كثيرة هي المفترقات الصعبة والخطرة في تاريخ العرب المعاصر. وأكثر منها هي الأحزاب والمؤسسات والجماعات التي تصدت لمثل هذه المفترقات أو لبعضها، على امتداد الوطن العربي. لكن ما من حزب واحد قد تجاوز أكثر من مفترقات معدودة. والكثير منها - من تلك الأحزاب - ما تجاوز حتى مفترقاً صعباً أو خطراً واحداً. وكثيرة هي العناوين التي أطلقت على المقاومة ضد إسرائيل من جنوبلبنان. هي حين ابتدأت كان يشار إليها بالمقاومة الوطنية "و" الإسلامية، وكان لواو العطف هذه أهمية كبرى. وجاء وقت اكتفى البعض بالمقاومة الإسلامية، بينما فضل بعض آخر نعتها بالمقاومة اللبنانية حرصاً على مشاعر "اللبنانيين"، وبالتالي، حرصاً على الوحدة الوطنية. وأدلى البعض بدلوه باختصارها أو بتوسيع إطارها في كلمتي المقاومة الوطنية، وهنا كانت العمومية هي الحل. نقف اليوم على الضفة الأخرى من النهر، على الضفة الخصوصية لا العمومية، فهذه الوقفة ليست لتحليل أبعاد المقاومة الوطنية ككل، ولا لأحزابها أو مجموعاتها، وإن يكن كل منها يستحق الوقفة والتحليل، لكن لا بد من بداية، وقد اخترتها أن تكون مع الحزب الرائد في عمليات المقاومة، وأعني حزب اللّه. فماذا أضاف هذا الحزب إلى مسيرة العرب النضالية مع بداية القرن الواحد والعشرين؟ نادراً ما توقفنا نحن العرب لنحدد بعلمية وموضوعية من المسؤول عن هزائمنا، وحتى من المسؤول عن انتصاراتنا. من المسؤول حقاً عن "نكبة" 1948؟ من؟ خمسون سنة مضت ونحن ما زلنا نجد من السهل جداً إلقاء اللوم على تلك الدول العربية السبع مجتمعة، وحين نتجرأ على التحديد أكثر، نتوجه باللوم صوب جامعة الدول العربية! وكم كان المشهد مثيراً للسخرية، حين كانت أشد أجهزة الرقابة العربية صرامة في أكثر العواصم العربية جبروتاً تقبل بهذا النوع من النقد "غير البناء"، فلا تصادر مثل هذا النوع من الكتابات، بل ترحب به ضمناً. ومضت كل هذه العقود من عمر الأمة، وما زال النقد "غير البناء" سيد التأريخ والمؤرخين وبعد عشرين سنة من النكبة الأولى، لم يطرح السؤال بعمق وتفصيل وجدية بعد: من المسؤول عن النكبة الثانية؟ من المسؤول حقاً عما اصطلحنا على تسميته ب"نكسة" 1967؟ مَن؟ من المسؤول عن ضياع القدس مرتين في تلك النكبة وفي تلك النكسة؟ ومن المسؤول عن استمرار ضياعها يوماً فيوماً؟ مَن؟ ومن المسؤول عن انتصاراتنا؟ قد يبدو لنا أن الحديث عن الانتصارات أكثر رحابة، لتصور مخادع أو وهم لدينا بأن مثل هذا الحديث ينطلق من هامش للحرية أوسع مساحة، في دنيا العرب. لكننا مخطئون. جمال عبدالناصر الزعيم العربي، رائد القومية العربية، كتب عنه الكتّاب الأجانب حتى اليوم أضعاف ما كتب العرب. وكذلك كتبوا أضعاف ما كتبنا عن ثورة الجزائر، وعن انتفاضة الحجارة... ونحن، في زماننا هذه، ياليتنا نعيش لحظات من الهدوء مع أنفسنا ومع تاريخنا، كي نكتشف أنه كانت هناك حقاً لحظات انتصار. اليوم... ومن جنوبيلبنان، لم تكن هناك لحظة انتصار... مجرد لحظة انتصار. اليوم تحقق أول انتصار عربي حقيقي منذ اثنين وخمسين عاماً. منذ كانت تلك النكبة. اليوم انسحبت إسرائيل من جنوبيلبنان، كما لم تنسحب يوماً من أية بقعة عربية احتلتها. يا اللّه... يا اللّه... كم كان الثمن غالياً لانسحابها من سيناء! اليوم كان ثمن انسحابها من الجنوب غالياً جداً أيضاً، ولكن من نوع مختلف جداً أيضاً. لم يكن الثمن اليوم معاهدة سلام وتطبيع. لم يكن تسليماً لجبروت القوة الأميركية العظمى. لم يكن انفصالاً عن العرب أجمعين. كان جهاداً مشرفاً لأبطال بررة ولشهداء، سيبقى لكل واحد منهم في وجدان الأمة حب كبير، وتبقى دمعة لم نعد نعرف أهي من الفرح الغامر؟ أم من الكبرياء العائدة إلينا بعد طول انتظار؟ أم هي حقاً من الحرقة التي لا تفارقنا لغياب هؤلاء الشهداء الأحباء؟ نحن نواسي بعضنا بعضاً بأن مأواهم الجنة. نحن نعلم الأبناء والأحفاد على مر الأجيال أنهم كانوا ألفاً ومئتين وستة وسبعين شهيداً. نحن نملأ رفوف المكتبات روايات وأخباراً عنهم، وكيف كان لكل منهم آمال في الحياة، وحب للحياة، وكيف كان حبهم للّه، وللإسلام، وللحق، وللوطن، أكبر. نفعل ذلك كله. ونبقى... كلما ذكرناهم، وذكرنا أيام الفرحة هذه، وأيام الكبرياء هذه، نذرف الدمعة. أليست الدمعة الحرة ملح الحياة والبقاء؟ يكفينا أنها لم تعد دمعة قهر. إذاً، لنعد في أيام هذا النصر الحقيقي الكبير لنبحث عن تلك المفترقات الصعبة التي تمكن حزب اللّه من تجاوزها عبر جهاده اليومي المتواصل، ولنتوقف - ولو سريعاً - إزاء ما قدم لهذه الأمة من دروس وعبر. ولننطلق في كتابة هذه الصفحة من تاريخنا المعاصر، من المسؤوليات والخصوصيات، وليس كعادتنا من اللجوء إلى العموميات والكليات إما ادعاء بالحفاظ على الوحدة الوطنية كما هو شعار اليوم، وإما خوفاً من أجهزة الرقابة كما كان شعار الأمس. ارض المجابهة المفترق الأول: كيف تمت المعجزة؟ وكيف تحول لبنان البلد الأخضر الجميل الصغير في مرحلة "السلام الموعود" ما بين المحيط والخليج، إلى أرض المجابهة الوحيدة ضد إسرائيل؟ كيف تمكن الإنسان، الإنسان المجاهد المؤمن، من التغلب على كل الأوضاع المعاكسة لتيار جهادي تحت راية الإسلام، من الجهاد فعلاً، وعبر سنوات طويلة؟ وكيف تمكن من النصر؟ من البديهي أن هناك من ساعد، وقد كان هؤلاء دولاً وقيادات وأفراداً، ولكن... حتى لو لم يكن مثل هؤلاء فيما وراء الستار، أكان مثل هؤلاء المجاهدين ينتظرون؟ أم كان إيمانهم وجهادهم هما الشعلة التي تستقطب الآخرين؟ إن الاعتماد على الذات، وتجاوز مفترق ما سمي بضعف لبنان، وما كان يقال من أن قوة لبنان في ضعفه، هو المفترق الصعب الأول الذي تم اجتيازه. المفترق الثاني: لبنان الذي توقع له العدو الإسرائيلي أن يكون "بالتأكيد" ثاني بلد عربي يوقع سلاماً معه، أوصلته هذه المقاومة إلى أن يكون ثاني بلد عربي مقاتل وثائر ضد إسرائيل. بعد معركة الفالوجة والأسلحة الفاسدة التي انفجرت بأيدي الجنود المصريين، كانت هناك ثورة في مصر ضد الطغيان، وكانت تلك هي الثورة الأولى الحقيقية بوجه العدو الإسرائيلي. ولن يكون ما جرى في جنوبيلبنان هو الثورة الأخيرة، لكنه الثورة الثانية من حيث النتائج المتوقعة. فكما كانت ثورة مصر مصدر إلهام وقدومه لثورات عربية متعددة، سوف يولد من جهاد المؤمنين في هذا الجنوب أكثر من ساحة للجهاد، وأكثر من فجر مشرق. وما المظاهرات في رام اللّه، وفي غزة، سوى رسائل محبة وتواصل ووفاء، وكذلك مقدمات... إن هذا المفترق الصعب الثاني، يتلخص في المجابهة الصلبة الشجاعة التي ما استكانت للمخاطر، ولا للصغائر، في زمن تجتاحه المخاطر، وتسيطر عليه الصغائر. القرار المستقل المفترق الثالث: عاشت القضية الفلسطينية 50 عاماً وهي ترفع شعار عروبة القضية، وشعار القرار القومي بشأن فلسطين. ولا جدال في أهمية هذين الشعارين المتلازمين. لكن الإغراق في ما كان مدعاة إلى قذف المسؤولية على الجميع، جميع العرب، حتى بات الكل غير مسؤول، وحتى تحول البعض من الفلسطينيين إلى الشعار المضاد، أي شعار القرار الفلسطيني المستقل. التجربة مختلفة في جنوبيلبنان. وقد جاءت العبرة من مجاهدي "حزب اللّّه" الحزب الإسلامي، أي الحزب الذي يرتكز عقيدة إلى الإسلام، وقاعدة إلى العالم الإسلامي. جاءت العبرة منه بحتمية الجهاد من أرض لبنان، ومن أجل لبنان أولاً، وبقرار من مجاهدين لبنانيين، وبدعم معلن وواضح من رئيس لبنان، ومن حكومة لبنان، ومن شعب لبنان. ولكن لم يمنع هذا كله من أن يعلن السيد حسن نصر اللّه في احتفال انتصار المقاومة في بلدة بنت جبيل على الحدود اللبنانية - الفلسطينية، وقوفه ووقوف المجاهدين التام إلى جانب شعب فلسطين، وإلى حقوق شعب فلسطين، وكذلك إلى إعلان تأييدهم إلى غير الفلسطينيين من العرب أو المسلمين أو الأحرار في أي مكان، فهم مع كل قضية عادلة. هكذا تجاوز حزب اللّه المفترق الثالث الصعب، ما بين المحلية والإقليمية بلغة السياسة، وما بين الوطنية والعروبة بلغة الأمة الواحدة، أمة العرب. المفترق الرابع: ظهر حزب اللّه إلى الوجود حزباً مجاهداً بينما العالم الغربي الاستعماري، وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، يتبارى في إلصاق تهمة الإرهاب بكل من نادى بالجهاد الإسلامي، ونكاد نقول بالإسلام. صرحوا وعقدوا المؤتمرات وتنادوا دولا وكتّاباً لوقف "الإرهاب". واستعدت إسرائيل لتلعب دور الشرطي. وهي كما حاربت الشيوعية سابقاً، هبت اليوم لمحاربة الإسلام، بحجة الإرهاب. ولكن... ما بدا يوماً أن كل ما يجري من مسرحيات واتهامات وافتراءات يهم المجاهدين الشرفاء بشيء، أو حتى يعنيهم. استمروا يجاهدون كما يؤمنون. ولسان حالهم يقول: فلتأتي الدنيا إلى عندنا، وليراقب العالم إنسانيتنا وعدالتنا وجهادنا من أجل حقوق شعبنا. نحن لن نذهب إلى أحد. غير معنيين بإقناع أحد. ويا لهذا المفترق الرابع من مفترق صعب. تمكن حزب اللّه بعد تجاوزه من البرهان على أن المجاهد المسلم ليس إرهابياً! تمكن من البرهان على أن الأعداء الصهاينة هم الإرهابيون. المفترق الخامس: التربية على الجهاد في سبيل اللّه واليوم الآخر أساس من أسس العقيدة الإسلامية. وظلال الجنة هي الهدف الأسمى التي يؤمن المجاهد أنه إليها منتقل بعد استشهاده. ولكن ذلك لم يكن يعني لهذا الحزب المجاهد أنه كلما كان عدد الشهداء أكثر، كانت الأمجاد أكبر! وتلك هي فرضية كثيرين ممن سبقوهم. كثيراً ما استشهد خمسة أو ستة، وقيل عشرة أو قيل عشرون. وكثيراً ما قضى البعض في حادث سيارة قضاء وقدراً، أو تهوراً، وقيل عنهم شهداء. أما بعد اليوم، فما عاد ممكناً لزعيم سياسي أن يلجأ إلى عدد الشهداء وسيلة لإظهار زعامته. وما عاد ممكناً لقائد عربي ألا يحاسب على المخاطر التي يقود إليها جنوده، بلا روية وتعقل. ما كان أنبل قيادة هذا الحزب في المحافظة على أرواح مقاتليها، حتى تمكنت من قلب المعادلة، فما عاد يقتل من أبنائها أكثر مما يقتل في صفوف العدو، وكثيراً ما قتل من هؤلاء الأعداء أكثر! وكم تبدو هذه المعادلة "المقلوبة" أكثر أهمية حين نتذكر أن الساحة ليست حرباً بين جيشين، كما جرى ذات يوم على الحدود المصرية - الإسرائيلية، وكذلك على الحدود السورية - الإسرائيلية، أهم الحروب بين العرب وإسرائيل، ونعني بها حرب الاستنزاف. فالساحة ما بين لبنانوفلسطينالمحتلة ساحات وجبال ومواقع خفية، والمجابهة هي بين جماعات من المناضلين وبين جيش يقال عنه إنه أقوى الجيوش على امتداد الشرق الأوسط. ليس لهذا المنعطف الخامس الصعب، نتائج حسية ملموسة على الأرض، لكنه قد أحدث انقلاباً على الفرضية السابقة، كما أحدث انقلاباً في النفس البشرية. فهل أعظم من شعور المجاهد بأن قيادته تحافظ على حياته وكرامته حياً، وعلى ذاكره وعلى أسرته شهيداً؟ الانحدار العربي المفترق السادس: لو قارنا بين يوم الجنوباللبناني وبين أيام العز في تاريخ العرب والمسلمين. ومن حقنا أن نقارن، لجاءت المقارنة بداية ونهاية لصالح حزب اللّه، خصوصاً عندما نتذكر أنه ما من مرحلة تاريخية انتصر فيها العرب، وكانت فيها العوامل المتعددة، وعلى مختلف المستويات، أكثر سوءاً مما هي عليه في هذا العصر، عصر التردي. مع الانحدار العربي نحو الهاوية، ومع لهفة التطبيع والهرولة نحو السلام - أي سلام كان - مع العدو الصهيوني، من قبل معظم العرب، كان حزب اللّه هو النموذج المحتذى، إن في الرفض القاطع للتطبيع والاستسلام، وإن في المقاومة التي لا تجد خلاصاً لشعبها على غير درب المقاومة. إن القتال مع الزاحفين للقتال لأمر بحد ذاته يدعو إلى الجرأة والإعجاب، فما بالنا حين يكون هذا الزحف للقتال عكس السير؟ أي في الاتجاه المضاد للغالبية العظمى؟ ما بالنا والكثيرون من اللبنانيين، من الذين لم يجدوا بداً من إعلان "سعادتهم" لتحرير الأرض المحتلة، قد ابتدأوا بالإعراب عن مخاوفهم من المكاسب التي سوف يطالب بها حزب اللّه "تكريماً" له على "التحرير"؟ كم مقعداً يريد في الوزارة؟ بل كم مقعداً يريد حتى في مجلس النواب؟ والمعذرة لمثل هذه الأمثلة، وهي ليست اختراعاً ولا تصوراً، بل خلاصة أحاديث ابتدأت تبثها شاشات الفضائيات اللبنانية إلى العالم كله. وبينما الشعب ما زال يتراكض حنيناً وشوقاً لمشاهدة الأراضي المحررة. من الممكن أن تكون عملية التحرير قد تمت، ونهائياً. لكنه من المؤكد أن عصر التردي ما زال قائماً. وهذا يعني أن المنعطف السادس الصعب هذا لن ينتهي ما دمنا في عصر التردي. ومهمات المجاهدين أو المناضلين لا تنتهي بالتحرير من العدو، بل تستمر للتحرر من التردي... وليس هذا مجرد مفترق رئيسي، بل هو المفترق ما بين الأصالة والتفاهة، ما بين الإنسانية والأنانية، ما بين الكرامة الوطنية والصغائر المحلية. المفترق السابع: الايمان باللّه سبحانه وتعالى، وبرسالة الإسلام، هو الإيمان الذي يقود المجاهدين منذ عهد الرسول الكريم والصحابة المؤمنة ورجال الفتح. الإيمان هو الإيمان. لكن وسائل الحروب تتغير، والأسلحة تتطور، والخطط العسكرية وخطط المجابهات الميدانية على مختلف الأصعدة لا يمكن أن تتكلل بالنصر إن لم تكن قادرة على كشف نقائص العدو وتخطي امكاناته بالعقل والآلة، كما بالإيمان. حزب اللّه ليس دولة. وليس جيشاً. هو ليس الجيش المصري يوم جاءه كبار القادة السوفيات المتقاعدين للإشراف على عمليات حرب الاستنزاف، ولم يكن ذلك عيباً بأي حال من الأحوال، بل كان مشهد تعاون لا مثيل له في الصراع العربي - الإسرائيلي. أما بالمقارنة، وهي ضرورية، فنحن لا نعرف بعد من أين اكتسب المقاتلون في حزب اللّه مهارات معينة، لكننا نعلم أن مقاتليه كانوا بارعين وماهرين وقادرين على ملاحقة العدو الإسرائيلي باستمرار، وعلى تكبيده الخسائر البشرية والمادية، وباستمرار. وإلى حد، أن العدو لم يجد له من فرصة للبقاء على أرض فلسطين، غير الاستسلام على أرض لبنان. يا له من مفترق لا يتجاوزه غير المؤمنين المسلحين بالعقل والصبر والروية والصلابة التي لا حدود لها، وكذلك بالتواضع الذي لا حدود له. هناك مشهد آخر يماثل هذه المشاهد جوهراً، ويختلف معها شكلاً. يوم استشهد الشيخ عزالدين القسام صبيحة اليوم العشرين من تشرين الثاني نوفمبر 1935 مجندلاً على أحراش يعبد، لم تجد السلطات البريطانية معه غير ثلاثة أشياء: نسخة من القرآن الكريم" مسدساً كبيراً" 14 جنيهاً فلسطينياً. وربما اعتقد البريطانيون أنهم بقتله قد قتلوا روحه وإيمانه وأنهوا سيرته، لكن القسام الذي أعلن باستشهاده أن لا درب للقضاء على الصهيونية والانتداب بغير المقاومة المسلحة، قد بعث حياً في نفوس الشعب الفلسطيني قاطبة، فاشتعلت الثورة في العام التالي. هذا المشهد يتكرر مع حزب اللّه، جوهراً. أما ذلك المسدس الذي وجدوه ملقى إلى جانب الشيخ الشهيد، فقد تطور حتى بات بين أيدي مجاهدي حزب اللّه أسلحة حديثة تفتك بالعدو، على رغم امتلاك هذا العدو نحو 300 رأس نووي، وعلى رغم الترسانة الأميركية وراء ظهره. ولولا الإيمان في قلوب المجاهدين، لما تمكنت أسلحتهم وحدها من دحر العدو. ولولا الإيمان في قلب الشيخ القسام، لما تمكن مسدسه من إشعال الثورة في فلسطين. وهكذا، فحقيقة المفترق السابع هذا ليست اتباع درب من اثنين، بل المقدرة على الجمع بين الدربين، بين العقل والإيمان، بين الهدف المحدد والصلابة التي لا تلين. ولا تنتهي المفترقات الصعبة، وهي تتجدد مع كل زمن، وذاك هو جوهر الصراع. ولا نعني بالصراع مجرد الصراع مع العدو الخارجي، بل الصراع مع الذات، داخل أمتنا، وداخل نفوسنا. * مؤرخة فلسطينية.