نشأت في وادي الرافدين القديم، قبل آلاف السنين، بشهادة العلماء والباحثين والمنقبين، أولى الحضارات في العالم، ونمت وانتشرت منه الى سائر الأصقاع. ولعل الظروف المناخية التي سادت جو وادي الرافدين القديم كانت، اضافة الى العقلية الابتكارية الأصيلة، من الدوافع المهمة لقيامة هذه الحضارة. تطورت الزراعة والري والصناعة والتجارة ونظم الحكم والادارة وتقدم علم الحساب والهندسة وقياس الأطوال والزوايا والمساحات والأحجام والمكاييل ووحداتها، وتطور علم الفلك والتقاويم، وبلغ سكان تلك المنطقة من الشرق الأدنى القديم مراحل متقدمة في المعرفة الرياضية كهندسة الأحجام والمتواليات والمثلثات والساعات المائية لتعيين الوقت، وتقسيم الفصول والأشهر والأيام. طور الانسان في وادي الرافدين معلوماته الجغرافية الفلكية بصورة متزامنة مع مراحل تطوره في الميادين الأخرى المختلفة، وفي هذا السياق شكل الفلك أقدم وأهم وأغنى ريادة جغرافية كما جاءت به المدونات الفلكية. تمكن انسان وادي الرافدين القديم من جعل الشمس والقمر والنجوم دلائل ووسائل لحساب الأيام والشهور والفصول والسنين، كما تمكن من تحديد مسارات حركته بين الأماكن المختلفة، تلك الحركة التي سببت زيادة المعرفة الجغرافية. وبذلك يكون البابليون أول من طور علم الفلك الرياضي في تاريخ الفلك مما يدحض الآراء التي تقول إن التنجيم هو الذي طور الفلك والعكس هو الصحيح فإن التنجيم هو نتيجة ثانوية لعلم الفلك. حدد البابليون في الألف الثاني ق.م. الأسبوع بسبعة أيام واليوم ب24 ساعة، كما اعتبروا الشهر يتكون من اربعة اسابيع. وبذلك يكون البابليون استوعبوا الكثير من مظاهر السماء وتأثيراتها معتمدين في ما توصلوا اليه من نتائج الى براعتهم العلمية التجريبية ممثلة بالرصد ودقة الحسابات مما كان بحكم المجهول عند اليونانيين الذين كانت علومهم الفلكية نظرية بالدرجة الرئيسية. واستمر تطور علم الفلك حيث تمكنوا من تقسيم دائرة السماء أو دائرة الأبراج الى 12 قسماً بواسطة مجموعة من النجوم الثوابت، أطلقوا على كل مجموعة منها اسم حيوان وهذا ما يعرف بالابراج الاثني عشر وبالصيغة المعروفة في الوقت الحاضر وفي مختلف انحاء العالم مما يؤشر تأشيراً معرفياً بالغة الأهمية تطبيقياً. ان ما ساعد على تطور المعرفة الفلكية هو امتلاك البابليين لأرصاد تراقب النجوم وتحسب حركاتها. وتم نتيجة لذلك وضع جداول خاصة بحركات الشمس والقمر في اليوم والشهر والسنة طوروها باستمرار، كذلك فقد تم حساب مواقيت خسوف الشمس وكسوف القمر. وفي هذا المجال زاد اهتمام البابليين بالنجوم المتغيرة أكثر من الثوابت. ومن الكواكب التي عرفها البابليون عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل. وبخصوص طول السنة فقد قسم البابليون الدائرة الى 360 درجة والدرجة الى 60 دقيقة والدقيقة الى 60 ثانية والسنة الى 360 يوماً، وبذلك وضعوا النظام الستيني للعدد والحساب بالسنين وهو النظام الذي نشأت منه لاحقاً النظم الاثني عشرية. أما الكلديون، اي البابليون الجدد، فقد وضعوا السنة عند 365 يوماً و6 ساعات و15 دقيقة و41 ثانية وهو ما يقارب الى درجة كبيرة الطول الحقيقي للسنة وهو تطوير كبير لطولها عند البابليين القدماء والذين حاولوا مطابقة السنة القمرية بالسنة الفلكية الشمسية والنجمية وذلك من خلال ادراكهم لكبس السنين. وطور فلكيو العراق لاحقاً وللمرة الأولى في العالم الاسطرلاب البابلي الذي انتقل الى حضارات اخرى مما يفيد في وضع المعلومات الفلكية وفق ترتيب ونظام علمي كما هو مدون على ألواح الطين. وانعكست أهمية متغاير الزمن عند البابليين على اختراعهم الساعات المائية التي مكنتهم من قياسه ليلاً، الى جانب الساعات الشمسية مما انتقل الى امم أخرى وبذلك يكون البابليون مزجوا بين النظرية والتطبيق وتمكنوا بواسطة ما يمتلكونه من ثروة معرفية في مجال الجغرافية الفلكية من تحديد الاتجاهات الأربعة الرئيسية وتطوير الادارة والاقتصاد وقياس الزمن بوحداته، محتاطين لما يمكن أن يحدث خلاله. وأكثر من ذلك ربط سكان وادي الرافدين القدامى كما فعل الأشوريون بين الزمان والمكان حين دونوا قوائم بالأحداث في أجزاء بلادهم والبلدان المجاورة. تكلم سكان وادي الرافدين عن سطح الارض وما تحته بصيغة أو أخرى، مما يشكل بدايات مبكرة للجغرافيا الطبيعية وعلم الأرض، فهناك دلائل توضح ان مظاهر مثل الممرات والأودية والبحار كانت معروفة مما تستلزمه تنقلات الانسان في بيئته. جاء ذلك دليلاً على امتلاكهم قوة الملاحظة التي من خلالها تمكنوا من دراسة الطبيعة مسجلين أغنى المعلومات لأغراض المعرفة المجردة أحياناً والتطبيقية احياناً أخرى. ترك سكان وادي الرافدين، كما كشفت الوثائق، ثروة جغرافية تغطي البيئة المحلية والعالمية آنذاك، من جملتها: - قوائم بالأقاليم موضحة في الثبت الخاص بفتوحات الملك سرجون. - وثائق بتعليقات جغرافية وتفسيراتها. - وثائق لعلها أول أدلة للسفر. - وثائق خاصة بالأغراض الادارية. - وثائق غنية بمعلومات جغرافية توظف لخدمة اعمال موظفي الدولية في مختلف الأقاليم. - حدود المناطق البابلية بالنسبة للبلدان الأخرى والأرض والكون. - تمكنوا من تقسيم الأرض الى ما يمكن اعتباره اربعة اقاليم، وذلك بحسب القرب من بابل. - امتدت معرفتهم لتغطي الشرق الأدنى القديم بما فيه مصر. - كما تركوا قوائم بأسماء البلدان والجبال والأنهار والمدن وخطوط المواصلات. وظفت المعلومات الجغرافية لدى البابليين لتطوير التجارة بين وادي الرافدين وبلدان أخرى حيث استوعبت أهمية موقع وادي الرافدين بين البحر الأعلى المتوسط والبحر الأسفل الخليج العربي وفي الوقت نفسه يرتبط مع الأقاليم الغربية والشرقية بطرق برية، وعرفت خصوصية كل اقليم من ناحية امكان الانتاج الزراعي فيه. كما تمكن البابليون من فهم بيئتهم الطوبوغرافية والمناخية حيث عدم كفاية الامطار الى الحد الذي دفعهم الى تطوير مشاريع للري ما زالت آثارها شاخصة مثل مشروع النهروان الذي أسس قبل 4000 سنة. تمكن البابليون استناداً على الثروة المعرفية الجغرافية بما فيها الجغرافية الفلكية والرياضيات من انتاج خرائط جغرافية منقوشة على ألواح الطين متعددة الأغراض، وفي مقدمة تلك الأغراض انجاح عملية جمع الضرائب التي كانت هي الاخرى دافعاً لتطوير الخرائط. وان أقدم خريطة بابلية تعود الى عام 2500 ق.م. وهي المحفوظة في متحف الساميات في جامعة هارفرد الأميركية، وان بعدي تلك الخريطة 7×9 سم وقد بيّن عليها نهر متجه جنوباً ومحاط من جانبيه برموز تمثل مرتفعات. كما يظهر في الخريطة دلالات للجهات الأربع. الى تلك الخريطة توجد لوحات لخرائط تمثل الأقاليم والمدن البابلية في المتحف البريطاني. هذا الى جانب خريطة بابلية دقيقة أخرى لمدين ن÷ر السومرية تعود الى القرن السادس قبل الميلاد. يتضح من هذه الخريطة انهم اعتبروا مدينة بابل مركز العالم، كما يظهر فيها نهر الفرات نابعاً من الجبال متجهاً نحو الجنوب ماراً في طريقه ببابل ثم يصب في المستنقعات. ومن جملة عناصر الابداع في هذه الخريطة تحديد الاتجاهات في العالم مما أثر في عمل صنع الخرائط لاحقاً. لقد أظهر سكان وادي الرافدين القدماء استيعاباً متقدماً للظاهرة الحضرية ممثلة بالمدينة إذ أنهم اقاموا مدناً وفي أقاليم مختلفة وفي مواقع ومواضع مناسبة، وبصيغ تخطيطية وعمرانية منسجمة مع استعمالات الأرض التي تقدمها وكانوا على دراية مسبقة بالعوامل التي تقام المدن من أجلها وبمخططاتها واقاليمها التابعة، مما يمكن من الاستنتاج أن أصولاً مهمة لدراسة المدن قد وضعت في وادي الرافدين وبشكل مبتكر كررته حضارات اخرى. وتجاوز سكان وادي الرافدين بمعلوماتهم المدينية الى الاقاليم والى العلاقات بين المدن والاقاليم حيث توضح بعض الألواح، كما أشير الى ما يمكن أن يعتبر دليلاً للمسافرين يظهر المسافة بين مدينة وأخرى والزمن الذي ستستغرقه الرحلة الأمر الذي يعكس تطوراً كبيراً في التجارة. وبذلك عرفوا نظام المراحل بين المدن. كما طور البابليون هندسة متقدمة مقاسة بالمرحلة الحضارية التي ظهرت فيها، ومن معالم ذلك التقدم والتي ما زالت قائمة، هي شق السراديب والانفاق المتشعبة والمائلة الممتدة تحت الأرض مما يعكس معرفة الطبيعة البنيوية للصخور التي شقت فيها. ومن دلائل معرفتهم في علم الأرض هو جردهم للأحجار المختلفة وتصنيفها في قوائم خاصة. وتدل الوثائق العديدة المتعددة المتعلقة ببيع القرى والحقول والبيوت على أن لسكان وادي الرافدين معرفة رياضية متقدمة تمكنوا من خلالها تذليل صعوبات المسح ووضعوا ذلك لرسم مخططات مدنهم. تأثيرات جغرافية انها لحقيقة ملموسة الآن كما كانت سابقاً، وهي ان الاغريق والرومان قد اقتبسوا وتعلموا في أكثر من ميدان من ميادين المعرفة الجغرافية التي أبدعها وادي الرافدين زمن السومريين والبابليين وخصوصاً العلوم الفلكية والعمارة والتخطيط. يضاف الى ذلك تأثير المدرسة الجغرافية العراقية في المرحلتين اللاحقتين. ان من يستقرئ مقومات الحضارة الاغريقية التي تبلورت في الفترة من 1100 - 650 ق.م. يتضح له انها استقت من الحضارات التي نشأت في الشرق الأدنى القديم. ذلك ان وادي الرافدين طور علاقات مختلفة مع جزيرة كريت التي تكونت منها الحضارة المنية في الألف الثالث قبل الميلاد. وامتدت فترة ازدهار العلاقة مع كريت للفترة من 2000 - 1400 ق.م. ان ترتيب بنايات بعض القصور في كريت حيث وجود الساحة الوسطية يدل على انهم استقوا هذا العنصر العماري من وادي الرافدين وسورية ومصر. أخذ اليونانيون والرومان فكرة سكان وادي الرافدين التي تصور الأرض على انها مستديرة تأخذ صورة الجزيرة المحاطة بالمحيط من كل الجهات حيث تصور هوميروس العالم على هيئة قرص محاط بالمحيط العظيم. اعتبر سكان وادي الرافدين القدامى بابل مركزاً للعالم وانتقلت هذه الفكرة الى بلاد اليونان حيث اعتبروا جبل اولمبوس مركزاً للعالم وكذلك الرومان حيث اعتبروا روما مركزاً للعالم وذلك حتى القرن السادس عشر. استعار اليونان من سكان وادي الرافدين فكرة وضع خريطة معروفة في ملاطية ملتيوس المدينة اليونانية بآسيا الصغرى في الفترة 610 - 545 ق.م. ويضاف الى ذلك تأثر كتاب مارينوس الصوري الذي ترجم الى السريانية فالعربية وخرائط بالمعرفة الجغرافية الفينيقية المتأثرة بالفكر الجغرافي البابلي وبهذا تأثر بطليموس في مؤلفه الموسوم بجغرافيا وخصوصاً في اعتماده على مادة وجداول وخطوط الطول والعرض والخرائط. أما في مجال المعرفة الفلكية المرتبطة بالمعرفة الجغرافية الرياضية فلم يكن بمقدور الاغريق والرومان تطوير معلوماتهم الفلكية من دون استيعاب وفهم ارث وادي الرافدين والذي توزع على الكثير من الانجازات المتطورة. ورصد البابليون الكواكب والنجوم والقمر وحركاتها على مدار السنة بصورة دقيقة. وأعدوا جداول بذلك وقوائم بما عرفوه من كواكب ونجوم، وقدروا حجم كل من الشمس والقمر وبعديهما عن الأرض. كما استوعب البابليون ان اشعة الشمس وزوايا سقوطها على سطح الأرض هي العامل الرئيسي لتوزيع الحرارة ومن معالم تأثر اليونانيين بأساتذتهم البابليين هو الابقاء على ابراج النجوم اسماء لآلهتهم كما فعل البابليون. وبالنسبة للأرض اعتبروها مركز الكون الثابت كما اعتقدوا بكروية الأرض بصيغة أو أخرى. وبرز من فلكيي البابليين نابو ريماني الذي وضع جداول بحركات الشمس والقمر. وكدينو الذي وضع جداول لارصاداته وحدد دورة الشمس والقمر السنوية وبخطأ قدره ثانية واحدة لكل سنة فقط. أخذ اليونانيون بما توصل اليه علماء الفلك البابليون كما ان طاليس الفينيقي وأبو العلم كما لقبه اليونانيون المتأثرون به يعود الى عائلة فينيقية وهو متأثر الى حد بعيد بالمعرفة الفلكية البابلية وانه بتجاربه بين ان هناك نواميس وأسساً وقوانين ثابتة يخضع الكون لها مما شكل خط الانطلاق للبحث العلمي. أدخل طاليس، الذي توقع الكسوف قبل حصوله، الكومون، وهو اشارة الى ساعة شمسية لقياس الوقت بالظل الذي تسببه، ويقاس بواسطة الانتقال الشمسي والاعتدالين الذي اخذه الإغريق عن البابلييين.