طبعاً، مثل الآخرين، كان يستبد بي الفضول لمشاهدة "متحضرات"، آخر فيلم للمخرجة رندة الشهال، وكان أقام الرقابة في لبنان ولم يقعدها بعد. لذلك، منذ اللحظة التي عرض فيها في باريس، أسرعت الى الصالة التي تعرضه أملاً بمشاهدة "موضوع الفضيحة الأخيرة" هذا. والحال أن كلاماً كثيراً قيل في هذا الفيلم، حتى قبل أن يشاهده كثيرون، وقيل أيضاً في ما يتضمنه من شتائم ومن اساءة الى الأديان، ومن عبارات جنسية تتلفظ بها شخصياته. وكذلك دار الحديث على تاريخ مخرجته السياسي، وموقفها النقدي من الصحافة. والحقيقة أن الفيلم بدا منذ البداية محيراً. ولا يسع المرء إلا أن يشعر بحساسية مفرطة حيال المناخ الاعلامي الذي أحاط به. لذلك رحت أمضي وقتي خلال عرض الفيلم، في رصد أصغر اشارة رقابية ظهرت بوضوح بعض كلمات الحوار التي وُجد أنها فاحشة، أبدلت حتى في العروض الفرنسية بإشارات صامتة محتها، وكذلك في محاولة اكتشاف ما الذي، في موقف الشخصيات وتصرفاتها وعلاقاتها وأسلوبها في التعبير، كان من شأنه أن يصدم. ورحت أتساءل طول العرض: أين هي النقاط التي تعبر عن رغبة رندة الشهال في الاستفزاز؟ وجعلني هذا كله أتيه عن الفيلم ومتابعته، موضوعاً ولغة. فكان لا بد من مشاهدته ثانية، لرغبتي في الانصراف الى حكايته والعيش مع شخصياته، وربما أيضاً لرغبة في حبه والدفاع عنه. فالسينما اللبنانية مقلة، بخيلة في انتاجها. وإذ يعرض، لمرة نادرة، فيلم لبناني في صالة باريسية، كان من الطبيعي استغلال الفرصة ومشاهدته بإمعان. ثم ان هناك دائماً نوعاً من التعاطف مع رندة الشهال التي تبدو دائماً كأنها تحارب الجميع وحدها، مدافعة عن "خيراتها" ضد جمهرة النقاد المعادين لها. ويتبدى هذا صحيحاً إن نحن تذكرنا أن ما من كلمة نقدية، بالمعنى الحقيقي للكلمة، نشرت عن الفيلم في لبنان، لأنه لم يعرض على نطاق تجاري بعد هناك. وحتى الصحف الفرنسية اقتصرت في حديثها عن "متحضرات" على تناول خطاب يدور فقط من حول الرقابة التي سبقت عرض الفيلم والاستياء الذي تسببت به. ومن هنا بدا أنه تعرض لرقابة مزدوجة. وكانت النتيجة أن أسلوب تناوله اعلامياً، حال دون مشاهدته بصفته عملاً سينمائياً يجب أن يحكم عليه بصفته هذه. وأصبحت قضية الفيلم سياسية: قضية حرية التعبير، ومسألة تنديد وفضح ومسؤولية وشعور بالذنب. لذلك توجهت وشاهدت "متحضرات" مرة ثانية. وكانت خيبتي كبيرة. سينما النيات ينتمي "متحضرات" الى نوع من الأفلام يمكن تسميته ب"سينما النيات". فرندة الشهال عاشت الحرب اللبنانية، ورأت بيروت تنهار، تمزقها أيدي أبنائها أنفسهم، وقد تحولوا همجيين. بل انها كانت داخل الحلقة الجهنمية وشاركت في رقصة النار بحصة من المسؤولية والفظاعة. رندة الشهال خاضت الحرب هي أيضاً، مثلنا جميعاً، نحن الذين كنا نتلقى ما يحدث في صمت، متواطئين في الرعب، نسعى دائماً الى الافلات بجلدنا، محملين الخطأ للآخرين، ونعتبر أنفسنا على الدوام ضحايا أكثر منا جلادين، أبرياء أكثر منا مذنبين. تغوص رندة الشهال، في هذا الفيلم، في عمق أعماق الحرب اللبنانية، تسبر أغوار هؤلاء الرجال من آباء وأبناء وعشاق، في حياتهم اليومية، وقد سكنهم الحقد وتحولوا ضواري. خلال الحرب اللبنانية، تلوثت في الواقع أيدي الجميع. من هنا لا تتوانى رندة الشهال عن توجيه الاتهام، ثم تلتقط انفاسها لتحاول أن تفهم. ثم تترنح غالباً قبل أن تتمكن من إبراز الحقيقة القاسية والعنيفة. وفي هذا الاطار، يبدو واضحاً لنا أن الرقابة التي طاولت الفيلم أخطأت التقدير. ويبدو فيلم رندة الشهال، في رغبته في تصوير الحرب اللبنانية منظوراً اليها من الداخل من دون أي تعاطف، ومن دون أدنى حياء مزيف، أشبه بفعل ندامة، همه أن يحرر صاحبه، وهو أمر يستحق هنا أن نركز عليه. لكن هذه الرغبة، مهما كانت نقية ونبيلة، لا تكفي وحدها لانقاذ الفيلم، لأن رندة الشهال، على رغم رغبتها في تعرية جنون هذه الحرب وعبثيتها وسورياليتها، لم تتمكن من تفادي الوقوع في مطب الكليشيهات. فالواقع ان معظم شخصيات الفيلم تبدو مصطنعة ومجمدة في أنماط اجتماعية، تنطوي أحياناً على مبالغة ووضوح، حتى يعجز المرء عن تصديقها حقاً. و كذلك يبدو وضع الشخصيات في سياق علاقات الفيلم وأحداثه مصطنعاً بدوره، ومفبركاً من ألفه الى يائه. فهنا تتعايش حكايات متعددة في فوضى كان يمكنها أن تكون انعكاساً لحال الحرب نفسها، لكنها إذ أساءت المخرجة الاستفادة منها تهاوت في سرعة وأغرقت الفيلم في حركة تكرارية انتظامية من دون مفاجآت، وأصبحت أشبه بالمجيء والذهاب بين الشخصيات التي باتت الكاميرا، مكتفية بتصفحها في شكل مسطح من دون أن تنجح في جعلها ذات حيوية أو حرارة. حكاية قناص هناك برناديت، الخادمة المسيحية الشابة ذات الوجه الملائكي، والتي عهد بها أخوها الى خدم آخرين. وهناك تيريز وميشال وسليمان، الذين يحرسون معاً قصر أسيادهم، وهو عبارة عن دارة مسكونة بالذكريات والموت. وهناك من الناحية الأخرى، مبنى مهدم، يشبه مدينة نساء. وفيه، بالفعل، نساء يحاولن أن يبقين على قيد الحياة، خادمات سري لانكيات تركهن اسيادهن. وهناك امرأتان مصريتان شاذتان، علقتا في بيروت بسبب اهمال السلطات الادارية لبلدهما لهما. وها هما هنا من دون جوازي سفر، ومن دون مال يمكنهما من العودة الى ديارهما. وهناك فتيات ليل يعملن لدى ماريكا، وفيفيان البورجوازية المنهارة العائدة من باريس لتلتقي عشيقها الذي يبدو لنا كالشبح لأننا بالكاد نلمحه... في هذا المبنى ليس ثمة سوى نساء. أما الرجال فيمرون مرور الكرام لا أكثر. بين هذين الحيزين المغلقين، واللذين يبدوان على رغم كل شيء، محميين، يبقى ما يمكن تسميته بأماكن الخطر، أماكن المواجهة والقرارات المفتوحة على الاحتمالات كافة. والمتحكم هنا هو القناص في مكمنه، مرابطاً في أعلى بنايته بين السماء والأرض، كأنه سيد كلي القدرة، له سلطة اختيار من يجب أن يقتله، ومن يجب ألا يقتله، بين أولئك الذين يعبرون داخل مدى منظاره وبندقيته. وهذا القناص يؤدي دوره تميم شهال، شقيق المخرجة التي رسمت له الدور، على ما يظهر، ليبدو اعتذاراً منها له عن دور سابق، هو دوره الخاص الذي سبق له أن أداه في فيلمها ما قبل الأخير "حروبنا الطائشة". وضمن اطار أماكن الخطر، هناك ذلك المعبر بين الشرق والغرب، حيث تكمن مجموعة من رجال الميليشيا المسلمين، زارعين الرعب، وهم يؤدون دور الأشقياء القساة، مع أنهم ليسوا في النهاية سوى أطفال كبار انحرفوا، وقد نسوا أحياناً لماذا هم يقاتلون، ومَن يقاتلون. غير بعيد من المكان، هناك المقبرة المسيحية التي تبدو أشبه بوكر للجرذان ويسكنها مقاتلان يسيطران على الموتى فيها، غير تاركين لهم حتى أن ينعموا بهدوئهم والسلام. هذه الحكايات والمجموعات المختلفة تنتظم في الفيلم، في منظومة يجعل كلاً منها متحلقة من حول حيز محدد، يجعلنا نشعر كأننا في فصول مسرحية حددت في شكل لا يسمح بأي تجاوز لها. أما العلاقات التي تنمو بين الشخصيات فإنها هي أيضاً محدودة بالأماكن التي تنتمي اليها والتي تؤدي دور الجامع المشترك: ان المكان هو الذي يحدد الانتماء الديني والطائفي والاجتماعي للشخصيات، ويحدد بالتالي، علاقاتها بعضها ببعض، ومشاعر الحب أو الكراهية التي يمكن أن تحرك تلك الشخصيات. هذا التقسيم المكاني في الفيلم، والذي يتماشى مع صورة انقسام المدينة خلال الحرب، ربما كان من شأنه أن يصبح ميزة فيه لو أن مخرجته اهتمت أكثر بإظهار أهمية المكان في غياب أي مرجعية أخرى، وكذلك أهمية الأشياء التي تنتشر في المكان، اضافة الى الرابطة العضوية والجسدية التي تقيمها الشخصيات مع تلك الأشياء. إلا أن رندة الشهال تهمل تماماً هذه الأهمية التي تطاول كل ما هو مادي، وكل ما يبدو ذا قيمة أكيدة في بلد لم تعد فيه للحياة البشرية أي قيمة، تهملها وإن كانت تعبر بها بعض الأحيان. ومع هذا من الواضح أن هذه الأهمية هي ما يبدو الأكثر صحة والأكثر حقيقية بالنسبة الى الشخصيات: من التكالب الذي تبديه تيريز، الخادمة العجوز، في تنظيف فضيات سادتها، والاعتناء بأوانيهم الخزفية وهي تردد انها انما تريد أن تنقذ ما هو أساسي، الى الاهتمام الذي يبديه ميشال - الأب القاتل الذي يأكله الحقد - بسيادته، وصولاً الى انتظام خادمتي فيفيان الفيليبينيتين، في تنظيف شقتها حتى حين تكون غائبة. وكذلك مبالغة المصريتين الفانتازية في اختيارهما ملابسهما وارتدائها والتجمل بها ثم خلعها. ولنضف الى هذا فيفيان، فيفيان بأطقمها المتميزة وأثوابها الحرير السخيفة وسط ديكور ينبئ بيوم الحشر، وحماماتها واعتنائها بأظافرها. حوار مع الأشياء المادية وحتى القناص نجده يراكم الأشياء المادية من العربات الدمى، الى الصور والأيقونات الدينية، والمخططات العلمية واضعاً على الدوام يداً عاشقة فوق بندقيته التي يعاملها مثل زينة تجمّل المكان. وحدها برناديت، الخادمة الشابة التي من الواضح، منذ أول الفيلم، ان مصيرها أن تصبح قرباناً، وحدها برناديت تفلت من أسر الأشياء المادية. فهي ليست في حاجة الى هذا لكي تشعر انها حية، فيما الآخرون يعيشون حيوات متهافتة مرفوضة، بحيث ان الاشياء المادية هي التي تسمح لهم أن يشعروا ان لديهم سلطة وانهم يعرفون شيئاً ما، ويحافظون على وظيفتهم في الحياة. في المقابل، تبدو لنا برناديت حرة. انها لا تشعر بالانتماء الا الى ذاتها، ساذجة في نهاية الأمر، عنيدة، تندفع بالغريزة، وشديدة الحسن. وهي، في خاتمة الفيلم، لن تتردد في ابدال اسمها وملابسها، مؤكدة بذلك اختلافها، ومعجلة، في النتيجة، بسقوطها النهائي. فحين تغير برناديت، وقد صار اسمها ياسمين تماشياً مع حبها لمصطفى، ثيابها لكي تذهب وتحضر أوراقها من الطرف الآخر من المدينة، مرتدية ثوباً يبدو واضحاً أنه يبرز جمال جسدها، تلوح لنا وقد رسمت علامة انتقالها من حال الطفلة الى حال المرأة، والمرأة الحرة تحديداً. وموتها، عند نهاية الفيلم، وإن كان محتماً ومتوقعاً، يبقى من نوع الموت الذي يصدم، لأن هذا الموت يرمز، من ناحية الى كل الرعب الذي اندفعت فيه بيروت، الرعب المتكرر في شكل آلي، والمقبول الذي أصبح عادياً، ويرمز، من ناحية ثانية، الى الهوة المتسعة بين الرجال والنساء. فالرجال في الفيلم جبناء مهووسون بالحقد والغضب، يخفون ألمهم في القتل، جلادون اقفلوا ارواحهم وقد حركهم الظمأ الى السلطة والثأر. أما النساء فهن الأقوى، والأكثر كرامة وانفتاحاً، والقادرات بعد على الحب والتعاطف، واللواتي، وإن كن يقبلن، ظاهرياً، قواعد لعبة الحرب، يسعين في الحقيقة الى النضال ضدها والتحرر منها. في هذا الاطار يبدو "متحضرات" أيضاً، رصداً مراً لماهية المجتمع اللبناني، كمجتمع ذكوري النزعة هرمي الطابع وعنصري. وشخصيات الفيلم هي إما شخصيات سادة وإما شخصيات عبيد. وفي غياب السادة يقوم العبيد المنتمون غالباً الى الأقليات، باضفاء طابع هرمي على العلاقات في ما بينهم: عبيد/ سادة، وعبيد/ عبيد، عبر علاقات متذبذبة، علاقات مسيطر / مسيطر عليه، قد تبدو في بعض الأحيان شديدة الختزالية. فإن كان صحيحاً أن اللبنانيين يظهرون، منذ البداية، مكانتهم الاجتماعية، في علاقتهم مع الآخر ويندفعون مهرولين خلف الامتيازات المادية التي يمكن الحصول عليها بفضل امتيازاتهم الاجتماعية، فإن رندة الشهال، عند محاولتها التدليل على هذا، تقع في فخ الكاريكاتور، عبر متابعتها مواقف هزلية توهن من قوة سردها. فما ينقصها في هذا الاطار، المسافة الضرورية، واللؤم النقدي اللذان كان من شأنهما ان يمكناها، عبر الهزل، من رسم الصورة العبثية والمؤثرة لمثل تلك المواقف. غريب ولا مكان له في هذا الاطار نلاحظ كيف أن المشهد الذي يجمع بين فيفيان وعاملة تجميل الأيدي والكلاب، يحفل بمختلف ضروب الثقل، ويبدو عابقاً بالمغالاة واللاواقعية. وحتى الفقرة المتعلقة بعاملة تجميل الأيدي هذه تبدو هنا متهافتة لا لزوم لها. وكذلك هناك مشاهد عدة أخرى تعبر الفيلم من دون أن تجد لنفسها أي مكان في سياقه، مسيئة بالتالي الى هيكلية السيناريو نفسها. فتبدو أشبه باسكتشات قصيرة وظيفتها تزيين السرد مضيفة اليه بعض مرح زائد، وغير متسق في سياق العمل ككل. وكذلك، فإن شخصية الطبيب عضو جماعة "اطباء بلا حدود" تبدو زائدة غير قادرة على الاندماج في الاطار العام للفيلم، فتبقى على هامشه. وربما كان ذلك لأن رندة الشهال شاءت له أن يؤدي تحديداً هذا الدور بالذات: دور المنقذ الغريب، صديق الجميع الذي أتى لينقذ البشرية، محاولاً أن ينقذ في طريقه أكبر مقدار من الأرواح. إنه ذاك الذي لا ينتمي الى أي فريق، ويعجز بالتالي عن العثور على مكان له، والذي، لأنه غريب ومتحضر وانساني النزعة نرى كل الميليشيات ترفضه، لأن لطفه ومهمته يذكران رجال الميليشيات بحقيقتهم القاسية. هو الذي، انطلاقاً من مهمته كمنقذ وعالم، يعتبر حارس القيم التي يدافع عنها، وبكثير من الرياء، غرب متحضر ينقذ نفسه بذلك من عذاب الضمير. فرندة الشهال تحمّل هذه الشخصية الكثير من الدلالات والرموز، ما يفقدها أي قدرة على جعلنا نتعاطف معها. واللحظة الوحيدة التي يبدو لنا فيها الطبيب مجرداً عن وظيفته، حين نشاهده داخل شقة فيفيان. ولكن بأي معجزة تراه وصل الى ذلك المكان؟ هذا المشهد يبدو مفبركاً، لا تماسك فيه ويجعل السرد أكثر اهتزازاً، ووجود الشخصية نفسها في الفيلم أكثر عبثية. في المقابل لدينا شخصية القناص الوحيد، العابر كلياً الى الناحية الثانية من المرآة، المتحالف مع الشيطان وقد تخلص تماماً من انسانيته. انه هو الآخر شخصية تضج بالرموز. عند بداية الفيلم يبدو كل ما فيه متطرفاً، الا ان جنونه، مهما كان عبثياً، يتبدى لنا قريباً ويمكن ادراكه. واللقطات الذاتية التي تسمح لنا بمتابعة خطواته وملاحقة ضروب تردده تكفي لجعله حاضراً، ولموقعته داخل الاطار السردي للفيلم. بل اننا نفاجأ بوجود شيء من التعاطف معه لدينا، وبشيء من العطف عليه، لأن المهمة الموكلة اليه، ثقيلة الوطأة، بعد كل شيء، وهو ينفذها كما ينبغي. لكن المؤسف أن رندة الشهال لا ترى هذا الرأي، إذ سرعان ما تجعله يغرق في مناجاة شاعرية، يعبر فيها عن ندمه، ذاكراً آلامه، متكلاً على الله، مسلماً أمره اليه. وهذا المشهد كله ثقيل الوطأة لا يحتمل، خصوصاً أن من الممكن اساءة تفسيره، إذ يجعل الشخصية تبدو سخيفة لا أكثر. ومما لا شك فيه أن رندة الشهال استخدمت هذا المشهد في سبيل ايجاد تبرير لهمجية القناص، وتفسير لأفعاله، لتجعله أكثر انسانية وتحاول مسامحته. بعد ذلك حين نراه يلعب الورق مع جثة تبدو شبيهة به، وحين توحي لنا رندة الشهال عبر ذلك بواقع أن القناص ليس وحشاً تماماً، وإنه يحتفظ في داخله، على رغم كل شيء بجانب انساني هش، فيه حاجة الى الرفقة وبعض الخوف، فإنها تكسر هنا الشخصية وتفككها وتضيعها. فقوة هذه الشخصية كانت تكمن في أن صاحبها فوق الجميع، مهيمناً على أرضه من أعلى برجه، سيداً مجنوناً يفرغ حقده ويجد خلاصه في الجريمة. وربما كانت رندة الشهال تشعر هنا أن لديها أشياء كثيرة تريد قولها، واظهارها: الحرب، اولئك الذين يخوضونها، الذين يتحملون قسوتها، الذين يرفضونها أو يتعايشون معها، الذين يعتقدون انهم يعرفون لماذا يخوضونها أو الذين لا يعرفون، الذين يكررون والذين يلحقون، الذين يموتون والذين يبقون. وربما كانت المخرجة راغبة في الإحاطة بالحرب اللبنانية ككل، بكل ما فيها من مشكلات، وفي التعبير عن فئات البشر كافة، من الذين طاولتهم الحرب في طريقها تأتي المخرجة على مشكلة هجرة سكان الجنوب، ومشكلة الأقليات الأجنبية، وتمر على هزيمة الأمة العربية. وكل هذا يبدو كثير الطموح بالنسبة الى فيلم واحد. من هنا ما يشعره المتفرج أن رندة الشهال تترجح بين حكاية وأخرى من دون أن تتمكن من تركيز عالمها الخاص. أحياناً تترك للمتفرج أن يتوقع الوصول الى اقتراحات جيدة، لكن هذه سرعان ما تختفي في الطريق، ما يجعل الفيلم منطلقاً في الاتجاهات كلها. والحال ان الفيلم كان سيبدو أكثر ثراء وقوة وكثافة لو أنه كان أكثر تركيزاً على موضوعه، ولو أن رندة الشهال ركزت نظرتها على بعض الشخصيات التي يبدو لنا أنها تركتها وتخلت عنها خلال سياق فيلمها، مع انها الشخصيات الأكثر قوة وصحة. من هذه الشخصيات شخصية الرجل الذي يروح ويجيء على الرصيف مردداً الأخبار بصوت رتيب، معيداً أصوات أولئك الذين التهمتهم المعارك، محصياً عدد الضحايا. انه يرفض أن ينظر الى الحرب على أنها واقع ملموس. بالنسبة اليه تبقى الحرب اخباراً بعيدة، وأرقاماً وأسماء من دون وجوه. انه لا يقبل أن يكون جزءاً من هذه الحرب، مفضلاً أن يسجل ما يحدث في شكل آلي. وهو يبدو هنا الأكثر منطقية لأنه يحاول أن ينقذ وعيه ويحميه. فهو عبر ترداده الأشياء نفسها من دون هدف واضح، يتحول طفلاً، ويصبح مثل طفل اليافطة الذي، هو، لا يريد أن يبقى طفلاً. فهذا الأخير، إذ يزرع اللافتات الكرتون المكتوبة بخط اليد، لتحدد موقع القناص، أو تصف ما تفعله ماريكا، يخترع لنفسه وظيفة. ويحقق رغبته في أن يكون فاعلاً في الحرب لينضم الى البالغين. ثم يسعى إلى الحصول على السلاح ليصبح عضواً في الميليشيا وقد خيل اليه أن الرجولة لا تكتمل إلا عبر المرور بالجريمة. بيضاء وأسود وحتى اذا كانت رندة الشهال تضيعهما بين الحين والآخر، فإن هاتين الشخصيتين اللتين تتقاسمان المكان نفسه وتشغلان، عملياً، الزمن نفسه على الشاشة، تعتبران رمزين قويين من رموز الفيلم. فاحداهما، إذ تلجأ الى التجريد لكي تتمكن من مواصلة العيش، لم تعد راغبة في أن تظل بالغة، لمجرد أنها لم تعد راغبة في أن تتحمل أي مسؤولية. أما الشخصية الأخرى، فإنها في وعيها الباطني ترغب، وأياً يكن الثمن، في أن تكبر وتلمس النار، لكي تشعر أنها قوية ومسؤولة. هاتان الشخصيتان لم توفرهما الحرب، مثلهما في هذا مثل تيريز، وتيريز شخصية مقلقة ملتبسة حقيقية أكثر من الحقيقة نفسها، تؤديها بكل روعة الفنانة رينيه ديك التي لم تعرف رندة الشهال، ويا للأسف، كيف تستغل حضورها بأفضل ما يكون. فقصة الحب الحقيقية في الفيلم ليست قصة مصطفى وبرناديت التي وصفتها الصحف الفرنسية كحكاية روميو وجولييت على الطريقة اللبنانية، لأنها أشبه بكليشيه معالجة بطريقة روائية عبر لقطات مكبرة للعيون وللملامح تتقاطع مع لحظات صمت ثقيلة... الخ. قصة الحب الحقيقية التي تستحق أن تلفت المتفرج حقاً، هي قصة تيريز وسليمان التي يمكن اعتبارها كناية غامضة وقاسية لما كان يعتمل حقاً، في نفوس اللبنانيين خلال الحرب. فهذان الخادمان، هي البيضاء المسيحية، وهو الأسود المسلم، يتعايشان معاً، وقد اعتاد احدهما الآخر، على رغم الفوارق بينهما، حتى توصلا الى احترام متبادل وتفاهم، وتحابا في صمت من دون ان يبوح أحدهما للآخر بذلك. لأنهما يعرفان، على رغم حبهما، انهما لن يلتقيا أبداً، ولن يكونا أحدهما للآخر، لأسباب جوفاء يقبلان هما بها من دون ادراك. هو أسود، هي بيضاء. هي مسيحية، هو مسلم. وهذا الاذعان، خصوصاً من جانب تيريز لأن سليمان أجنبي وهو، بالتالي، حر، منعتق من القواعد المرائية المعمول في لبنان هو أعنف ما في الفيلم. فهذه الرغبة المثبطة الى الأبد، تبدو أكثر رعباً وإيلاماً من الموت ومن السجن الذي تعيش فيه تيريز، ومن طريقتها في مقارنة نفسها بالمسيح وبالقديسين، وفي الاصرار على الاعتقاد بأن المسلمين همجيون، وبأن السود أدنى من البيض، مع انها في قرارة نفسها تعرف أن هذا ليس صحيحاً، لأنها، هي، قادرة على أن تحب أسود مسلماً. فرفضها رؤية هذه الحقيقة هو ما يجعلها أكثر مأسوية بكثير. تيريز وحدها قادرة، بالتالي، على تجسيد كل تلك الحرب، خصوصاً في تلك اللقطة الرائعة، حيث نرى ذراعيها ويديها، تتأرجح في نضال عبثي، ونسمع صوتها مترنحاً ممحواً يقول لبرناديت بكل ما لديها من خوف ويأس: "سيقتلونك. كل القرية ستقتلك". من "متحضرات" كله قد لا يبقى سوى هذه اللقطة لتيريز، وسوى لقطة أخرى لوجه طفل يختبئ خلف غسيل معلق لئلا يرى الرعب. انها واحدة من لقطات تعود الى العام 1975 وكانت رندة الشهال صورتها في شوارع بيروت. وتبقى كذلك، وخصوصاً، موسيقى زياد الرحباني التكرارية المريرة.