المشكلة مع الكتابة عن جنوبلبنان القديم ان كل خبر اليوم في جريدة أو تلفزيون يذكرني بقصة قديمة، الا انني احاول ان اخرج من ذكريات ربع قرن حتى أواسط السبعينات، بما يؤسس لربع القرن التالي أو يشرحه. كنت في أيلول سبتمبر 1972 اقضي نهاية الأسبوع عند اصدقاء في مرجعيون، واستفقنا لنجد ان الاسرائيليين اجتاحوا المنطقة. وقضيت يوماً في سيارتي وراءهم من قرية الى قرية. وشاهدتهم في ساحة بلدة قانا التي كانت ضحية المجزرة المعروفة سنة 1996. وهي نجت من خسائر في الأرواح خلال ذلك الاجتياح القصير، ونشرنا في جريدة "الديلي ستار" صورة لجندي اسرائيلي يسرق بطيخة من "بسطة" لبائع كان اختبأ معنا تحت درج، ويعود بها الى دبابته. كنت اقف في مكان مطل في ثكنة مرجعيون، أو القلعة، وأرى الى الشرق راشيا الفخار وهي - لغير اللبنانيين - غير راشيا الوادي الى الشمال التي ولد الاستقلال اللبناني في قلعتها، وبعدها كفرحمام ثم كفرشوبا. أما مرجعيون فاسمها يعود الى كثرة عيون الماء في منطقتها. ويقال إن أهلها نزحوا اليها من حوران بعد مقتل الرجال في معركة لذلك تحمل اسرها المعروفة اسماء نساء مثل فرحة وسمارة وديبة وجبارة وغلمية. ووقفت يوماً في قلعة مرجعيون ومعي مدير مدرسة كفرحمام، وهو قال لي أن انتظر لأرى نسف مدرسته، فقد كان الفدائيون الفلسطينيون جعلوا من المدرسة مقراً لهم، وكان الاسرائيليون يعودون مرة بعد مرة وينسفون مواقع الفلسطينيين. وعندما نتحدث عن كفرحمام أو كفرشوبا الأعلى منها، فنحن لا نتحدث عن قرى كبيرة، وانما عن شارع واحد تقوم على جانبيه بيوت، هي القرية كلها. وقد نسف الاسرائيليون بيوتاً كثيرة في القريتين، قبل ان يجتاحوا المنطقة الاجتياح الكبير سنة 1978، ثم يعودوا سنة 1982 ليصلوا الى بيروت، وليؤسسوا الشريط الأمني بعد ذلك. غير أنني ابقى مع الذكريات الشخصية، فلا اذكر سوى طيبة اهل الجنوب وعيشهم معاً بسلام. وسجلت في المقال السابق انهم كانوا يقدمون لنا الخبز لأنهم لا يبيعونه في متاجرهم الصغيرة. واليوم اذكر فلاحة في حقل صرخت بنا "شلّتوا اي اقطعوا لِفت وكلوا، فقد كان كل ما عندها. ولا انسى مشهداً انسانياً مؤثراً عندما كنا نصطاد عصفور القمح الصغير، الذي يسميه اللبنانيون "مطوق"، في حقل بين العبّاسية ودير قانون النهر، فقد أسرع الينا فلاحون ورجونا ان نخرج من الحقل، حتى لا نكسر سنابل القمح وشرحوا لنا ان الحقل لأرملة مسنّة عاجزة، يزرعه لها الجيران تبرعاً. ودعانا الفلاحون للاصطياد في حقولهم، فهم ما كانوا ليتركون "ضيوفاً" قدموا من بيروت، يصطادون على جانبي الطريق فقط. وكما ذكرت سابقاً فقد كان لنا كلبان تركناهما دائماً برعاية مختار النفّاخية، وهو خال صديق لا يزال يقيم معنا في لندن. وكانت الكلبة "بشرى" سوداء بطنها ابيض، أما الكلب "بارود" فكان ابيض مع بقع برتقالية تفضح ملكيته الأصلية، فقد اخذناه جرواً من كلاب مشهورة للرئيس الراحل كميل شمعون كان يحتفظ بها في حدث بيروت. أتوقف هنا لأقول انه عندما جاء الزميل جورج سمعان للعمل في لندن، سألته من أين هو في لبنان، فقال انه من الجنوب. وسألته عن قريته فقال انني لن اعرفها. وقلت له ان يخبرني، فقال انه من دردغيا. وهو ذهل عندما وصفت له بيوتها، وما تهدم منها وما لا يزال قائماً، وحقولها، وما يزرع منها قمحاً وما يزرع بقولاً. كانت دردغيا على الطريق العام في مواجهة النّفاخية، وهي طريق تصل الى تل النحاس، حيث واجهت والاصدقاء الاسرائيليين، وسجلت التفاصيل في المقال السابق من منطلق الأمانة التاريخية، وليس تفاخراً. أهل الجنوب، وهم فقراء اصلاً، خسروا القليل الذي يملكونه في المواجهة مع اسرائيل، وهي مواجهة بدأت بدخول جيش التحرير الفلسطيني المنطقة سنة 1969 وليس سنة 1970 وبعد احداث الأردن، قادماً من طريق سورية عبر دير العشاير وينطا وراشيا الوادي. والاحتلال بعد 1982، هو الذي صنع الابطال الذين هزموه، فلولا اقامة "الشريط الأمني" ما برز حزب الله واشتد واستمر حتى دحر العدوان، في أول انتصار للعرب على اسرائيل منذ نصف قرن. واعترف اليوم بأنني عندما كنت اتنقل مع الأصدقاء في حقول الجنوب، من العباسية حتى شبعا، ومن مرجعيون الى المجيدية، وبمحاذاة الحدود الى رأس الناقورة، ما خطر ببالي اطلاقاً ان ينجب جيل الفلاحين المسالمين جيلاً من المقاتلين الاشداء الذين جادوا بالنفس، والجود بها أقصى غاية الجود.