أُفتتح مساء السادس عشر من أيلول سبتمبر معرض الفنان السعودي المعروف عبدالله حماس، في صالة فيفاندي التي تقع في ساحة "فوج" التاريخية المغلقة، ويستمر العرض حتى السادس من تشرين الأول أوكتوبر عام 1999. ويعود فضل إقامة المعرض ونقل لوحاته وطباعاته الى "مؤسسة المنصورية" للثقافة والإبداع التي نشطت في السنوات القريبة في رعاية الفنون وإظهار رموز الثقافة التشكيلية السعودية في الداخل والخارج. ولعل من الجدير بالذكر أن اللوحة السعودية مثل غيرها من مساحات الثقافة مجهولة في باريس، لذلك فإن معرض حماس يعتبر منعطفاً في هذا الكشف والأول من نوعه ما خلا بعض التظاهرات العامة السابقة في معهد العالم العربي واليونسكو والتي لم تكن تسمن ولا تغني من جوع. والفنان من مواليد مدينة أبها 1953 ولكنه مقيم في جده، وكان حاز على ديبلوم معهد الفنون في الرياض، وهو يمارس التدريس الفني في جده وعرف اسمه ضمن حيوية مجموعتها المزدهرة والتي تجسّدت في "بيت التشكيليين" الذي شارك في تأسيسه وتسلّم مسؤولية إدارته لسنوات طويلة، ويعتبر واحداً من الأعمدة التأسيسية في الفن المعاصر السعودي وريادته التجريدة المحدثة. تثبت مادة المعرض شراكته مع زملائه في عائلة جده والمحترف السعودية من ناحية تأصيل اللوحة، والتنقيب الحميم في جدار الذاكرة وذخائرها الباقية عن أبجدية كرافيكية محلية، بحيث تتناسخ في حساسيتها الخصائص الثقافية، والتي تطبع اللوحة السعودية عامة بالروح التنزيهية غير المقلدة للطبيعة والموروثة عن السمة الروحية التي يوسم بها الفن العربي الإسلامي. ولكن تصوير عبدالله يتجاوز هذه الحدود العقيدية المشرقية الفولكلورية منها أم الشعبية ليحلّق في تشكيلاته مع امتداد الفراغ غير المحدود. تفرد اللوحة أجنحتها في حيز البيئة البصرية فتخرج من حدودها المتعامدة، تتسلّق الجدران المعمارية والطبيعية والبيئة، فتتناسل نظائرها وأحفادها من اللوحات الأخرى، وتنقلب من المعنى الانطوائي في اللوحة الى الجدار المعماري الإنتشاري المفضوح في الهواء الطلق وأشعة الشمس وكأننا في آزاء كتاب معرفي مفتوح. عرف الفنان منذ بدايته كيف يخرج من أسر إطار اللوحة وحدود السطح المحدود بالورقة والقماشة، حتى أنه ذات مرة وفي دورة بينالي القاهرة الدولي 1995 استجاب لدعوتهم بالعرض، وذلك بإرساله لوحة قماشية تجريدية يتجاوز طولها الثلاثين متراً طالباً منهم أن يقسّموها الى لوحات تفصيلية كما يرتأون وهكذا كان. وهذا الموقف لا يحمل أدنى بصمة من العبث، وإنما على العكس فهو يكشف خصائص لوحته الاجتياحية التي توحّد بين العالم التجزيئي أو الذري والعالم المجراتي، إذ تتطابق لديه المشاهد المناظر المجهرية والمشاهد الفلكية ويرى العالم والكون والوجود مثله مثل جلال الدين الرومي من أصغر عناصره، يرى أوقيانوس اليم من قطرة ماء وأقيانوس الصحراء من حبة رمل، ولعله ذلك التوحيد النسبي العريق بين ما كان أجداده يسمونه بالعالم الأكبر والعالم الأصغر والذي نعثر عليه في بيت الشعر "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر"، في هذه النسبية الوجودية لا يمكن الاقتصار في لوحته على جزء، وذلك لارتباطه العضوي بالكل. وهنا يبدو اختلافه عن تيار "المنماليزم" الذي يقنع بأدق المقاطع الهندسية، ذلك أن أعماله لا تبحث عن مثل هذا الاختزال السكوني وإنما تنحو منحى الاستجابة لقوة التداعي اللاواعي، تماماً كما بدأها الإنطباعي كلود مونيه في بداية القرن فأصبحت مناظره تطوق المشاهد ضمن دائرة كاملة. علينا الاعتراف على رغم ما توحي به طقوس حماس من حداثة أن فكرة امتداد اللوحة لديه مستمدة من ثقافته البصرية المحلية أو بالأحرى من ارتباط اللوحة بالعمارة، بجدران السيراميك والزيلليج والفسيفساء والزجاج المعشّق. ولعله أقرب ما يكون في توقيع وتلحين الفراغ الى تربيعات السيراميك التي ترتصف على الجدار من دون أية رغبة في التوقّف عند حدوده، وهكذا فانعكاسها يستمر في بحرات الماء، كما أن التحول من تربيعة حمّاسية أو سيراميكية الى مجاورتها يقارب ذلك التحول اللحني الرهيف والتجول بين المقامات في موسيقى الخليج عموماً والتي تعتمد على توقيع الفراغ الصوتي بالتصفيق وعلى تلحينه بالإنشاد الجماعي. وهنا نعثر على تواضع النرجسية الأنوية التي تطبع التجارب الغربية المماثلة. وعلى رغم أن قوة التداعي اللاواعي هي المسؤولة عن محتويات صور التربيعات في تكويناته المدماكية أو الشطرنجية المتعامدة فإن تجديداته تقع في حركية خامات وأنسجة وملصقات هذه النوافذ المربعة، وبالتالي فإن تنوعها كبير: تدميرها واعادة بنائها مرات ومرات يكشفان عن روح الفنان الباحثة عن مادة تشكيلية تعبيرية جديدة وهذا ما يفسّر رفضه التفريق الحاد بين التجريد بما فيه الهندسي والتمثيل الذي قد يحتوي على عمائر محلية وأشخاص. وفي مراجعة بسيطة للوحات المعرض نجد أنه يؤاخي في اللوحة الواحدة بين العناصر الهندسية كالمثلث والمربع والدائرة والشخوص النسائية المحلية. ولعل أهمية تجربة حماس تقع في هذا التوليف البرزخي الذي يكشف روحه المقدامة والتجديدية التي لا تتحمل كياسة وجمودية التعبير الخجول في اللوحة. من هنا تبدو سجاجيده الشمولية التي يفردها مثل صفحات ألف ليلة وليلة كأنها تدفع بالتعبير التشكيلي للخروج من قمقم اللوحة ومن قمقم المحلية الإنطوائية.