الكتاب: المغرب وأوروبا الكاتب: عبدالمجيد قدوري الناشر: المركز الثقافي العربي، 2000. لماذا مُنيت محاولات تحديث المغرب بالفشل؟ وهل يرتبط هذا الفشل بالعامل الخارجي أوروبا وحسب، أم أن أسبابه مدفونة في قلب المغرب، "في ذاتنا"؟ وما علاقة "الديبلوماسية"، و"مناهج التعليم"، بكل هذا؟ يحاول عبدالمجيد قدوري في "المغرب وأوروبا - ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر - مسألة التجاوز" المركز الثقافي العربي، 2000 العثور على إجابات لهذه الأسئلة. انه موضوع شائك، ومعالج - بطرق مختلفة - في كتب عدة. يحاور قدوري تلك الكتب حين يضطر لذلك. يقدم نقداً لمحمد أركون مثلاً، الذي "اكتسب... شهرة وضُخمت أعماله لأنه كان ينتج على النمط الأوروبي وزكّى فرضيات وأطروحات أوروبية، ومع ذلك فإنه بقي خارج النسق العربي الاسلامي، بل وربما خارج النسق الأوروبي" ص 35. وهذا النقد يقوده الى سؤال محمد عابد الجابري حول "الجنسية الثقافية" انظر "تكوين العقل العربي"، المركز الثقافي العربي، 1991، وهو سؤال نجد تشكلاً طريفاً له في مسألة غارودي الشهيرة، الذي يعتبره قدوري "جريئاً"، ولكن "متعالياً" وصاحب "صياح فارغ" أيضاً. ص 60. نقاشات أخرى من هذا النوع يُخاض فيها أحياناً مع جاك بيرك مثلاً عند التطرق الى الحروب الأهلية التي دمرت المغرب في مطلع القرن السابع عشر، جاك بيرك الذي اعتبر تلك الفترة "خلاّقة لأنها فسحت المجال للمكبوت والمهمش ليفصح عن نفسه". فهذه العبارات - يكتب قدوري - جميلة وحسنة الوقع لكن "التصدع" والكوارث التي عرفها المغاربة "لا تسمح بقبول ما ذهب اليه هذا المفكر"!. غير ان هذا النقاش على رغم أهميته لا يزيد عن كونه هامشاً على متن الكتاب. ذلك ان إنجاز قدوري الأساسي هنا يكمن في عودته الى "النصوص"، الى مخطوطات تلك الحقبة خصوصاً القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كي يسلّط نوراً على أوضاع المغرب قبيل وبعد وصول الأشراف السعديين الى سدة الحكم وابتداء "المحاولات التحديثية" والمباشرة ببناء الدولة السعدية التي ستأتي نهايتها من وقوعها "رهينة وجيسة جيشها". أنظر "تاريخ المغرب" لعبدالله العروي. يخصص قدوري القسم الأول من كتابه لدراسة "الإطار النظري لظاهرة التجاوز" لماذا تجاوزتنا أوروبا؟ عبر تعريفه بمفاهيم صارت "تراثاً" عند المفكرين المغاربة. مفهوم العقل عند المسلمين، مفهوم العقل عند الأوروبيين، العقل في تاريخ المغرب، الحداثة في الثقافة العربية الاسلامية، حداثة أوروبا، أسس التغيير في تاريخ المغرب. هذا "التراث" بات مدخلاً لكل كتاب جديد - في هذا الباب - ويجوز لنا تجاوزه الى قلب الكتاب مباشرة موجزين اطروحة المدخل بالتأكيد على: "أهمية" الالتزام النهائي بمنطق العقل التاريخي كلمات عبدالله العروي في "العرب والفكر التاريخي" كما يستعيدها قدوري ص 39، وبالتنبه الى هذه الحقيقة البسيطة - بساطة تعريفات ابن منظور 1232 - 1311 م في "لسان العرب" كلمتي "ح د ث" وع ق ل" كما يسترجعها قدوري - الحقيقة البسيطة، والتي في بساطتها يكمن جوهرها، "فالاجتهاد مفتاح الحداثة في المجتمعات الاسلامية لكنه لن يتحقق - في اعتقادنا ما دامت شروطه التاريخية غائبة". ص 60 يتم تقسيم عملية الغزو البرتغالي لسواحل المغرب الى مرحلتين: تبدأ الأولى سنة 1415، باحتلال البرتغال لمرفأ سبتة المغربي، وتنتهي في 1486. انها مرحلة تطلبت من البرتغال "مجهوداً ضخماً" وتضحيات كبيرة، إذ "تم الاحتلال على الطريقة التقليدية بأساطيل وجيوش، مما يجعله شبيهاً بحروب القرون الوسطى ومخالفاً للروح الحقيقية التي صبغت التوسع البرتغالي في افريقيا" ص 102، والاعتماد هنا على كتاب أحمد بوشرب: "دكالة والاستعمار البرتغالي الى سنة إخلاء أسفي وأزمور". وأما المرحلة الثانية للتدخل البرتغالي والتوغل في "المناطق الجنوبية" فتبدأ سنة 1486 وتنتهي في 1515، وفيها استعمل البرتغاليون "أسلوباً جديداً في الغزو" هو "العمل الديبلوماسي والسياسي" الذي يمكن تلخيصه بكلمة "معاهدات". إذ جعل البرتغاليون - أصحاب الدولة التي تقل مساحتها عن مئة ألف كلم2 - يعقدون معاهدات منفردة مع مدن الساحل والداخل المغربي بغية تأمين مصالحهم التجارية في مقابل تعهدهم بحماية هذه المدن - والتجمعات - من الاعتداءات. ان الصورة التي تقدم في هذه الصفحات مؤثرة. فالبرتغال، الدولة الصغيرة، تتمكن بأسطولها البحري، وبنهجها المغامر الذكي، من اختراق القارة الافريقية. "البقعة السوداء" على خريطة العالم كما لاحظ المستكشفون، وهي عبارة عمّمها رحالة من طراز ريتشارد بيرتون، الذي ترجم "ألف ليلة وليلة" الى الانكليزية في 16 جزءاً، كما عمّمها أيضاً كونراد في أواخر القرن التاسع عشر لدى كتابته "قلب الظلام" وهذا الاختراق يتم بالأسلوب المكيافيلي القديم: "فرِّقْ تسُد"، وباللعب على تناقضات الجماعات في المغرب. ينتبه قدوري الى تفصيل ذكي في لغة تلك المعاهدات بين ملك البرتغال وأهل أزمور أو أهل ماسة مثلاً. معاهدات من 1486 و1497، يرجع المؤلف الى نصها الأصلي ملاحظاً ركاكة أسلوبها وكثرة الأخطاء والألفاظ العامية فيها، كي يطرح هذا السؤال - الاستنتاج: أهي معاهدات مكتوبة أصلاً باللغة البرتغالية وما نقرأه هو الترجمة السيئة لها؟ هذا الأسلوب في التقصي - الذي نجد بعض ألمع صوره في أعمال ميشال فوكو - يتابعه قدوري أيضاً مع نصوص أخرى، من مذكرات كولمبوس الشهير ورسائله، حيث المستكشف يخاطب ملوك أوروبا الكاثوليك هكذا: "أصحاب الجلالة! لقد استطعتم خلال هذه السنة 1492 ان تنهوا حروبكم ضد المسلمين الذين كانوا يحكمون في أوروبا، أخرجتموهم من غرناطة، ورأيت الأعلام الملكية ترفرف فوق أبراج قصر الحمراء وأسوار غرناطة... وشاهدت آخر أمير مسلم وهو يغادر المدينة..."، أو من كتاب ليون الافريقي المعروف "وصف افريقيا"، الذي وضعه حسن بن محمد الوزان في مطلع القرن السادس عشر بطلب من البابا ليو العاشر، وختمه هكذا: "والحاصل أن ذلك ما شاهدته - أنا يوحنا ليون - مما هو جميل وجدير بالذكر... رتبت هذه المذكرات بقدر استطاعتي وألّفت منها في الأخير كتاباً عندما كنت بروما في العام الميلادي 1526 في العاشر من مارس آذار"، أو حتى من الأشعار الوطنية التي كتبها فرناندو بسوا - في إحدى شخصياته التي لا تُحصى - مطلع القرن العشرين. لسبب ما لا يثبت قدوري تاريخ كتابة هذه الأشعار فتظهر وكأنها كتبت أواسط القرن السادس عشر! وهذا لطيف ومعبر. إذ تغيب للحظة حدود الزمن، كما غابت حدود المكان في حياة الوزان أو يوحنا، بين افريقيا وروما، وقبله بزمن بعيد، في سنة 1154، في بلاط الملك روجر الثاني في صقلية، في حياة الإدريسي وهو يؤلف كتابه الشهير "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" ويرسم تلك الخرائط المذهلة لعالمنا حيث جهة الشمال في أسفل الخارطة والجنوب في أعلاها!. تلك "نصوص الآخر". من "نصوص الذات" يستدعي قدوري ثلاثة نماذج تمثل ثلاثة تيارات: أولاً، تيار يعود الى الماضي ل"توليد الطاقة الأساسية" لتمكين المغاربة من مواجهة الغزو الايبيري. وقد أرجع دعاة هذا التيار، سبب تشتت المغاربة والمسلمين عموماً الى ابتعادهم عن الاسلام. وكتاب "تبنيه العامة والخاصة على ما أوقعوا من التغيير في الملة الاسلامية" للهبطي، هو النموذج الممثل لهذا التيار. هل يجوز أن نسميه كتاباً وهو - للأسف - لا يزال مخطوطاً! وقدوري يعود إليه في الخزانة الحسنية ليقرأه. ثانياً، نموذج "وصف افريقيا" للوزان، الذي نعتبره من "الذات" أيضاً، إذ يرد تحت العنوان الكبير "الغزو الايبيري في الكتابة المغربية". فهذا الكتاب يعطينا "فكرة واضحة عن ذهنية المغاربة مطلع القرن السادس عشر". وهذا نموذج يمثل نفسه الوزان - العالم - الرحالة - صاحب النظرة الكونية الفريدة أساساً. ثالثاً، تيار "قد نسميه اصطلاحاً بالاتجاه الشعبي" وكتابة هذا التيار كانت "انعكاساً وانتاجاً للصدمة التي خلخلت المجتمع المغربي منذ فترة بعيدة واشتدت حدتها بسبب الغزو" ص 87. ويمكن اعتبار رباعيات عبدالرحمن المجذوب من تجلياتها، وكذلك ما كتبه محمد بن عسكر الشفشاوني: "دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر". وهذا مخطوط حققه محمد حجي ونشر في الرباط سنة 1976 انه تيار مهم، وقاعدته الشعبية واسعة، وسوف يصبح - بفضل "الزوايا" والتجمعات حول المشايخ الأولياء - تدريجياً، إطاراً أساسياً داعماً لحركة السعديين في الجهاد الذي تكلل بالانتصار الملحمي سنة 1578 في معركة وادي المخازن. وهنا نموذج من هذه الكتابة حول كرامات الأولياء: "وقف الشيخ يعتبر فجاءت كورة رصاص من مدفع وطاسي في صدره فثقبت قشابة صوف ووقفت على لحمه ولم تدخل فيه... ثم قبض الشيخ عليها بيده وقال هذه خاتمة ضربهم ثم رجع الى البلد..." ص 89. ان الرجوع الى هذه النصوص يحول البحث الى عمل ممتع ومفيد منتج للمعرفة في آنٍ معاً. فتحليل قدوري لأدبيات تربوية من القرنين السابع عشر والثامن عشر "القانون" للحسن اليوسي الذي اعتبره جاك بيرك "رمز الثقافة الهامشية"، و"مواهب المنان مما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان" للسلطان سيدي محمد بن عبدالله ينتهي الى خلاصات مهمة ومقلقة، قد تكون صدى لخلاصات العروي في بعضها، ولكنها أيضاً إضافة جديدة ومادة معرفية تفيد في عملية التراكم الأساسية، هذه العملية المطلوبة من أجل تحريك الجماد و"التغيير"، ذلك أن "محاولات التحديث التي عرفها المغرب محاولات انعدمت فيها الاستمرارية والتراكم لأنها كانت رسمية ومرتبطة بأصحابها فما كاد يغيب صاحب المشروع حتى تضيع الفكرة" ص 380. قدوري لا يريد ل"الفكرة" أن تضيع. انه يلاحق تشكلاتها منذ عبد الملك المعتصم الذي مات يوم معركة وادي المخازن، يوم انهزام اوروبا الذي وحّد المغرب تحت سلطة أخيه المنصور الذهبي، وحتى العلويين ومحاولة محمد بن عبدالله خلق المغرب الحديث 1757 - 1790. ان دراسة هذه المحاولات التجديدية على عهد دولتي الاشراف السعديين والعلويين، يُظهر أن فشلها يكمن أساساً في عدم تجذر هذه المحاولات "السلطانية" في قواعد وهياكل اجتماعية واقتصادية. أنظر ص 245. انه الانفصال بين طبقات الهرم، ونقصان الوعي، ومحاولة فرض "الخيالي" حلم السلطان على "الحقيقي" واقع الناس. لذلك أراد عبد الملك من صديقه الأسير الاسباني أن يؤلف عنه كتاباً ينشر في قشتالة. لذلك يتحول عبد الملك الى بطل في مسرحية لسرفانتس صاحب "دون كيشوت". لذلك أيضاً أنفق المنصور الذهبي المال في سبيل وضع كتاب يصف أمجاده ومشاريعه، لكنها مشاريع لن تتحقق، لأن الخلف عندنا لا يرث عن السلف إلا الكرسي والصولجان السيف، في هذه الحال. في الفصل الأول من كتابه، وتحت عنوان فرعي، "العقل في تاريخ المغرب"، يروي قدوري عن تشييد المنصور لقصر شريف بديع احتوى "أنواع البدائع وغرائب العجائب" الغشتالي في "مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا". كان قصراً "لؤلؤة عصره" أراده المنصور "على غرار الأسكوريال لفيليب الثاني" ص 49 لكن المولى اسماعيل سيعمد لاحقاً الى هدمه من أجل بناء قصور مكناس وحدائقها التي أرادها كحدائق فرساي، هذه القصور التي لم تلبث أن تهدمت وعادت حصيداً ومرعى للمواشي "ومقيلاً للكلاب" محمد بن الطيب القادري في "نشر المتاني"، الرباط، 1986. مسألة التجاوز هي هنا: لم يتهدم الاسكوريال بعد، وحدائق فرساي "ما زالت مفخرة في فرنسا" ص 50. غياب التراكم، والعودة الأبدية الى الصفر. ذلك يذكر بالقزويني، ابن القرن الثالث عشر للميلاد، حين يكتب في "مفيد العلوم ومبيد الهموم" دار الكتب العلمية، بيروت، 1985 في فصل عن "عجائب التاريخ" شهادة من عبد الملك بن عمر الليثي: "رأيت رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما بالكوفة في دار الإمارة بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان" ص 408. شهادة من هذا النوع تجعل المأساة أقرب إلينا من حبل الوريد. لكن التاريخ ليس بالضرورة عودة مستمرة الى البداية على رغم كل الأزمات التي نقع عليها في القسم الثالث من الكتاب. الكوارث الطبيعية، مسألة المشروعية في الحكم، البيعة كأزمة، الفتن والحروب الأهلية، احتكار التجارة الخارجية الخ.... ان تجربة المنصور الذهبي في احتكار زراعة قصب السكر، أو غزو السودان، من أجل تمويل الجيش و"الدولة"، سوف تتكرر - لكن بنجاح - بعده بمئتي سنة تقريباً، ليس في المغرب، وإنما في مصر، وليس باحتكار زراعة وتجارة قصب السكر، وإنما باحتكار زراعة وتجارة القطن. لا يعقد قدوري مقارنة كهذه بين الذهبي ومحمد علي. لكنها مقارنة جائزة. وهي - وهنا أهميتها - بطريقة ما تبحث على الأمل. ذلك أن التغير حاصل على الدوام. والخوف من البحر أنظر ص 336 - 355 الذي أدى الى سيطرة أساطيل أوروبا على ساحل المغرب يمكن تجاوزه. لنتذكر مرة أخرى تجربة محمد علي، والأسطول الذي بناه ثم نُكب بسبب وقوع محمد علي في دوامة الصراعات الكبرى بين تركيا وأوروبا. تغير الأطلسي كثيراً منذ اعتبره المسعودي في القرن العاشر للميلاد بحراً للظلمات عليه عرش ابليس. تغير المغرب كثيراً، منذ تراجعت أزمات وفتن القرون الماضية، عنه، تدريجياً. وهذا يعني أن التراكم المعرفي يحدث، لا بد أن يحدث، ولو تأخر، ولو تجاوزتنا أوروبا.