يستمر معهد العالم العربي في إحياء تظاهرة جديدة لفن من الفنون العربية الأصيلة والمجهولة نسبياً، وهو الفن المسيحي المعروف باسم أصحابه: "القبطي". يملك هذا الفن إتصالاً راسخاً مع تقاليد الفن المصري القديم. وارتبطت هذه التسمية بالكلمة اليونانية "ايجبتو" التي تعني مصر في عهد العاصمة الفرعونية "ممفيس". يضمّ المعرض مئتين وثلاثين قطعة أثرية بالغة الأهمية، استعيرت من المتاحف وأصحاب المجموعات الفرنسية والمصرية وسواها. إنها محاولة لتغطية الفترة التي تمتد منذ بداية العهد الروماني وحتى نهاية القرن التاسع عشر، وسينقل المعرض الى متحف "ايفيب" الفرنسي بعد انتهائه. ترتبط أصالة الفن القبطي بامتداد جذوره في عمق الثقافة الفرعونية، ثم استمراره حتى اليوم، وتتناسخ خصائصه من تراكم التقاليد الرمزية والبصرية خلال ستة آلاف عام. ولعل أبلغ مخلّفات هذا اللقاح: الكتابة القبطية، فهي توليف بين الهيروغليفية أو بالتحديد الديموطيقية والاغريقية، وذلك قبل أن تحل محلها الكتابة العربية بالتدريج، وقد كتب الكثير من المخطوطات باللغتين: القبطية والعربية، وعلى الأخص مجاميع "السلالم" وهي نوع من القواميس اللغوية التي أنجزت في هدف الخوف على الكتابة القبطية من الاندثار. لم يقتصر استمرار الثقافة الفرعونية على الكتابة، فقد تجاوزتها الى ميراث الاشارات الميثولوجية. ولعل أبلغها تحول رمز "مفتاح الأبدية" الى "الصليب" بحيث تراشح رمز "عنخ" مع انتصار المسيح على الموت. واستمرت عادة تحنيط الموتى حتى نهاية القرن الرابع الميلادي، ثم اقتصر الأمر على التوابيت الخشبية المرسومة بالتقنية الفرعونية نفسها. ويشتمل المعرض على نموذج بليغ منها. وقد نعثر أحياناً على تراشح آخر ما بين هيئة أوزيريس والسيد المسيح. وقد تركت صورة الأبدية الفرعونية بصماتها على مفاهيم البعث والقيامة، ناهيك بأن دعوات أخناتون لم تكن بعيدة من التوحيد، إذ منحت هذه الميثولوجيا التصاوير القبطية أهلّة الشمس والقمر حول رؤوس القديسين، وذلك بعدما كانت تمثل حول رأس رع ورمسيس وآمون وغيرهم. يعكس التطور الفني وعورة التاريخ المسيحي للأقباط، فقد عانوا الاضطهاد الروماني أكثر من قرنين من الزمان، أي منذ تسرب المسيحية من فلسطين الى الاسكندرية مع القديس مرقس بالتحديد عام 940 وقد نكل به الرومان ثم قتلوه. وانتشرت المسيحية بالتدريج خصوصاً في القرن الثاني في واحة الفيوم، فارضة تقويمها لعيد الفصح وسواه على العالم المسيحي. وتمركز النشاط الفلسفي اللاهوتي في "مدرسة الاسكندرية" الشهيرة حوالى 180 م، ثم تشرد فلاسفتها بين ليبيا والأناضول بسبب حصارهم من الوثنية الرومانية. ولم يتوقف الاضطهاد إلا بعد أن أعلن الامبراطور قسطنطين المسيحية ديناً رسمياً عام 312 م. خلف الاضطهاد المستديم أنواعاً من الفنون، ارتبطت بالتنسّك والرهبنة والخروج من مدن وادي النيل الى الصحراء المتاخمة. وقد وصلت الأديرة حتى مشارف البحر الأحمر. أسس القديس انطونيوس تقاليد هذه الأديرة إذ اعتكف في أحد القبور القديمة، ثم باع أملاكه ومنحها للفقراء وفق تعاليم متّى، ورحل الى إحدى المغائر بالقرب من البحر الأحمر، وظل يتعبّد فيها عشرين عاماً، مثله مثل سمعان العمودي في شمال سورية. وتحلق حوله ستون راهباً، فألبسهم الرداء المتقشّف الذي سيصبح تقليداً في تأسيس أول دير مسيحي في القرن الثالث. تحولت هذه الأديرة مع الأيام الى متاحف روحية حية، قد يكون أبلغ أمثلتها دير القديس انطونيوس نفسه ودير بولوس في الصحراء الشرقية، ثم مدفن كرموز الاسكندراني ومدفن البكوات ثم دير وادي النطرون، ودير البحري بالقرب من الأقصر ودير السوريان. يقدم المعرض نماذج من فنون هذه الأديرة: ابتداء من فن القماش المتطور الى تصاوير الأيقونات والمخطوطات، وانتهاء بالنحت على الأحجار الكلسية، وصب البرونز ونحت العاج والخزف والفخار وصناعة الزجاج الخ... ولعل أبرز هذه الفنون تصاوير الوجوه وخصوصاً المعروفة باسم "بورتريهات الفيوم"، وهي صور شخصية للمتوفين تشبه تماثيل المدافن التدمرية، تنجز في تقنيات مائية أو شمعية على صفائح الخشب أو على القماش الملصق على الخشب. وقد تمثل أقنعة أو قلنسوات أو صداريات للتوابيت الملونة. وهي أثرت في الفن البيزنطي وليس العكس كما هو شائع. فالحكم البيزنطي مثل الفارسي لم يدم طويلاً، ابتدأ عام 629 م وانتهى مع الفتح الاسلامي عام 639 م. على عكس العلاقة العضوية بين أصول الفن القبطي وخصائص الفن العربي الاسلامي. ابتدأ الاحتكاك مع بداية الفتح وترحيب مصر عامة بطلائع عمر بن العاص في عهد عمر بن الخطاب، واستمرت تقاليد التسامح والتعايش على أساس اعتبارهم "أهل ذمة" توحيديين يدفعون الجزية مقابل الزكاة المفروضة على المسلمين. إن ترحاب الأقباط بالاسلام لا يرجع الى القرابة الحضارية فقط، وإنما أيضاً الى القرابة الروحية أو الثقافية، وكان اتسع الخلاف بينهم وبين الكنيسة في روما والقسطنطينية بسبب الحساسية التنزيهية. لم يتحمل الأقباط نظرية الطبيعة المزدوجة للمسيح ومريم أو بالأحرى الطبيعة المجسدة، فواجهوا من جديد الغطرسة الرومانية التي تعتمد في عقيدتها المسيحية على وحدة لباس الامبراطورية من الناحية الايديولوجية. ابتدأ الخلاف في محفل الفاتيكان عام 335، وأدى الى الانفصال في محفل عام 451، فنفي بطريرك الاسكندرية وأساقفته الى جزيرة معزولة في آسيا الوسطى، حيث توفي بعد سنوات قليلة. وهكذا عاد الاضطهاد الروماني، ولكن هذه المرة تحت راية المسيحية. عانت الفنون القبطية - على رغم قوة خصائصها وشخصيتها المتميزة - الاضطهاد نفسه. وابتدأ ذلك بعد فترة الاسكندر والفرض النسبي للمثال اليوناني، ثم التبعية التهجينية الرومانية. ونعثر في المعرض على تيجان الأعمدة التي اختلطت فيها ورقة الأكانتة الرومانية باللوتس المصرية، ولكن التأثير لم يتعد في قسريته القشور الأسلوبية، وظلت الشخصية القبطية أشدّ عناداً من الإدارة الثقافية العسكرية. لكن الأمر سيختلف مع ازدهار الفنون العربية والاسلامية، فقد تطور الأسلوبان بطريقة توأمية. ونعثر في رسوم المعرض على تقارب عجيب مع حساسية التصوير العباسي وعلى الأخص رسوم مقامات الحريري للمصوّر محمود بن سعيد الواسطي في القرن الثالث عشر. كما تذكّر أشكال الدمى الخشبية بمقصوصات مسرح الظل الذي كان يحرك عرائسه ابن دانييل في مصر. أما الحفر على العاج والخشب فيقترب بطريقة صريحة من حساسية نظائره في الفن الفاطمي خصوصاً المواضيع الموسيقية. ولعل ما تجدر ملاحظته أن تعاون المعهد مع متحف اللوفر لم يمر - على أهميته - من دون خسائر. فقد تسربت المواقف التعسفية لبعض ادارييه الى الطباعات التي لا تحمل رقابة المعهد. شهدنا في معرض "بورتريه الفيّوم" الذي أقامه متحف اللوفر العام الفائت مثل هذا التعسّف، وذلك ابتداء من العنوان: "مصر الرومانية"، وعوضاً عن البحث عن الخصائص الأسلوبية التي تمثل عنوان المعرض، استغرقت بعض الدراسات في تهجين هذه الخصائص، وذلك بالتشديد على اختلاطه بالعناصر الرومانية والبيزنطية، اليهودية أو المانوية. وهكذا غلب الجدل التاريخي القابل للأخذ والرد على المقارنة البصرية، وغاب عن المعرض أبرز جوانب الفن القبطي وهو "بورتريه الفيوم" من دون معرفة السبب. ووصلت بعض الكتابات الى التجول الاستشراقي بين الحساسيات المذهبية والطائفية، وذلك بوضع مجهر غير حيادي على علاقة الأقباط بالفاطميين الشيعة والأيوبيين السنّة، باعتبار الطرف الأول متسامحاً والثاني متعصباً. وذلك على رغم أن الخليفة الحاكم إصطدم مع الأقباط وأن الكثير من مستشاري صلاح الدين الأيوبي خلال مجابهته للصليبيين كانوا من الأقباط. وتجاهلت هذه الكتابات البعد العربي في الثقافة القبطية سواء قبل الاسلام أو بعده. كما تجاهلت العلاقة مع النساطرة واليعاقبة ومحافل أنطاكيا، فداميان بطريرك الاسكندرية في القرن السادس كان سورياً، وقد مر معنا أحد أهم الأديرة الذي يدعى "دير السريان". وتجاهلت كذلك دور الكتابة "السينائية" كواحد من مصادر أصول الكتابة العربية. دعوني أعرض نموذجاً من ركام التفاصيل غير الموضوعية التي حاولت تشويش واقع ارتباط الأقباط بالمحيط الاسلامي. فمن المعروف تاريخياً أن ابن طولون كان معجباً ب"مئذنة سامراء" العباطية، والتي كانت تدعى "الملوية" لأنها استلهمت نظامها الحلزوني من "زيقورات" بابل القريبة، وقد أمر عند بنائه جامعه أن تكون المئذنة على هذا المنوال، وعوضاً عن الإشارة الأمينة الى هذا التواصل المعماري الشمولي اقتصرت الإشارة الى أن المهندس القبطي ابن كاتب صمّم الجامع والمئذنة، ألم يكن من الأجدى دراسة العمائر المذهلة للأديرة الموزعة في مصر، خصوصاً على البحر الأحمر والصحراء الشرقية؟ أو بالأحرى امتحان وحدة الثقافة المصرية اليوم ما بين الطرفين المسلم والقبطي؟ من يستطيع بالنتيجة أن يفك تجربة حامد ندا الفنية عن تجربة آدم حنين على أساس التفرقة الطائفية؟ ومن يستطيع أن يفصّل العناصر الاسلامية عن المسيحية في تجربة "مدرسة واصف" المعروفة للسجاد المصري. لقد شهد الموقع نفسه في المعهد معرضاً لا ينسى لهذه المدرسة، وكان المعرض في منجاة من التعسّف الاستشراقي، الذي يحاول في كل مناسبة ضرب وصايته وتقسيم ما لا يقبل القسمة.