تكاد شهرة "صالون مونروج" تتفوق على اسم الضيعة التي ينتسب إليها، والتي تقع في ظاهر العاصمة. يرجع ذلك الى سمعته العطرة على المستوى الإقليمي والعالمي. واكتسب الصالون هذه المصداقية خلال السنوات الأخيرة عبر دقة اللجان ورئيستها "نيكول جينو" في اختيار المعروضات والعارضين. إنها التظاهرة النادرة التي أعادت الثقة الى تيارات "ما بعد الحداثة" بعد شيوع الفوضى والنمطية الاجترارية. أما هذا العام فتتفوّق أصالة العروض على الدورات السابقة في رفعة مستواها النخبوي. وشارك الفنان اللبناني جورج ندرة في هذه التظاهرة، وكان الوحيد من أصل عربي. أما المجسّم البانورامي والقريب من هيئة الماكيت المعماري الذي شيده في إحدى زوايا المعرض، فيعتبر من أنضج ما جادت به قريحته الفنية في السنوات الأخيرة. والفنّان من مواليد بيروت 1955، خريج معهد بيروت والمدرسة الوطنية العليا في باريس للفنون الجميلة. استقر في باريس منذ عام 1986. ويعمل مدرّساً للتصوير والرسم في محترفات باريس. وأثارت تحفته انتباه الكثيرين، توقّف عندها عمدة المدينة يوم الافتتاح مطوّلاً، مثله مثل الذواقة، واعتبرها البعض من أبرز أعمال هذه الدورة، وكادت تحصد الجائزة الأولى، ثم وقع الاختيار على المصوّرة الفوتوغرافية "تران نيكول". قدّم ندرة عمله على أساس لوحة تصويرية فعرضه منظمو الصالون في قسم النحت، وسرعان ما تدارك دهشته عندما تذكّر أن يتمسك بعقيدة اللوحة المحجّمة، وعدم الإذعان الى مسطّح جسدها الإقليدي. وهكذا حقق مجسّمه الفراغي ذلك التحول من مفهوم اللوحة الساكنة الى اللوحة المنحوتة في الفراغ مثل العمارة. معتمداً في إنشائه على شبكة شطرنجية متعامدة من الأسلاك المعدنية. تمثل هذه الشبكة الهيكل الداخلي الذي ستنتظم وفقه الإكساءات التالية. وانتظم مقطعها وفق تحدّب نصف كروي متعارض، مما أسبغ على الهيئة العامة تكوراً مثيراً. يقترب الحجم العام من نظام المكعّب وبحيث تقع اللوحة المركزية على مستوى نظر المشاهد المتوسّط القامة. يدعو العين أن تعبر من شبكة شطرنجية الى أخرى مركزية وأصغر، تحجز كل شبكة مفردات هندسية أشبه بوحدة العلامات الموسيقية في العمارة أي وحدة القياس. يسعى ندرة ما استطاع أن يدمّر التماثل الغرافيكي في هذا النظام، من طريق الخطوط الانفعالية المأزوقة، والمواد المتآكلة والهشة التماسك، حتى لتبدو بعض الأجزاء وكأنها أوراق خريفية تذروها الرياح أو ملصقات من أجنحة الفراشات. دعونا نجول في تفاصيل أو خبايا عمارة اللوحة. يبدو المجسّم من بعد وكأنه لوحة شفافة تجريدية مزروعة في جدار خاص، ثم نتبين أن هذا الجدار جزء من العمل، خصوصاً أنه يعتمد الإيقاع نفسه والتقسيمات، وذلك لتشكّله من مداميك بلوكات اسمنتيه متكاملة يعيد ندرة رسم فواصلها في طريقة عصبية بقلم الفحم الهش، وما أن نعبر الى مساحة اللوحة المركزية حتى يحدونا شعور أننا نتلصص من مشربية مشرقية: تردّ قدرتها على التراشح من حصرها بين لوحين من الزجاج. تستمر داخلها شبكة الأسلاك المتعامدة بقياس أصغر، تغلّف الأفقية منها بشرائط من ورق الأرز الملون بالأكريليك، ثم نعبر الى شبكة مركزية تتفرع عن الأولى. لكن وحداتها القياسية أصغر لأنها مقسمة الى الربع، ومنجزة من المواد الهشة نفسها ورق الأرز وخيوط الكتان والصمغ الحيواني وصباغات الاكريليك. تتلاشى أطراف هذه الكتلة بسبب رفيف موادها واهترائها. أما زجاج اللوحة المركزية فيكشف عن عناصر داخلية هشّة معلقة على جدار المعرض ومنجزة بدورها من المواد الرهيفة. يزداد تراشح العمل مع البيئة البصرية باستقباله انعكاسات الأعمال الفنية المجاورة، سواء داخل الزجاج الشفاف أو المواد الأخرى الشافة. ويستخدم ندرة مواد متهافتة بالغة الشحوب، سريعة العطب حتى لتبدو رقائق ورق الرز ونتف خيوط الكتاب وكأنها مشظاة من نتف القطن والشّاش الطبي. ولعله استرجاع لتهافت مدينة الحلم بيروت، بهياكلها المعمارية ذات الإيقاعات التنظيمية الحديثة، والمنخورة بآثار القصف وبصمات الحت والأكسدة. أما حيوية التعبير فتقوم على التعارض بين ديكارتية الهيكل العام وحدات القياس الهندسية من جهة وعلى المواد شبه العضوية. وكذلك فإن الحيوية الذهنية تتجاوز هذه الثنائية الديناميكية لتستعيد من مسرح العبث مشهديته، ومشاركة الجمهور في أداء طقوسه. ويمر المتفرج خلف المجسّم ليتلصّص من النافذة، وكأنها مشربية مشرقيّة. لم يأت وحي هذه الفكرة من دون مقدمات. ابتدأت الانطلاقة خجولة قبل عامين في "سمبوزيوم كوينك" كندا التصوير الشاب، إذ علّق الرسام ثلاث لوحات في السقف متدلية حتى مستوى نظر المشاهد. وسرعان ما انقلبت الى ثلاثة زوار مع أقنعتهم الكرنفالية. بدأت بشائر هذا التحول من جسم اللوحة المسطحة الى المجسّم المنحوت منذ أن كانت شبكة لوحة ندرة التجريدية تولّد لوحة جديدة. وهي نقطة الالتباس التي كانت تؤدي الى اتهام تجربته بالانفصام، وجمع لوحتين في واحدة. ولكن جمع معرض اليوم في لوحة واحدة مجسمة يعيد تصحيح نظرات هؤلاء بمن فيهم بعض أصحاب صالات العرض المحلية، الذين يمعنون في فرض أخطاء نظراتهم على المشهد التشكيلي اللبناني ما بعد الحداثي. تتضاعف غبطتنا أمام مجسّم ندرة عندما نكتشف فيه وبشكل صريح، تراكم خبراته السابقة وتطورها العضوي. وعلى عكس الكثيرين من مراهقي الحداثة في باريس الذين يقفزون من اللوحة الى المجسّم بمراهقة ببغائية. لعل أصالة المنحوتة كانت فرصة لإدانة التجارب الحداثية العشوائية، التي يعاني منها دعاة التغريب في لبنان وسواه. يحضرني أحد هؤلاء وهو ما زال منذ أشهر يعرض أباريق ماء ما بين بيروت والشارقة وفي معارض الدرجة الثالثة في باريس - وحين نستمع الى شروحه نجد أن بعض هؤلاء يفضلون الثرثرة الفارغة بديلاً عن الموهبة والتدريب والتواضع أمام عظم مسؤولية التوصّل الى مساحة عضوية حداثية غير مفتعلة. لا تحتكر تجربة جورج ندرة أصالة مخاض ما بعد الحداثة، فالأسماء التي تربّت على يد المعلم شفيق عبود كثيرة، من فاديا حداد الى ندرة ومن أمل سعادة الى شوكيني، والقائمة تطول. ونتعرف على جماليتها في كل مناسبة على غرار نبيل نحاس ويوسف عون وسواهما.