسب الحال، والثالث: لم لا يخرج الوزير الأفضل ابن أمير الجيوش بالعساكر المصرية كما كان فعل والده بدر الجمالي في أوائل الأمر هذا مع قوتهم من العساكر والأموال والأسلحة".
ومثل هذه المواقف الانهزامية أججت تطلع الجمهور إلى شخصية مجاهدة تستردّ كرامة الأمة وتعيد الحق المغصوب، الأمر الذي رآه مؤرخو الإسلام متحققاً في صلاح الدين الأيوبي "فيما فعله في أمر الجهاد وفتح البلاد".
ولابد إظهاراً للحق أن نسجل هنا أن التقاعس أمام الفرنج، والتحالف معهم أحياناً، لم يقتصر على الفاطميين، بل تعداهم إلى بعض ملوك السلاجقة المحليين، الذين جمعتهم مواجهة الفرنجة أولاً ثم فرقتهم المصالح السياسية، وفضّل بعضهم اللجوء إلى عدو الأمس للحفاظ على موقعه في السلطة كما فعل المحيطون بالصالح إسماعيل بن نورالدين في مواجهة قوة صلاح الدين الأيوبي الناشئة.
كما لا بد أن نسجل بعض الصحوات الفاطمية، ولو كانت متأخرة، في مواجهة الزحف الافرنجي، ومن ذلك موقف الوزير الأفضل عندما أدرك أن الزحف الافرنجي يقصد الاستيلاء على بيت المقدس الذي كان تحت الإدارة المصرية، وكان كاتب حليف الفاطميين التقليدي، إمبراطور القسطنطينية ألكسي كومنين وسأله عن مدى تبعية القوات الغازية له أو قوة تحالفها معه، فأنكر الإمبراطور أي ارتباط بينه وبين الغربيين القادمين تحت راية الصليب.
وللأسف" أدى لين الفاطميين أمام الفرنجة إلى إغراء هؤلاء على المضي قدماً في مشروعهم الاستيلائي بعدما رأوا من ضعف القاهرة، وأطمعهم باحتلال القدس، فدخلوها بعد مقاومة أهلية شديدة استمرت أربعين يوماً، وانتهت بمذبحة مروعة يوم الجمعة 23 شعبان 492ه 1099م "كل ذلك وعساكر مصر لم تهيأ للخروج … وكان بالقدس افتخار الدولة مِنْ قِبَل المستعلي".
وبعد القدس اندفعوا باتجاه مصر نفسها. وسنرى التحالف الذي قام بين الفاطميين والافرنج ضد جند الشام بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين.
وكيف دار الأمر بقي دوْرُ الفاطميين في الوعي الشعبي العربي دورَ المتخاذل عن نصرة القدس، الرمز والقلب، وبقي الأمل الذي يراود الأمة أن تتحرر القدس الشريف من رجس الاحتلال، وهو أمر قدِّر له أن يتحقق لاحقاً على يدي السلطان الناصر صلاح الدين بعدما قضى على الدولة الفاطمية المحتضرة.
... وغربت شمس الفاطميين
يرى بعض الباحثين أن بداية نهاية الدولة الفاطمية تعود إلى سنة 467ه/ 1074م، السنة التي تربع فيها بدر الجمالي على رأس السلطة المصرية الفعلية، واتخاذه لقب أمير الجيوش، وهو اللقب الذي عرف به وزراء التفويض أرباب السيوف. فمرحلة بدر الجمالي كانت بحق مرحلة تغلّب السيف على القلم، وتحول البيت الفاطمي في عهده إلى صورة خارجية تسبغ شرعية السلطة على القادة العسكريين، الحكام الفعليين للبلاد دون أن يكون للبيت الفاطمي ورجالاته سلطة على الدولة وأجهزتها.
وقراءة شاملة للتأريخ الفاطمي تؤكد أن عدداً من المعطيات والتطورات، وليس تسلط العسكر وحده، كانت وراء نهاية الدولة الفاطمية التي قامت باسم المهدي من آل محمد ثم آلت أمورها إلى التفكك والضعف والتلاشي، لتصبح ألعوبة بأيدي القادة العسكريين ونساء القصر ، والحاجة المزمنة إلى نصير خارجي بعدما انقطع الأمل من قادة الداخل.
ومن هذه المعطيات انقسام البيت الفاطمي نفسه بسبب السياسة، فقد انقسم الإسماعيليون إلى مستعلية ونزارية عقب وفاة المستنصر بسبب تغيير نظام وراثة السلطة، إذ تم استبعاد ابن المستنصر الأكبر نزار، وكان قد تلقب بالمصطفى لدين الله ، وهو صاحب الحق بحسب النظام الإسماعيلي، وحل محله أخوه الأصغر أحمد الذي حكم باسم المستعلي بالله. فاستمسك فريق بإمامة نزار، كان أبرزهم الحسن الصبّاح زعيم فرقة الحشاشين، ورضي آخرون بإمامة المستعلي.
ولما توفي الآمر بأحكام الله سنة 524ه/ 1130م من دون وريث أعلن الحافظ نفسه خليفة سنة 526ه/ 1132م، فانقسمت المستعلية إلى حافظية وطيبية. ذلك لأن عقيدة الحكم عند الشيعة عموماً والإسماعيلية خصوصاً لا تجيز تجاوز الابن البكر في وراثة عهد أبيه، ولا تجيز كذلك تعاقب أخوين على الخلافة أو الإمامة، عدا اعتقاد الاثني عشرية في إمامة السبطين الحسن والحسين" رضي الله عنهما. فلما تجاوز الخلفاء الفاطميون ذلك انقسم أتباعهم انقساماً مزجوا فيه بين الدعوة والسياسة، وكان من نتائجه فقدان البيت الفاطمي لتماسكه الداخلي ولهيبته الخارجية، وجرأة الطامحين من أتباعه، والطامعين من خصومه للاستقلال عن القاهرة أو للاستيلاء عليها.
ومن الصحيح القول إن استعانة الخلفاء الفاطميين بالعسكريين كان نتيجة لضعف السلطة الفاطمية في ميدان السياسة والإدارة والاقتصاد، وعنوانَ مرحلة الاحتضار، وليس العكس. وباختصار" فقدت الدولة الفاطمية في مرحلة الضعف والتفكك التوازن اللازم بين السيف والقلم، فطغى الأول على الأخَر، وصارت الدولة والسلطة والجبروت فوق الدعوة.
ومن أبرز شواهد تخبط الفاطميين في آخر عهدهم، وتخليهم الواضح عن دولة العقيدة، ما فعله الحافظ بتوزير بهرام الأرمني والي الغربية، ليكون أول ارمني يبقى على مسيحيته ويتولى ولاية التفويض للفاطميين، فقد خلع عليه الحافظ خِلع الوزارة - بعد مقتل ولده وولي عهده حسن مسموماً - يوم الجمعة 16 جمادى الآخرة 529ه 1135م، ونعته بسيف الإسلام تاج الملوك.
ولم يلتفت الحافظ إلى شورى رجالات الدولة بعدم توليته لأن من شروط الوزير أن يرقى المنبر مع الإمام في الأعياد، ومن المعروف أن القضاة هم نواب الوزراء من زمن أمير الجيوش بدر الجمالي، فكيف يكون الكتابي ولي أمر المسلمين وقضاتهم؟
ولما توفي بهرام هذا في القصر يوم 24 ربيع الآخر 535ه 1140م حزن عليه الحافظ، وأمر بإغلاق الدواوين ثلاثة أيام حداداً عليه، وأمر بطرك الملكية في مصر بتجهيزه، وسار الحافظ في مقدمة مشيعيه وحوله أعيان الدولة حتى مدفنه في دير الخندق ظاهر القاهرة.
حضارة وحضور
كان للفاطميين حضور سياسي كبير جعل دولتهم في مصاف الدول الفاعلة على الساحة الدولية خلال النصف الأول من القرن الخامس الهجري، حين بلغت مملكتهم أقصى اتساعها، فقد امتد سلطانهم في عهد المستنصر ت487ه/ 1085م على مصر والشام وشمال أفريقيا، وجزر البحر الأبيض كصقلية وسردينية وكريت، والحجاز واليمن وعُمان والبحرين وأجزاء من الهند.
وتم امتداد جل نفوذهم بتقديم الدعاة على السيف، وكان منطلقه روحياً في معظم قسماته لا سيما في الأجزاء البعيدة كاليمن والهند وفارس، بل رفع أبو الحارث أرسلان البساسيري ذكر العباسيين من الخطبة في بغداد نفسها، بعدما استولى عليها، وجعلها للمستنصر الفاطمي سنة 450ه/ 1058م ، وبقي الأمر على هذا حتى هب طغرلبك السلجوقي إلى نجدة الخليفة العباسي القائم بأمر الله وأخرج البساسيري وأعاد بغداد إلى حوزة العباسيين والخطبة باسمهم بعد انقطاع دام أربعين جمعةً .
وارتبط امتداد الفاطميين الجغرافي والتاريخي بامتداد سياسي وعسكري وحضارة متميزة أفادت من تراكم التجربة في مناطق العالم المختلفة الخاضعة لهم - بشكل مباشر أو خضوعاً روحياً - من حدود المحيط الأطلسي غرباً وحتى الهند شرقاً، بما يعنيه هذا الامتداد الجغرافي الواسع من تنوع في الثقافات والحضارات والنظم الاجتماعية، والمهارات العلمية كالفلسفة، ومهارات الحياة الزراعية والصناعية والتجارية، مما بقيت آثاره حتى اليوم في تخطيط المدن وإنشاء الأبنية والمساجد والمدارس، وفي صناعة الخزف والصابون والعطور، ونسيج الصوف والقطن والكتان والحرير، وصناعة الورق، وصياغة المعادن والحلى لا سيما الذهب والفضة، وقد بلغ الذهب أقصى درجات النقاوة في العهد الفاطمي بفضل الوسائل الكيماوية المبتكرة .
ولا بد أن نشير بشكل واضح إلى تطور النظم الإدارية الفاطمية وجباية الخراج والضرائب، وتنظيم العلاقة بين المركز القاهرة والأطراف في وقت لم تتوافر فيه أية وسيلة من وسائل الاتصال المعروفة اليوم. ولا يشك في أن التنظيم الإداري كان متأثراً إلى حد بعيد بالتنظيم الدعوي الإسماعيلي نفسه.
ويكتب للفاطميين رعايتهم لأهل الذمة ، وتقديمهم في أعلى المراكز، في عصر عرف حساسية طائفية ومذهبية مفرطة، وشهد تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، واندلاع الحروب الافرنجية بكل أهوالها وتداعياتها. ومهما قيل في سبب ذلك من تفضيلهم الأقليات على الأكثرية السنية تبقى هذه المعاملة صفحة ناصعة ترد شبهات القائلين باضطهاد المسلمين لأهل الكتاب. بل إن أهم ما ميز منصب الوزارة في الدولة الفاطمية كثرة الوزراء من أصل مسيحي، وكان يعقوب بن كلّس، أول وزراء الدولة الفاطمية في مصر من أصل يهودي.
وقد ولّى العزيز الفاطمي عيسى بن نسطورس أمر مصر، واستناب منشا اليهودي في الشام، فكتبت إليه امرأة متظلّمة: "بالذي أعز اليهود والنصارى بمنشا وابن نسطورس، وأذل المسلمين بك، إلا ما نظرت في أمرئ.
وتسلط أهل الكتاب على المسلمين كان ظاهرة من ظواهر الدولة الفاطمية في مصر بسبب نفوذ رجالاتهم من الكتاب والوزراء وعمال الدواوين. وشهد المؤرخون القدامى من المسلمين والنصارى واليهود أن تسلّط الذميين واتساع سلطانهم بلغ حداً يستلفت النظر .
وكان الخلفاء الفاطميون يشاركونهم أعيادهم، فكانت تضرب في خميس العدس وهو قبل الفصح بثلاثة أيام خمسمائة دينار، فتُعمل خراريب، تُفرّق على أهل الدولة برسوم مفرَدة، صورة من صور رعاية الدولة للمناسبات الدينية القبطية .
وعلى رغم تشدد المسلمين في الخمر، وهي أم الخبائث، كان للنصارى في مصر الفاطمية ملء الحرية في صناعة الخمر والاتجار بها في ما بينهم، حتى باع كتابي في يوم واحد من أيام عيد الشهيد وهو عيد يرتبط بالنيل، اثني عشر ألف درهم فضة.
واهتم الفاطميون بالحركة العلمية اهتماماً كبيراً، وهم أهل دعوة تشكل مبرر وجودهم وسلطانهم، وبرعوا في إعداد دعاة الإسماعيلية إعداداً خاصاً يؤهلهم للمناظرة والنقاش، وأنشأوا الأزهر ودار الحكمة ودار العلم لتحقيق هذا الهدف، كما رعوا حلقات المساجد رعاية خاصة، فأوقفوا عليها الأوقاف، وحبسوا الأحباس، وأجروا الأرزاق. وأبرز ما يبهر الأبصار اهتمامهم بجمع الكتب، في عصر لم يعرف الطباعة واقتصر على النسخ باليد، وقد وجد الناصر صلاح الدين في قصورهم بالقاهرة سنة 567ه/ 1171م "خزانة كتب ليس لها في مدائن الإسلام نظير، تشتمل على ألفي ألف مجلد. قال: ومن عجائب ذلك، أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري. وكذا قال العماد الكاتب: كانت الكتب قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد. وقال ابن الأثير: كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد". ويقول العماد بأنه أخذ منها في عام 572ه/ 1176م ما يقرب من مائة وعشرين ألف مجلد، ونقل إلى الشام منها ثمانية أحمال .
وما يلفت النظر في الحضارة الفاطمية الموقف المتسامح من فني الرسم والنحت على خلاف موقف جمهور المسلمين المحرم للتصوير، فقد شجع الحكام الفاطميون المصورين وشملوهم برعايتهم، واحتذى رجالات دولتهم حذوهم، وانتشر الأمر واشتهر حتى أشار المقريزي إلى كتاب طبقات المصورين الموسوم بضوء النبراس وأنس الجلاّس، في أخبار المزوّقين من الناس.
* كاتب واكاديمي لبناني.
** مقاطع من دراسة اعدها المؤلف تتناول صعود الدولة الفاطمية وهبوطها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.